تحلَّقت مجموعة من طالبات القانون حول طاولة مستطيلة في برلين يستمعن لمحامين مخضرمين وخبراء يشرحون تفاصيل في القانون الدولي، ليتمكنَّ من تدوين شهادات ضحايا معترف بها في المحاكم الأوروبية والدولية تساعد في رفع قضايا جرائم حرب ضد النظام السوري.
المحاميات الشابات قادمات من سوريا، وهن بمعظمهن تخرجن حديثاً. ورغم أن عدداً كبيراً منهنَّ درس القانون الدولي في جامعات دمشق، فإن ما سمعنه في هذه الدورة التي استمرَّت أسبوعاً كاملاً، كان جديداً.
تقول دلال، التي لا يتجاوز عمرها 25 عاماً، وتخرجت في كلية القانون بجامعة دمشق عام 2015: «كنتُ طالبة دراسات عليا في جامعة دمشق، ولكننا لم نتعلم شيئاً عن المحكمة الجنائية الدولية ولا عن مبدأ الولاية القضائية العالمية».
هذا المبدأ هو الذي استند إليه محامون سوريون وأوروبيون في رفع قضايا ضد عناصر في النظام السوري في ألمانيا. فهو يسمح بمقاضاة مجرمين غير ألمان على جرائم ارتكبوها خارج ألمانيا. ويختلف تطبيق المبدأ بين دولة وأخرى، وتعتبر ألمانيا من الدول التي تطبقه بمعناه الأوسع.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، أصدر الادعاء الألماني مذكرة اعتقال بحق رئيس المخابرات الجوية في النظام السوري جميل حسن، ووجه له تهماً بتعذيب وقتل المئات من السوريين بين عامَيْ 2011 و2013. وما زال الادعاء ينظر بقضايا عدة ضد أفراد في النظام السوري، من بينهم بشار الأسد نفسه، لمسؤوليتهم عن تعذيب وقتل الآلاف.
ويأمل المحامون السوريون بمساعدة محامين أوروبيين برفع قضايا جديدة أمام دول أخرى تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل النمسا والسويد والنرويج. ولجأ المحامون إلى محاكم الدول الأوروبية بسبب عجزهم في إيصال ملفهم للجنائية الدولية، التي تتطلب إحالة من مجلس الأمن المعرقل من روسيا فيما يتعلق بالملف السوري.
والآن من خلال تدريب محامين وطلاب حقوق على تدوين شهادات ضحايا، يأمل «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، في برلين الذي يرأسه المحامي والناشط الحقوقي أنور البني، بتشكيل فريق قادر على تدوين شهادات ضحايا في أنحاء أوروبا ودول الجوار السوري، تبعاً لأصول القانون الدولي.
يقول البني إن الهدف من هذه العملية، رفع قضايا جديدة أمام المحاكم الأوروبية، ولكن أيضاً والأهم تخزينها، لاستخدامها لاحقاً في محاكم في سوريا بعد نهاية الحرب.
ويبدو المحامي الناشط الذي أمضى سنوات في الاعتقال في سجون النظام السوري قبل أن يغادر إلى ألمانيا، واثقاً من أن «يوم الحساب» سيأتي. ولكن السؤال بالنسبة إليه «متى وبأي ثمن؟». يقول: «لا يمكن بناء سوريا إلا بالعدالة. وإذا كنا سننتظر العودة إلى سوريا للبدء بجمع الأدلة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، فسيمر وقت طويل قبل حصول الكثير».
لا إضاعة للوقت
ويضيف البني عن الفريق الذي يتم تحضيره وتدريبه حالياً: «سيبدأ بتحضير الملفات، قسم سيبدأ بتحضير ملفات لرفع قضايا جديدة في أوروبا وقسم آخر سيحضر للمحاكمات في سوريا، ما يعني أنه لن يكون هناك الكثير من إضاعة الوقت قبل بدء الانتقال السياسي وتحقيق العدالة وبناء السلم الأهلي».
تفاؤل البني كبير بأن العدالة في سوريا ستتحقق يوماً ما، رغم أن التعاطي السياسي الدولي مع الأزمة السورية قد يكون محبطاً. ولكنه يرى أن وضع سوريا الجيوسياسي وتاريخها يعني أن المحاسبة يجب أن تحصل، وإلا «فإن العالم سيتغير، وهو بدأ يتغير أصلاً».
البني الذي يعمل على رفع القضايا في ألمانيا مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والقانونية، يعتبر أن لكل قضية تُرفَع في أوروبا هدف وليس مجرد رفع دعاوى. يقول: «لا نرفع قضايا لا يكون لديها تأثير على مستقبل سوريا، الهدف ملاحقة المجرمين، الذين وصلوا إلى أوروبا، وقطع الطريق على أي شخص يريد الفرار إلى أوروبا».
يسعى البني لنشر كتيب يتضمن مراجع للمحامين وطالبي القانون حول كيفية توثيق الملفات وتحضيرها بطريقة يمكن استخدامها لاحقاً. ويحرص خلال الدورات التي يعدها على تزويد المحامين الشباب بالعدة الكاملة.
يساعد طبيب في الأعصاب والطب النفسي المتدربين في هذه الدورة، على فهم العلاقة بين الطب والمحاماة. يقول الطبيب النمساوي توماس وينزل، إنه «من المهم التعاون بين الطب والقانون في توثيق أدلة، عند زيارة سجناء أو استجواب شهود». ويضيف: «هناك أسس دولية وطبية يجب أن تأخذ في عين الاعتبار لدى تسجيل شهادات ضحايا».
ساعد الدكتور وينزل في السابق فريق المحامين السوريين والأوروبيين في القضايا التي رفعت أمام القضاء الألماني، ويقول إنه خلال 30 عاماً من العمل في مجاله، فإن القضايا السورية المرفوعة التي يتم تحضيرها الآن، هي الأقوى، من ناحية الأدلة، من بين القضايا التي عمل عليها.
اختيار التركيز على تدريب محاميات فقط «كان هدفه تسهيل الوصول إلى مجموعة معينة من الضحايا». تقول المحامية جومانا سيف التي تعمل مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والقانونية، التي كانت مصممة مشروع التدريب.
وتضيف: «المحاميات يمكنهن أخذ شهادات من ناجيات تعرضن للاغتصاب والعنف الجنسي في المعتقل، وكونهن نساء فإن هذا يسهل أخذ الشهادات». وتشير سيف إلى أنه في الوقت الحالي، معظم الناشطين القانونيين الذين يساعدون على بناء القضايا هم من الذكور، والحاجة لتدريب محاميات على الانضمام للفريق كانت كبيرة.
عمل هؤلاء الحقوقيين السوريين يحظى أيضاً بإطار أممي أوسع. فدورات مثل هذه تدعمها منظمة العفو الدولية التي تصدر بدورها بيانات مستمرة معتمدة على شهادات موثقة من هذا الفريق تتعلق بالقتل والتعذيب في سوريا.
وعملهم أيضاً يلقى دعماً من «الآلية الدولية المحايدة المستقلة»، التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 2016، بهدف «المساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، وفق تصنيف القانون الدولي المرتكبة في سوريا منذ مارس (آذار) 2011»، بحسب تعريفها على موقعها الرسمي.
يقول ملحم منصور من منظمة العفو الدولية (أمنستي)، إن الحوار مع الناشطين السوريين ودعم عملهم مهم جداً بالنسبة للمنظمة، فهم من يوثق الجرائم لكي يتم استخدامها أدلة في المحاكم الدولية.
من بين المحاميات المتدربات الشابة سمر البردان التي لا يتجاوز عمرها 22 عاماً، وهي تدرس اليوم القانون في جامعة فيينا، وباتت في عامها الثاني بعد أن وصلت إلى النمسا لاجئة قبل 3 سنوات. تقول إن هذا التدريب مهم جداً، بالنسبة لها لأنه يتيح لها المجال لـ«فعل شيء من أجل سوريا»، حتى وإن غادرتها.