جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

كاثوليكي أرستقراطي ثري وابن أحد رموز «عصر فليت ستريت الذهبي»

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب
TT

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

جاكوب ريس ـ موغ... النسخة البريطانية  لـ«جيل الشباب» الشعبوي اليميني في الغرب

مع أن جاكوب ريس - موغ لا يشغل حالياً أي منصب سياسي باستثناء شغله أحد مقاعد مجلس العموم البريطاني عن حزب المحافظين الحاكم، فإن كثيراً من المتابعين ينظرون إليه على أنه ظاهرة فعالة ومؤثرة في سياسات الحزب، وأحد أقوى زعماء التيار اليميني المتشدد داخل الحزب. وما يزيد في أهمية ريس - موغ أن جرأته في طرح مواقفه المحافظة المتشدّدة، لا سيما في شأن خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي وموضوع الهجرة، تضعه ضمن كوكبة من الساسة الأوروبيين الذين خدمتهم الشعبوية السياسية بالتوازي مع فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، ونجاح تياره السياسي في فرض مواقفه نفسها على الحزب الجمهوري. الجدير بالذكر أنه كان هناك انطباع في أميركا بأن «المؤسسة الحزبية» التقليدية للجمهوريين يستحيل أن تنقلب على نفسها، وتتبنى ترشيح ملياردير لم يسبق له انتخابه لأي منصب سياسي في البلاد. اليوم، ريس - موغ ينتمي إلى جيل جديد من الساسة اليمينيين الشعبويين، الذين يبرزون باطراد في عدد من دول أوروبا، كما حصل في النمسا وإيطاليا... وقبلهما في المجر، وربما في ألمانيا أيضاً في حال تمكن وزير الصحة ينس شبان من تحسين وضعه الحالي المتخلف في المنافسة المحتدمة على زعامة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وخلافة المستشارة أنجيلا ميركل.

العلاقة الجدلية بين بريطانيا وأسرة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً، وسياسات لندن على المسرح الدولي بصفة عامة، سلّطت الضوء خلال السنوات القليلة الماضية على وجوه سياسية راديكالية وطموحة.
هذه الوجوه برزت على حد سواءً في معسكري اليمين واليسار، ولكن إذا كان القيادي الراديكالي اليساري جيرمي كوربن - وهو أحد الأكبر سناً بينهم - قد نجح في الظفر بزعامة حزب العمال، فإن راديكاليي اليمين أخفقوا حتى الآن في انتزاع زعامة حزب المحافظين. وهذا، مع أنهم ما زالوا ناشطين في معركة نفوذ وتصفية حسابات يخوضونها ضد التيار المعتدل في الحزب الذي جاء منه كل من رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون و«خليفته» رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي.
الاستفتاء الخاص بخروج بريطانيا كان محطة حاسمة في تاريخ البلاد الحديث، وأسهم بصورة كبيرة في إعادة رسم ملامح المعادلات والمطالب وصراع الهويات والمصالح في البلاد. ومع أن كثيرين رأوا في الكاتب الصحافي ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون وزميله الكاتب الصحافي والوزير الحالي مايكل غوف «اللاعبين» الرئيسيين في معسكر اليمين المحافظ المتحمس للخروج من أوروبا، فإن جاكوب ريس - موغ كان الشخصية التي لا يستطيع أحد تجاهلها، على الرغم من مواقفها المثيرة للجدل حتى داخل هذا المعسكر.
على الأقل، كان هذا هو الانطباع قبل بضعة أسابيع. إلا أن ريس - موغ يبدو اليوم ظاهرة من العبث ألا يحسب حسابها، لا سيما مع تزايد تهديد اليمينيين الشعبويين المتشدّدين لهيمنة الأحزاب المحافظة والليبرالية التقليدية في الساحات السياسية في أوروبا خصوصاً، ناهيك بالقارة الأميركية حيث يحكم اليمينيون أكبر دولتين في «العالم الجديد»؛ الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل.

بطاقة هوية

ولد جاكوب ويليام ريس - موغ يوم 24 مايو (أيار) 1969 في حي همرسميث بغرب العاصمة البريطانية لندن. أبوه ويليام ريس - موغ رئيس تحرير صحيفة «التايمز» وعضو مجلس اللوردات لاحقاً، وهو من عائلة كاثوليكية ومعروفة بميولها السياسية المحافظة. أما أمه جيليان موريس، فهي ابنة سياسي محافظ سبق له أن كان عمدة حي سانت بانكراس بلندن. جاكوب، هو الابن الرابع للعائلة بين 5 أولاد (3 بنات وولدان)، ووحدها شقيقته أنونزياتا تصغره سناً.
العائلة كانت امتلكت منزلاً ريفياً بمقاطعة سومرست بجنوب غربي إنجلترا عام 1964، وكان جاكوب الصغير جزءاً من ذلك المجتمع الريفي المسيحي المحافظ، يواظب على حضور قداس الأحد. وبعد ذلك انتقلت إلى منزل أكبر في قرية قريبة، ما زال يقيم فيه، مقسماً وقته بينه وبين بيته اللندني. أنهى جاكوب تعليمه المتوسط والثانوي في كلية إيتون، إحدى أعرق مدارس بريطانيا والعالم، ثم التحق بجامعة أكسفورد (كلية ترينيتي) المرموقة حيث درس التاريخ، ونشط في تنظيم الطلبة المحافظين، فاختير رئيساً لرابطة حزب المحافظين في الجامعة. وبعد التخرّج من أكسفورد عام 1991، انطلق جاكوب نحو عالم المال والأعمال الذي كان قد أولع به في سن صغيرة عندما تعرف إلى قيمة المال والاستثمار لأول مرة في سن العاشرة. وكانت محطته الوظيفية الأولى العمل في بنك روتشيلد للاستثمار، ولكنه انتقل عام 1993 إلى شركة لويد جورج ماناجمنت للإدارة المالية في هونغ كونغ. وإبان عمله في هونغ كونغ التقى هناك بحاكمها السابق - قبل إعادتها إلى الصين - كريس باتن، وهو سياسي محافظ بارز سابقاً ونشأت بينهما صداقة. ثم في عام 2003، عاد إلى لندن للعمل في قسم الأسواق الناشئة في الشركة، وظل يعمل فيه حتى عام 2007 عندما انتقل مع بعض زملائه لتأسيس شركة إدارة مالية خاصة بهم أطلقوا عليها اسم سومرست كابيتال ماناجمنت. وراهناً تقدر ثروته الشخصية - مع زوجته - ما بين 50 و150 مليون جنيه إسترليني.

دخول عالم السياسة

في عام 1997 خطا جاكوب ريس - موغ، في سن السادسة العشرين، خطواته الأولى في عالم السياسة عندما رشّحه حزب المحافظين للمنافسة على مقعد في دائرة سنترال فايف، باسكوتلندا، وهي دائرة من الحصون المضمونة لحزب العمال. وكما كان متوقعاً سقط في تلك الانتخابات التي حقق فيها حزب العمال انتصاراً انتخابياً كاسحاً على مستوى البلاد كلها، وحمل زعيمه توني بلير إلى منصب رئاسة الحكومة... منهياً 18 سنة من حكم المحافظين بلا انقطاع.
وكانت المحاولة الثانية لدخول البرلمان في الانتخابات العامة التالية عام 2001، وهذه المرة رشحه حزبه في دائرة ذي ريكن، بغرب وسط إنجلترا قرب حدود ويلز، غير أنه خسر مجدداً أمام نائب الدائرة العمالي بيتر برادلي. لكن هذه الهزيمة لم تفت في عضده، بل نجح في أن يصبح بين عامي 2005 و2008 رئيس رابطة حزب المحافظين في لندن وويستمنستر.

عضوية البرلمان

وأخيراً، بعد المحاولتين الفاشلتين، ضمن ريس - موغ ترشيح حزبه له في دائرة مضمونة للمحافظين، بجانب كونها في مقاطعة سومرست حيث بيته الريفي. وبالفعل في عام 2010 خاض وربح معركة المقعد النيابي لدائرة شمال شرقي سومرست. واحتفظ بالمقعد في انتخابات عامي 2015 و2017.
آيديولوجياً. وكما سبقت الإشارة، يعتبر ريس - موغ في أقصى يمين حزب المحافظين، وهو عضو في جماعة «كورنرستون غروب» الحزبية ذات التوجهات التقليدية المتشددة قومياً واليمينية المحافظة اقتصادياً.
وهذا الموقع الآيديولوجي الصريح جعله أحد الساسة المحافظين الأكثر تمرداً على النهج التوافقي المعتدل لرئيس الوزراء المحافظ السابق ديفيد كاميرون، والأكثر إزعاجاً له. ولقد عارض حكومة كاميرون في عدد من سياساتها من زواج المثليين إلى التدخل العسكري في سوريا. كذلك عرف عنه إتقانه تعمد الإرباك وإضاعة الوقت بالخطب الطويلة والمداخلات اللجوجة، واللماحة والظريفة غالباً.
في موضوع خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي، كان ريس - موغ ليس فقط من كبار مؤيدي الخروج، بل والتحالف من أجل هذا الهدف مع «حزب استقلال المملكة المتحدة» الذي جعل مغادرة أوروبا محور وجوده.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن كاميرون كان من دعاة البقاء داخل أسرة الاتحاد، لكنه في ضوء ارتفاع شعبية «حزب استقلال المملكة المتحدة» في استطلاعات الرأي، وخشيته من التسبب بشق حزب المحافظين، تعهد بإجراء استفتاء شعبي على الخروج... مع أنه كان مضطراً لذلك. وكانت، النتيجة أن تيار الخروج ربح الجولة، فاستقال كاميرون، وورثت رئيسة الوزراء الحالية تيريزا ماي الأزمة بكل تعقيداتها وتداعياتها.
جاكوب ريس - موغ لم يكتفِ في ذلك الاستفتاء الذي أجري عام 2016 بأن شارك بحماسة وانتظام في الحملات الشعبية - رغم مظهره النخبوي وتصرفاته الأرستقراطية - في الشارع والميادين العامة، بل انضم لاحقاً إلى جماعة الضغط المتشددة التي أطلقت على نفسها اسم «الخروج يعني الخروج»، وأيضاً «المجموعة الأوروبية للأبحاث» المناصرة للخروج والمناوئة للتكامل الأوروبي.
وبما يخص ميوله القومية المتشددة، تشير الصحافة البريطانية إلى مناسبات كثيرة صدرت فيها عن ريس - موغ مواقف مثيرة للجدل، كما صدرت عنه تصريحات تدل على نمط تفكيره «الرجعي» الذي يقلق كثيرين من الليبراليين واليساريين، بل حتى المحافظين المعتدلين. ومنها، على سبيل المثال، أنه انتقد ديفيد كاميرون، عندما كان كاميرون زعيماً لحزب المحافظين، لأنه كان يسعى إلى زيادة لرفع نسبة الأقليات العرقية في قوائم ترشيحات الحزب للانتخابات، وكانت حجة ريس - موغ أن اعتماد حصة ثابتة للأقليات العرقية «سيعقد اختيار المرشحين الأكثر أهلية من الناحية الفكرية والثقافية»، وأن «95 في المائة من البريطانيين من البيض، ولا يجوز أن تختلف تركيبة قوائم المرشحين عن حقيقة نسيج البلاد ككل».
أيضاً في مايو 2013، شارك وألقى خطاباً في حفل العشاء السنوي لـ«مجموعة بريطانيا التقليدية» اليمينية المتطرفة التي تدعو إلى إعادة غير البيض من البريطانيين إلى بلدانهم الأصلية. واللافت أنه بعد ذلك العشاء، قال إنه على الرغم من تلقيه معلومات عن توجهات «المجموعة» وأفكارها قبل أن يشارك، فإنه شارك لكنه «ليس عضواً فيها وليس مؤيداً لها».

بعد استقالة كاميرون

نتيجة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي التي أدت إلى استقالة كاميرون، فتحت الباب على مصراعيه أمام التيار الحزبي المناوئ لأوروبا كي يستقوي بذريعة «الخيار الديمقراطي» لتسريع إنجاز الخروج. ولدى فتح باب التنافس لخلافة كاميرون على زعامة الحزب، وبالتالي، رئاسة الحكومة، أعلن جاكوب ريس - موغ في البداية تأييده ترشيح وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ولكن عندما اختار جونسون أن يعزف عن الترشح حوّل تأييده لمرشح آخر من معسكر «الخروج» هو مايكل غوف. ثم، عندما خرج غوف من حلبة المنافسة، أيد الوزيرة آندريا ليدسون (من المعسكر نفسه) وكانت المنافسة الأخيرة لتيريزا ماي، قبل أن تقرر بدورها الانسحاب أمام ماي.
غير أن صعود ريس - موغ داخلياً في بريطانيا، يستحق أن ينظر إليه في سياق آخر، يتصل بالمتغيرات الدولية.
وكلها حتى اللحظة تسير لمصلحة صعوده السياسي. إذ إنه يبرز بين المرشحين المستقبليين لزعامة حزب المحافظين في الفترة التي ترتفع فيها أسهم اليمين الشعبوي في أماكن كثيرة من أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة.
وحقاً، عرف عن جاكوب ريس - موغ أنه لفترة ما في عام 2016 كان مناصراً لدونالد ترمب، مع أنه حاول النأي عنه لاحقاً. ثم، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 التقى ستيف بانون، المخطط الاستراتيجي السابق في البيت الأبيض كي يبحث معه إمكانات التعاون بين جماعات اليمين في بريطانيا وأميركا وفرص نجاح تعاونها.
كل هذا، يوحي بأن ريس - موغ «مشروع زعيم» جديد لحزب المحافظين البريطاني، مع أن ترشحه، ومن ثم فوزه، بسبب عداوة خصومه له، قد يهدد وحدة الحزب... أو على الأقل رقعة جذبه المطلوبة لفوزه في الانتخابات، وتولي الحكم.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.