لم تقف العادات والتقاليد في وجه الشابة الفلسطينية نانا عاشور البالغة من العمر 18 عامًا، عندما قررت أن تصبح أول عازفة على آلة الدرامز في غزّة.
في "معهد سيد درويش" لتعليم الموسيقى الذي يقع على مقربة من مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزّة، تجتمع نانا مع مجموعة من الفتيات والشباب بضعة أيام في الأسبوع للتدرب على الآلات الموسيقية المختلفة، ولتجهيز المقطوعات والوصلات الفنية قبل تقديمها في حفلات وعروض.
حكايتها مع الإيقاع بدأت في سنٍ مبكرة، وكانت قطع أثاث البيت بمثابة "طبلة" لها. آنذاك لاحظ جدها اهتمامها الكبير بأصوات الطبول ومحاولاتها تقليدها، لذا أحضر لها "المسحراتي" إلى المنزل أكثر من مرة لتشاهده عن قرب وهو يضرب الطبل، وبعد فترة أهداها "طبلة" صغيرة، وهنا كانت بدايتها الحقيقية في عالم الإيقاع.
تقول نانا لـ "الشرق الأوسط" إنّها انتقلت للعيش مع عائلتها في مصر بعد عدوان عام 2008 على غّزة، وشكل لها ذلك نقلة نوعية في العزف، "فهناك الناس يعرفون الموسيقى أكثر ويحبون سماع آلات الإيقاع. وفي مصر أيضا كنت ضمن الفرقة الموسيقيّة المدرسية نعزف السلام الوطني المصري وألحان البداية والنهاية ونقرع طبول الكشافة، ونعزف في الرحلات الترفيهية".
وتوضح نانا أنّها حين عادت إلى غزة كانت شغوفة بالتجديد والتعلّم أكثر، وقررت الانتقال للعزف على آلات إيقاع أخرى، فاختارت الدرامز بداية، لكنّها واجهت مشكلة عدم وجود معهد أو مكان تتلقى فيه التدريبات.
ذات يوم كانت برفقة عائلتها تشاهد عرضا فنيا في أحد مطاعم غزة لفرقة "صول باند"، وكان "الدرامز" ضمن الآلات التي تستخدمها الفرقة، فأعجبت بطريقة العزف. وفور انتهاء العرض ذهبت إلى العازف فارس عنبر وطلبت منه تعليمها العزف على الآلة، وبدأت التدرّب في شباط (فبراير) 2017.
تضيف نانا: "لم يستغرق تعلّمي الكثير من الوقت لأنّ الأساس موجود لديّ منذ الصغر وهو موهبة داخلية كامنة، وأنا طورتها خلال السنوات، فأسبوع واحد كان كافيا لأن أجيد التعامل مع الآلة بشكلٍ ممتاز".
*الدعم ونظرة المجتمع
عائلة نانا كانت السند الأول لها، بدايةً من شراء الآلات وتوفيرها، والحرص على إلحاقها بالمعاهد الموسيقيّة للتعلّم وكذلك تشجيعها على المشاركة في الحفلات الخاصّة والعامّة، وتوفير كلّ السبل التي تحتاج إليها لتطوير موهبتها.
عن هذا تقول والدتها هلا أبو رمضان: "وجدنا في نانا طاقة كبيرة وطموحا عظيما، يمكن أن يُبنى عليه لتصبح شيئا ما في المستقبل، فدفعنا بها نحو تطوير ذاتها والاهتمام بها".
وتوضح أنّها أم لثلاث بنات تشجعهنّ دائما على تعلّم الفن والرياضة "لأنّ في ذلك ضبطا للنفس وتحفيزا لها وخروجا عن النمط الروتيني التقليدي للحياة في غزّة". ولفتت إلى أنّها تتفهم طبيعة المجتمع الغزّي المحافظ الذي يرفض بعض أعضائه في كثير من الأحيان ممارسة الفتيات حياتهن بصورة طبيعية بحجّة العادات والتقاليد، وتضيف: "نانا وغيرها من الفتيات يعملن بشكل غير مباشر على كسر تلك النظرة وتغييرها".
لم يتوقف شغف نانا عند الدرامز وحده، "فخلال وقت قصير تعلّمت العزف على آلات أخرى، من ضمنها البانجوز والكاخون والرقّ، وما ساعدني في ذلك هو التحاقي بمعهد سيد درويش لتعليم الموسيقى" الذي يقدم مجموعة من التدريبات الموسيقية للأطفال والشباب في المراحل المختلفة.
في منتصف عام 2017، قررت فرقة "صول باند" التي أصبحت نانا من أعضائها، تنظيم حفلة موسيقيّة عامّة في أحد المراكز الثقافية المحلية وكانت هذه المشاركة الأولى لها، وقتها حصلت إدارة الفرقة على كل الموافقات الحكومية اللازمة، إلّا أنّها فوجئت خلال تقديم العرض بدخول قوة أمنية ووقف الحفلة.
تقول: "شكّل لي ذلك صدمة كبيرة، وأثر على كل طموحاتي في مجال الموسيقى وكاد يقضي عليها في لحظةٍ ما". وتلفت إلى أنّ الموسيقيين في غزّة "يعانون كثيرًا خاصّة إذا كانوا إناثا، فنظرة المجتمع لا ترحم ولا الحكومة ترحم، والانتقادات كثيرة والصعوبات لا يمكن تخيلها".
*توازن وطموح
"الموسيقى تشكّل بابًا أهرب عبره من الضيق والتعب المحشو بتفاصيل الحياة في غزّة" تقول نانا، وتضيف: "آلة الدرامز بشكل خاص تساعدني في تفريغ كل طاقتي السلبية، وكذلك توفر لي جوا تحفيزيا لتطوير أفكار معينة لمستقبلي، إضافة إلى تخيل أخرى ورسمها بالصورة الإيجابية الصحيحة".
تعمل نانا التي بدأت هذا العام دراسة الإعلام في جامعة فلسطين، على الموازنة بين واجباتها العلمية والتزاماتها الأخرى، وعزفها على الآلات الموسيقية، موضحة أنّ اختيارها تخصص الإعلام هو تحقيقٌ لحلم طفولتها، فهي ترى في الإعلام أداة التغيير الأقوى في المجتمع.
مستقبلًا، تطمح نانا إلى إنشاء معهد خاص في غزّة لتعليم الفتيات الموسيقى، وتعميم فكرة العزف على آلات الإيقاع، وكذلك ترغب في المشاركة في الحفلات الخارجية بشكل واسع لتتمكن من تمثيل فلسطين في مختلف المحافل، إضافة لذلك ستسعى إلى السفر لإكمال دراساتها الموسيقية.
*من «مبادرة المراسل العربي»