دريدا: العالم يحتاج إلى الفلسفة

ترجمة عربية للقائه الأخير مع جريدة «لوموند» الفرنسية

دريدا: العالم يحتاج إلى الفلسفة
TT

دريدا: العالم يحتاج إلى الفلسفة

دريدا: العالم يحتاج إلى الفلسفة

ما الذي يمكن أن يُثيره فيلسوفٌ باعثٌ على الجدل والاختلاف مثل جاك دريدا، أو ما يتركه من أسئلة لها حواف حادة؟ ففي كل ما انخرط فيه، وما تمرد عليه، أو ما شاكسه، كان دريدا شغوفاً بمواجهة الأفكار التي يصنعها الآخرون، هو يدرك أن هذه المواجهة هي جوهر رغبته العميقة في التغيير، وفي تنشيط دينامية التفكير، لكي يكون فاعلاً ومؤثراً مثل أي سلطة أخرى، لأنه يدرك أن كل ما في التاريخ، أو كل ما في الوجود، لا يتحرك إلا بدافع من سلطة ما، حيث دافعية سلطة الوعي، أو الحب، أو الكراهية، أو سلطة تقويض «اللوغوس» أو المركز، أو المنطق؛ فكلها تمثل واجهات لسلطة القوة والثروة والتاريخ.
العالم يحتاج إلى الفلسفة لكي «يتعلم التغيير»، هذا ما يقوله دريدا، ولكي يمارس التفكير بالتقويض والاختلاف، والشغف بالحرية، بوصفهما تصريحاً علنياً عن الحاجة إلى تلك الفلسفة، لأن فعل التغيير ليس بريئاً، فله لبوس سياسية وأخلاقية ومعرفية، وله تأثيره على إعادة هندسة العالم بعد فوضاه، وهذا ما يجعل الفلسفة ضرورية وحمائية، فضلاً عن دورها في تعليم الإنسان كيف يكون معرفياً في تفسير وتأويل الحرية والسعادة، ولكي يواجه - بالمقابل - الاستبداد والعنف والتوحش الرأسمالي، فهو مؤمن بأن الأفكار التي لا يمكن استعمالها في هذه المواجهة، يجب تلفها، أو وضعها في المتحف، وأن جرأته هي التي جعلته في حالة من «الاحتجاج الدائم»، وربما في حالة صاخبة من «التفكير الدائم».
«ميراث الغائب» هو الكتاب الذي صدر أخيراً عن دار «نينوى» (دمشق، 2018)، للباحث المترجم نصير فليح، وهو عبارة عن ترجمة للحوار الأخير الذي أجراه دريدا مع جريدة «لوموند» الفرنسية قبل رحيله بشهرين.
تضمن الكتاب فصلين، استقرأ فيهما الباحث أبرز الفلسفات المعاصرة التي واجهها دريدا في جدله وفي صراعه، وفي فلسفته التي لامست تابوهات المركز الميتافيزيقي للعقل الغربي، ولمهيمناته في السلطة والمقدس. في الفصل الأول، وضعنا الباحث في فضاء الحوار، وفي طبيعة ما حاول دريدا أن يطرحه من إجابات تتعلق بالموت والمعيش، ليس من وجهة نظر فلسفية فقط، بل عبر رؤية شمولية، أراد من خلالها أن يمارس نوعاً من الاعتراف حول «فن العيش»، وعن ضآلة كل الأشياء أمام هذه اللعبة الخطيرة التي لم يشأ أن يتعلمها، وأن إحساسه بالموت دفعه إلى سيكولوجيا التعلم، بقصد إبقاء لغته متوترة مثيرة، لأن التوتر شرط ضروري للتعلم والمعرفة، كما يقول.
التعريف بفلسفة دريدا وتحولاته هو الأمر الأكثر أهمية، فالرجل سريع التحول، وبعيد النظر في استقراء ما يمكن أن يتركه الثبات على الأفكار، وعلى الكينونات، وأن الغرب وفلسفاته وسلطاته، وحتى تاريخه، يتمحور حول وجود علاقة مزعومة بين الأنا والعالم، وأن حضورها سيكون موهوماً، أو أنه سيكون نوعاً من «ميتافيزيقا حضور»، كما يسميها، التي تحولت إلى خطوط في مواجهته لأطروحات وفلسفات ديكارت وهيدغر وليفناس وهيغل وماركس ونيشته، تلك التي لم تتخلص من مركزية اللوغوس الغربي، وأنويته الأوروبية المتعالية بشكلٍ خاصٍ.

- دريدا ومصطلحاته التقويضية
قدم الباحث في الفصل الثاني قراءة لمصطلحات دريدا في الترجمات العربية لكتبه، وهو موضوع ريبة وجدل دائمين، ولعل من أكثر هذه المصطلحات إثارة: «التقويض – التفكيك»، و«الاختلاف- الاختلاف المرجأ»، كما يقترحه المترجم. فدريدا في مقاربة هذه المصطلحات كسياقات للفهم والتفكير، ولإعادة قراءة التاريخ والمركز اللوغوسي، وضع نفسه في تقصٍّ إشكالي لأفكار نيتشه وهيدغر بشكلٍ خاصٍ، وفي جدل دائم مع فلاسفة معاصرين، لا سيما مع فوكو وإيغلتون ونعوم تشومسكي وهابرماس وآلان باديو، وغيرهم.
إن ما يُثير في هذه المصطلحات هو طابعها الإحالي، إذ إنها تمارس وظيفة التعرية المفهومية، مثلما أنها تدفعه لمواجهة كثير من الفساد في اللغة، وفي المعرفة، وحتى في العقل المؤسسي، وهذا ما يجعلها مصطلحات «مُهدِدة» للمركز التقليدي، وللمعنى التقليدي، وبما يجعل هذه المراكز تفقد قوتها، وتتحول طروحاتها إلى مقاربات، وإلى «مجرد تأويلات مستمرة لدلالات غير نهائية»، فضلاً عن أن هذه المصطلحات تُشكل الأساس في مجال قراءاته التقويضية لثنائيات اصطلاحية أخرى، مثل «الطبيعة والثقافة، والكتابة والكلام، والحضور والغياب، والعقل والجسد، والشكل والمعنى، وغيرها).
إن الترجمات العربية لقاموس دريدا تكشف عن الطابع الإشكالي لطروحاته الفكرية، ولتعقد كتاباته، ولطبيعة مواقفه الفلسفية إزاء قضايا تاريخية وسياسية وثقافية، تؤسس لنفسها تداولية استثنائية داخل النسق الذي كثيراً ما يتعرض للإزاحة، كما يقول المترجم، بسبب بحثه الدائم عن الحقيقة، أو بسبب ما يواجهه من نزعات عدمية، تستدعي بالضرورة فهماً ووعياً، وربما حساسية ما لمصطلحاته ولأفكاره، لا سيما مصطلح التقويض، كمقابل لمصطلحي التفكيك والتدمير الهيدغري.

- اعترافات دريدا
قد يكون الحوار الأخير لدريدا وجهاً آخر للاعتراف، فهو يفتح أفقاً لأفكاره، ويُزيح عنها كثيراً من الالتباسات، لا سيما أن المحرر الثقافي جان برنباوم في جريدة «لوموند» الفرنسية حاول أن يضعه أمام هذا الاعتراف، وكأنه يعرف أنه الخطوة الأخيرة له قبل الموت الذي يجتاحه.
في هذا اللقاء، قال دريدا صراحة: «أريد أن أتعلم العيش أخيراً، لكن هذا التعلم ليس بعيداً عن فكرة تقبل الموت، وعن الخروج من الفوضى، بما فيها فوضى العالم والسياسة والحقوق والنظام الدولي».
تعلم الموت هو مقابل لتعلم العيش، هذا ما يعترف به دريدا، إذ يقول: «جميعنا ناجون مُنحوا إنقاذاً مؤقتاً». وكأنه كان يراقب جسده المنخور، مثلما يراقب العالم العاصف، لذا «يتوجب العيش، فما زلت لم أتعلم، أو التقط أي شيء حول هذا الموضوع». ويعترف دريدا، في موقع آخر من الحوار، بأنه سعى دائماً إلى تعقيد فكرة نرجسية تعلم العيش، إذ يربط فكرة العيش بالإنقاذ، لا سيما الإنقاذ المعرفي، فهو «لن يفهم أن صحافياً ما لا يعرف كيفية قراءته، أو حتى قراءة عنوان الكتاب»، مثلما يكره أن يموت الإنسان بسبب الغباء، إذ لا مناص أمامه سوى أن يكتب، وأن يترك الأثر. لكن هذا الأثر، كما يقول: «لا أستطيع أن أجعله متاحاً لكائن من كان، لا أستطيع حتى أن أعنونه بطريقة فردية إلى شخص معين».
اعتراف دريدا بأنه بعيد عن الفهم، وأن هناك من لا يقرأه جيداً، قد يكون قاسياً، رغم أن مثل هذا القارئ سيظهر هنا أو هناك، كما يقول، ولعله من الوهم والقلق والخوف أن «تكون هناك فرصة لظهور كل هذا لاحقاً. لكن أيضاً من الجانب الآخر، وبالتالي بصورة متزامنة، لديّ شعور بأنه، بعد أسبوعين أو شهر من موتي، لن يبقى هناك شيء، لا شيء عدا ما تم حفظ حقوق طبعه وأُودع في المكتبات».
هذا الاعتراف هو ما يشبه الخذلان، الذي جعله يدرك أهمية تلازم تعلم الموت والحياة، والذهاب بالأفكار إلى النهاية، فعالم والأفكار، بما فيها أفكار القوة والمعرفة والسطوة والجسد والاستعمار والكوزمبوليتية، ستكون بعض ذلك الأثر القابل للنسيان أيضاً، الذي سيُحفظ في المتاحف والمكتبات.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

نوبات غضب الأطفال تكشف اضطراب فرط الحركة

من المهم مراقبة مسارات تطوّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال (جامعة واشنطن)
من المهم مراقبة مسارات تطوّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال (جامعة واشنطن)
TT

نوبات غضب الأطفال تكشف اضطراب فرط الحركة

من المهم مراقبة مسارات تطوّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال (جامعة واشنطن)
من المهم مراقبة مسارات تطوّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال (جامعة واشنطن)

كشفت دراسة بريطانية عن أنّ الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة الذين يواجهون صعوبة في التحكُّم بمشاعرهم وسلوكهم عبر نوبات غضب، قد يظهرون أعراضاً أكبر لاضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه عند بلوغهم سنّ السابعة.

وأشارت الدراسة التي قادتها جامعة أدنبره بالتعاون مع جامعتَي «نورثمبريا» و«أوكسفورد» إلى أهمية مراقبة تطوّر التنظيم العاطفي لدى الأطفال في مرحلة مبكرة من حياتهم، وفق النتائج المنشورة، الخميس، في دورية «Development and Psychopathology».

والتنظيم العاطفي لدى الأطفال هو القدرة على إدارة مشاعرهم بشكل مناسب، مثل التعبير الصحّي عن المشاعر والتحكُّم في الانفعالات القوية منها الغضب والحزن، ويساعدهم ذلك على التفاعل إيجابياً مع الآخرين والتكيُّف مع التحدّيات اليومية.

أمّا اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، فهو حالة تؤثّر في قدرة الفرد على التركيز والتحكُّم في الانفعالات والسلوكيات، ويتميّز بصعوبة في الانتباه، وفرط النشاط، والاندفاعية، ويظهر في الطفولة وقد يستمر إلى البلوغ، مع عوامل وراثية وبيئية وعقلية تسهم في حدوثه.

وأوضح الباحثون أنّ دراستهم الجديدة تُعدّ من أوائل البحوث التي تستكشف العلاقة بين أنماط تنظيم المشاعر في المراحل المبكرة من الطفولة والصحّة النفسية في مرحلة المدرسة. فقد حلّلوا بيانات نحو 19 ألف طفل وُلدوا بين عامي 2000 و2002. واستندت الدراسة إلى استبيانات ومقابلات مع أولياء الأمور لتقويم سلوكيات الأطفال الاجتماعية وقدرتهم على تنظيم مشاعرهم.

واستخدموا تقنيات إحصائية لفحص العلاقة بين مشكلات المشاعر والسلوك وأعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه عند سنّ السابعة.

وتوصل الباحثون إلى أنّ الأطفال الذين يُظهرون استجابات عاطفية شديدة ويتأخرون في تطوير القدرة على تنظيم مشاعرهم يكونون أكثر عرضة للإصابة بأعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه والمشكلات السلوكية والانطوائية، مثل القلق والحزن.

وأظهرت النتائج أنّ هذه العلاقة تنطبق على الجنسين، حتى بعد أخذ عوامل أخرى في الحسبان، مثل وجود مشكلات نفسية أو عصبية مسبقة.

وقالت الدكتورة آجا موراي، من كلية الفلسفة وعلم النفس وعلوم اللغة بجامعة أدنبره، والباحثة الرئيسية للدراسة: «تُكتَسب مهارات تنظيم المشاعر في سنّ مبكرة وتزداد قوة تدريجياً مع الوقت، لكنّ الأطفال يختلفون في سرعة اكتساب هذه المهارات، وقد يشير التأخُّر في هذا التطوّر إلى احتمال وجود مشكلات نفسية أو عصبية».

وأضافت عبر موقع الجامعة: «تشير نتائجنا إلى أنّ مراقبة مسارات تطوُّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال يمكن أن تساعد في تحديد مَن هم أكثر عرضة للمشكلات النفسية في المستقبل».

ويأمل الباحثون أن تُسهم هذه النتائج في تطوير برامج وقائية تستهدف الأطفال في المراحل المبكرة من حياتهم، لتقليل احتمالات تعرّضهم لمشكلات نفسية وسلوكية عند الكبر.