تعيش منطقة الساحل والصحراء وسط اضطرابات أمنية متزايدة؛ في الوقت الذي يؤكد كثير من الدراسات وتحليلات مراكز الأبحاث، أن حالة عدم الاستقرار الأمني بهذه المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد، لأسباب إثنية وسياسية وجغرافية مجالية. ويبدو أن تزايد خطر التنظيمات الإرهابية هو ما دفع القوى الدولية والإقليمية المهتمة بمكافحة الإرهاب إلى بذل مزيد من الجهود بالساحل الأفريقي بقصد الحد من التهديد الذي تمثله التنظيمات المتطرفة المتعددة المستوطنة بالساحل والصحراء.
عززت الولايات المتحدة الأميركية من وجودها العسكري في منطقة الصحراء الكبرى والساحل، بشمال غربي أفريقيا، وهي حالياً تقوم ببناء أكبر قاعدة عسكرية في تاريخها بالنيجر بحلول 2024. وفي الواقع، فإن واشنطن تبني قاعدتين لطائرات من دون طيار، ستستعملها القوات الأميركية في إدارة جميع المهام الجوية التي تندرج تحت إطار مكافحة «الإرهاب» بالساحل. وقد اختارت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بناء القاعدة الأولى في الشمال الغربي للنيجر؛ بينما تتمركز الأخرى، في الشمال الشرقي للبلاد. ويتوزع الإشراف على القاعدتين بين البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي آيه).
غير أن القاعدتين لهما هدف واحد، يتمثل في مواجهة الإرهابيين بدول الساحل، وغرب أفريقيا. وينظر الأميركيون بعيون استراتيجية لقاعدتهم بضواحي مدينة أغاديز، القريبة من أحد مفترقات الطرق الرئيسية في الصحراء، وتسمى هذه القاعدة «إيه بي 201». وتعتبر واشنطن أن موقع القاعدة العسكرية، يمكنها من الوصول إلى غرب أفريقيا ودول الساحل؛ ولذلك تعمل إدارة ترمب على جعلها أكبر قواعد القوات الجوية الأميركية في التاريخ المعاصر؛ ويتمركز فيها بشكل دائم 650 جندياً من القوات الخاصة، من أصل 800 موجودين بالنيجر.
وكانت واشنطن، قد حددت تمويلها الأول في حدود 50 مليون دولار؛ غير أنه اتضح أن عملية البناء تتطلب أموالاً طائلة، وقال الخبراء إن تكلفة التشييد ستفوق 280 مليون دولار بحلول سنة 2024، إضافة إلى أجور العاملين في القاعدة.
من جانب آخر، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، عن أن «سي آي آيه» بنت قاعدتها العسكرية الخاصة في منطقة ديركو القريبة من الحدود الليبية والتشادية، منذ شهر يناير (كانون الثاني) 2017. ويعتقد أن هذه القاعدة مخصصة للرصد وتحديد مواقع الجماعات الإرهابية، وتعقب حركتها في الصحراء الكبرى. ويبدو كذلك أن وجود نوع من هذه القوات بالمنطقة لا ينفصل عن السياسة الجديدة لإدارة الرئيس الحالي ترمب في مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل والصحراء.
ذلك أنه يوجد حالياً ما يقرب من 7500 من العسكريين الأميركيين بأفريقيا؛ بما في ذلك 1000 فرد متعهد بالعمل مع الجيش الأميركي، منتشرين في أفريقيا، علماً بأن سنة 2017 كان فيها عدد القوات الأميركية لا يتعدى 6000 جندي فقط.
بالنسبة لقاعدة أغاديز، فإنها ستستضيف طائرات MQ - 9 Reaper من دون طيار، التي سينطلق نشاطها عام 2019. ورغم أن القاعدة تعرف نشاطاً كبيراً، حيث استعملت منذ مارس (آذار) 2018 لمهاجمة مدينة أوباري الليبية؛ فإن دخول هذا النوع من الطائرات للعمل من شأنه أن يشكل منعطفاً في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية لما لطائرات MQ - 9 Reaper من خصائص، منها قدرتها على قطع مسافة 1150 ميلاً، في طريقها لجمع المعلومات الاستخباراتية.
وحسب أحدث تقرير حول الموضوع منشور من طرف «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية»؛ فإن الطائرة يمكن أن تحمل قنابل GB - 12 Paveway II. وتتميز بأن لها الرادار ذا الفتحة التركيبية لدمج ذخائر الهجوم المباشر المشترك GBU - 38. كما يمكنها استعمال أربعة صواريخ مضادة للأفراد من طراز هيلفاير. وبحسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» في دراسة أخيرة لها نشرت بموقعها على الإنترنيت يوم 31 أغسطس (آب) 2018؛ فإن السياسة الأميركية الجديدة لمحاربة الإرهاب بالساحل والصحراء، تديرها القيادة الأميركية الأفريقية (AFRICOM). وتعتمد برامج مراقبة من دون طيار، وشن غارات عبر الحدود، وجمع معلومات استخباراتية. من جهة أخرى، أعلنت «أفريكوم» مسؤوليتها عن التنمية والصحة العامة والتدريب المهني، والأمني والمهام الإنسانية الأخرى بالمنطقة.
ويشارك مسؤولون عدة من وزارات الخارجية، والأمن الوطني، والزراعة، والطاقة، والتجارة، والعدل، ومن بين وكالات أخرى، في أنشطة «أفريكوم» بالمنطقة. وهذا ما يفسر حسب «مؤسسة الثقافة الاستراتيجية» كون عدد الملحقين العسكريين الأميركيين الموجودين بسفاراتهم بأفريقيا، يتفوق على عدد الدبلوماسيين في الكثير من الدول الأفريقية.
- «بوكو حرام» في قلب المشهد
في هذا السياق، نشرت الباحثة كاثرين دوكرم دراسة لها يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، بالمدونة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان «نقل المعركة إلى بوكو حرام: صندوق الطوارئ الأمن العالمي يعزز قطاع الأمن في تشاد». تشير فيها، إلى وجه آخر من الجهود العملية المالية والأمنية، التي تحاول أميركا إنجازها على الأرض بمنطقة الساحل والصحراء.
حيث تعتمد على خطط «صندوق الطوارئ للأمن العالمي» الذي تديره بشكل مشترك، وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان. وبحسب كاثرين دوكرم، فالصندوق يهدف إلى مواجهة التحديات الواقعية لدول تشاد، والنيجر، ونيجيريا، والكامرون؛ من «خلال الجمع بين الدبلوماسية والدفاع لتقديم الدعم إلى مؤسسات الأمن وإنفاذ القانون في الدول الشريكة لمعالجة التحديات والفرص الناشئة التي نعتبرها مهمة للأمن القومي للولايات المتحدة ومصالح سياستنا الخارجية. وقد استثمر الصندوق بين عامي 2015 و2017، مبلغ 40 مليون دولار أميركي من خلال المؤسسة العامة للغذاء. صرفت على تدريب والتزويد بمعدات لقوات الأمن وحرس الحدود، وغيرها من منظمات قطاع الأمن في تشاد، والنيجر، ونيجيريا والكاميرون؛ لزيادة قدرة منظمات قطاع الأمن في حوض بحيرة تشاد على الاستجابة للتهديدات من المنظمات الإرهابية عبر الوطنية».
ورغم أن لمثل هذا البرنامج نتائج مهمة، وبخاصة على مستوى تعاون الدول لتأمين الحدود المشتركة؛ فإن ذلك لا ينفي أن التهديدات التي تمثلها «جماعة بوكو حرام»، وغيرها من المنظمات الإرهابية الناشطة بالساحل وفي بحيرة تشاد، تظل قائمة. غير أن الباحثة كاثرين دوكرم، تؤكد أن مشروع «صندوق الطوارئ للأمن العالمي»، ساعد دول منطقة بحيرة تشاد على تطوير استراتيجيات وطنية لأمن الحدود وزيادة العمل المشترك بين الوزارات والتعاون. وقام المشاركون في التدريب بوضع استراتيجيات وطنية لأمن الحدود ومشاركتها مع بلدان أخرى في المنطقة. كما تم تحسين نظام الاتصالات عبر الحدود؛ وتتبادل الدول المعنية الآن بشكل روتيني المعلومات مع موظفين من منظمات أمنية أخرى. سواء داخل تشاد أو مع بلدان أخرى، في منطقة بحيرة تشاد. وقد بدأت تلك الدول تبادل المعلومات الأمنية استخباراتياً في الوقت المناسب؛ مما قوى الجانب الأمني للمنطقة.
- عوامل محلية صراعية
ورغم كل هذه الجهود العسكرية والأمنية الأميركية، فإن هناك من يرى أن المعركة الدولية مع الظاهرة الإرهابية وتناسل تنظيماتها بالساحل والصحراء؛ يقتضي الرجوع إلى الأسباب المركزية للظاهرة، والمتمثلة في الصراعات الإثنية والسياسية والجغرافية المجالية.
الطابع المحلي لظاهرة الإرهاب يبقى أحد أهم مفاتيح فهم حركة التمرد المنعش للإرهاب المتمسح مسوح الدين. ذلك أن الظروف المحلية، ووجود القوات الأجنبية سواء الأميركية أو الفرنسية بالمنطقة، عاملان يعقدان من الوضع الحالي؛ على اعتبار أن التدخلات والقواعد الأجنبية، تحمل في طياتها استراتيجية لحماية المصالح الأجنبية بالمنطقة. وبينما ينظر إليها رسمياً، على أنها سياسة للقضاء على الأسباب الحقيقية للإرهاب، يواجه شعبياً بالمقاومة المسلحة. وهذا الوجود الأجنبي سواء كان مؤسساً، كما هو الحال بالنسبة لقوات «جيش الساحل» (ج 5)، أو القوات الخاصة الأميركية وقواعدها بالنيجر؛ ينظر إليه من طرف السكان المحليين بكونه سيطرة أجنبية على أراضيهم وثرواتهم.
في هذا السياق، تشير دراسة للباحث الأميركي بمعهد هدسون ومعهد المؤسسة الأميركية، تيم كوك؛ بمجلة «جور تاوان» للدراسات الأمنية نشرت يوم 7 أكتوبر 2018 بعنوان «جهاد جنوب الصحراء: الجذور المحلية للعنف العابر للحدود»، أن هناك عوامل محلية إثنية وسياسية وجغرافية مجالية، في غاية التعقيد يجب على الدول الكبرى المناهضة للإرهاب العمل على معالجتها. فرغم كون شعب الفلاني يشكل أكبر إثنية بمنطقة الساحل وتنتشر في معظم دوله، فإنه لا يزال مهضوم الحقوق ومهمشاً سياسياً واقتصادياً في عدد من كيانات المنطقة. ويؤكد تيم كوك، أن «منطقة الساحل نفسها انقلبت ضدهم مع تغير المناخ وأساليب إدارة الأراضي السيئة التي تحول أراضيهم العشبية إلى صحراء. واضطرت المجموعة إلى التعدي على الأراضي الزراعية؛ بحثاً عن المياه والأرض الصالحة للاستخدام من أجل الماشية. وقد أدت هذه التوغلات إلى نزاعات عنيفة بين المزارعين والرعاة الذين أدانوا الفولاني في جميع أنحاء المنطقة»؛ غير أن ظروف الجفاف وقسوة الطبيعة، تجعل من عملية التعايش السلمي، أمراً صعباً في الوقت الحالي.
ومن هنا يقترح الباحث الأميركي على مجموعة «ج 5»، «أن تنظر في التوترات العرقية القديمة والمخاوف البيئية التي تزكي النزاعات. يجب أن توفر الحلول المستدامة حلولاً واقعية لإدارة الأراضي، وأن تدمج الفجوات بين الفولاني والمجموعات الإثنية الأخرى. في حين أن الشراكات الأمنية الدولية كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار، يجب معالجة هذه التحديات على المستوى المحلي. إذا كانت التجارب الماضية هي أي درس، فإن بناء السلام في منطقة الساحل يتطلب الصبر والبراغماتية، والاستعداد لتقاسم السلطة بصورة عادلة. لقد بدأت للتو عملية استيعاب المخاوف الأساسية للفولاني، ومن المرجح أن تستمر لسنوات عدة صعبة.
وبكلمة، أن التوترات العرقية التي تواجهها المنطقة خلقت حالة من «الجهاد الفولاني»؛ وبخاصة مع تنامي الإحساس بأن تدخل الجيش المالي، كان يقف في العادة مع شعب البامبارا، وقام باعتقالات تعسفية وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الفولاني؛ مما أدى إلى تفاقم شعور الجماعة بالاغتراب والانخراط الجماعي في تنظيم إياد أغ غالي «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» التي أسست بداية 2017.
كما أن البامبارا، الذين يمثلون أكبر إثنية في مالي، شكلوا جماعات أهلية مسلحة لحماية مناطقهم وأفرادهم من عنف القوات المتعددة الأطراف، وكذا لتسوية النزاعات بين المزارعين والرعاة. وعليه؛ فإن زيادة هذه التوترات في غياب الحكامة، وضعف الجيش الوطني بمالي، كلها عوامل تجعل من هذه الدولة وعرقياتها المنتشرة بدول الجوار وقوداً للجماعات الإرهابية الرافعة شعارات الدين.
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس - المغرب