تشهد البرازيل، كبرى دول «العالم اللاتيني» خلال أيام انتخابات رئاسية استثنائية في أهميتها، وسط استقطاب كبير بين اليسار الاشتراكي والشعبوية اليمينية التي تتمدد في عموم العالم هذه الأيام، بما في ذلك كبرى الديمقراطيات العريقة. وفي حين يشكّل مرشح اليمين الشعبوي جاير بولسونارو «فرس رهان» اليمين، رشح حزب العمال، أقوى التنظيمات اليسارية في البرازيل والحزب الذي أعطى البلاد رئيستها السابقة ورئيسها الأسبق، رئيس بلدية ساو باولو السابق البروفسور فرناندو حدّاد... وهو أكاديمي وسياسي من أصل عربي لبناني.
في الثامن من شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل قد تستيقظ البرازيل على رئيس متحدّر من أصل لبناني يختلف عن متحدّر آخر من أصل لبناني، في خضمّ أخطر أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية تمرّ بها القوة العظمى الأولى في أميركا اللاتينية. إنه فرناندو حدّاد، المرشّح عن حزب العمّال اليساري الذي فاز في كل الانتخابات التي خاضها منذ عام 2002، غير أنه يواجه اليوم أزمة غير مسبوقة بعد عزل الرئيسة السابقة ديلما روسّيف وسجن الرئيس الأسبق لويس «لولا» دا سيلفا بتهم اختلاس الأموال العامة والفساد.
بطاقة هوية
وُلد فرناندو حدّاد عام 1963 في مدينة ساو باولو، كبرى مدن البرازيل و«عاصمتها الاقتصادية»، لوالدين لبنانيين؛ إذ تعود أصول عائلة الأب خليل ابن حبيب الحدّاد إلى بلدة عين عطا في قضاء راشيا بجنوب محافظة البقاع (جنوب شرقي لبنان)، بينما تنتمي الأم نورما تيريزا غصين إلى عائلة من مدينة زحلة عاصمة محافظة البقاع. وكان حبيب الحدّاد قد غادر لبنان إلى البرازيل عام 1947، ونشأ ابنه فرناندو في ساو باولو حيث تلقّى علومه الثانوية في مدارسها الرسمية، قبل أن يلتحق بجامعة ساو باولو، حيث نال شهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية. ومن ثم حصل منها على درجة الدكتوراه في الفلسفة عن أطروحة حول كارل ماركس حظيت باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية والفكرية؛ ما حدا بالجامعة إلى نشرها في كتاب صدرت منه حتى الآن 22 طبعة.
انضمّ فرناندو حدّاد إلى حزب العمّال خلال دراسته الجامعية عام 1983، وبدأ نشاطه المهني مستشاراً في معهد البحوث الاقتصادية التابع لكلية الاقتصاد في الجامعة. ثم عمل مديراً للتنمية الاقتصادية والشؤون المالية في بلدية ساو باولو ومستشاراً خاصاً لوزارة التخطيط والموازنة والإدارة. لكن «نجوميته» لم تظهر حتى عام 2000 عندما بدأ يدرّس العلوم السياسية في الجامعة، وإذ ذاك كان الطلاب يتهافتون على متابعة دروسه ومحاضراته في السياسة الحديثة حول مونتسكيو وماركس، وكان أولئك الذين يتعذّر عليهم الالتحاق رسمياً بصفوفه الدراسية يطلبون من إدارة الجامعة أن تسمح لهم بمتابعتها عبر البثّ التلفزيوني الداخلي المباشر.
تألقه السياسي... ومشكلاته
في عام 2005 تولّى حدّاد حقيبة وزارة التربية في حكومة لولا ثم في حكومة روسّيف حتى عام 2012 عندما قرّر الاستقالة ليترشّح لمنصب رئيس بلدية ساو باولو الذي فاز به في الجولة الثانية. خلال العام الأول من رئاسته لبلدية ساو باولو أظهر حدّاد قدرة عالية على تنظيم القطاع التعليمي وتحديثه، ومعالجة المشكلاته البيئية وتعزيز البحوث العلمية، إلا أنه ما لبث أن واجه أزمته الكبرى الأولى عندما اندلعت أعمال الشغب في المدينة إثر قرار رفع أسعار المواصلات العامة، وما عقبها من حملات القمع التي نفذتها قوات الشرطة العسكرية. ومع اتّساع دائرة الاحتجاجات الشعبية لتشمل كل أنحاء البلاد، تعرّض حدّاد لانتقادات شديدة بسبب عجزه عن فتح قنوات للحوار من أجل احتواء الغضب الشعبي الذي كان يعتمل، خصوصاً، في أوساط المؤيدين لحزب العمّال الذي ينتمي إليه. وعموماً، كان من المآخذ الأخرى على إدارة حدّاد شؤون بلدية ساو باولو - التي يتجاوز تعداد سكانها 13 مليون نسمة – قلة تجاوبه مع مطالب الطبقة الفقيرة التي تشكّل القاعدة السياسية والحاضنة الشعبية لحزبه، رغم أنه خصّص للطلاب الفقراء برنامجاً كبيرا للمنح الدراسية في البرازيل وخارجها. ولقد اعترف عندما هُزم في الانتخابات التالية لرئاسة البلدية عام 2016 بأنه فشل في شرح برنامجه وإيصال أفكاره إلى الناخبين وتسويق إنجازاته.
أزمة حزب العمال
في أي حال، وعلى الرغم من خسارة حدّاد رئاسة بلدية ساو باولو، لم تقف هذه النكسة عائقاً أمام صعوده إلى الصفوف الأمامية في الحزب الذي كانت تهتزّ ركائزه على وقع الفضائح المتعاقبة. وللعلم، كانت هذه الفضائح قد بلغت رئيسة الجمهورية ديلما روسّيف وأدّت إلى عزلها في تصويت البرلمان عام 2016، بعدما سقط معظم القياديين البارزين في الحزب، وضاق الحصار القضائي على «لولا» (لويس دا سيلفا)، الزعيم الذي لا منازع له، والرئيس الأسبق الذي كان يتأهب للعودة من السجن إلى الرئاسة.
بل عكس ذلك، هذه الظروف أعادت تسليط الأضواء على القيادي اليساري الشاب الذي كان من القلائل الذين لم تخسفهم شخصية «لولا» داخل حزب العمّال ونجوميته الواسعة. ثم إن حدّاد لم يتورّط في فضائح الفساد الذي كان ينخر دعائم الحزب، فضلاً عن كونه يتمتع بسمعة أكاديمية مرموقة يفتقدها قادة الحزب الذين ينتمي معظمهم إلى الحركة النقابية، وفي طليعتهم «لولا». ويضاف إلى ذلك كله أن حدّاد لم يكن طامحاً لدور البطولة، بل كان مكتفياً بمواصلة مساره السياسي من الصف الثاني.
وبالتالي، لعل الوجود في الصف الثاني، وفي الوقت المناسب... هو الذي فتح أمام حدّاد باب المنافسة على رئاسة الجمهورية التي يتولّاها حاليّاً ميشال تامر، المتحدّر هو أيضاً من أصل لبناني، والذي نجا – بدوره – من العزل بتهم الرشوة والفساد؛ لأنه يحظى بتأييد غالبية مجلس الشيوخ الذي يخشى معظم أعضائه المصير ذاته إن هم قرّروا عزله.
الرهان على لولا
بعد سقوط روسّيف وانتخاب نائبها تامر – الذي قاد المؤامرة الهادفة لعزلها – رئيساً للجمهورية، سُلّطت كل الأضواء كالعادة على «لولا» دا سيلفا الذي لم يكن يشكّ أحد، بين مؤيديه كما بين خصومه، في قدرته على العودة إلى الرئاسة في الانتخابات المقبلة. إلا أنه أخطأ في حساباته عندما راهن على شعبيته لمواجهة تهم الفساد والإفلات من الملاحقات القضائية، وقلّل من قدرة أعدائه على محاصرته وعزمهم على منعه من العودة إلى صدارة المعركة السياسية من أعماق السجن. وكانت «الرصاصة الأخيرة» في جعبة «لولا» التقرير الذي استصدره مؤيّدوه من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي يوصي بالسماح له بممارسة حقوقه مرشحاً لرئاسة الجمهورية. لكن المحكمة الانتخابية تجاهلت التقرير غير المُلزم، وأصدرت حكمها النهائي بإلغاء ترشيح «لولا» محذّرة الحزب من إلغاء ترشيح نائب الرئيس إذا لم يسحب «لولا» ترشيحه قبل المهلة المحددة.
تلك كانت الفرصة التي لا شك أنها لم تكن غائبة عن حسابات فرناندو حدّاد عندما تجاوب مع عرض «لولا» للترشّح نائباً له، يوم كان الرئيس الأسبق في انتظار القرار النهائي للمحكمة الدستورية في الطعن الذي قدّمه ضد الحكم الصادر بسجنه 12 سنة بتهمة اختلاس الأموال العامة. ويوم 11 سبتمبر (أيلول) الحالي أعلن حزب العمال انسحاب «لولا» من السباق الرئاسي وترشيح حدّاد الذي أصبح الأمل الوحيد المتبقي لاستعادة هيبة الحزب الذي سيطر على الحياة السياسية في البرازيل منذ أواسط تسعينات القرن الماضي.
مرشح الاضطرار
يعرف حدّاد، المحسوب على الجناح المعتدل في الحزب، أنه ليس المرشّح الذي كانت تحلم به قواعد الحزب الشعبية في مواجهة الجناح النقابي الراديكالي الذي يقوده «لولا». وهو يعرف أيضاً أن القواعد الشعبية الفقيرة التي تشكّل الخزّان الانتخابي الأساسي للحزب، تأخذ عليه ابتعاده عنها وميوله الاقتصادية المعتدلة. لكنه، في المقابل، يدرك أنه الوحيد القادر في الحزب على استعادة الأصوات التي استقطبها تامر عند انشقاقه، وتلك التي ابتعدت عن الحزب بسبب الفساد والفضائح.
طبعاً، لن يكون من السهل على حدّاد حشد التأييد العارم الذي يتمتع به «لولا» حتى بعد دخوله الأخير السجن؛ إذ كان يتقدم على منافسيه بفارق كبير في كل الاستطلاعات، ولقد وصل إلى 90 في المائة في نهاية ولايته الثانية. وليس محسوماً أيضاً وصول حدّاد إلى الجولة الثانية؛ إذ ينافسه اثنان من الوزراء السابقين في حكومة «لولا» بجانب المرشّح اليميني المتطرّف جاير بولسونارو الذي بات من شبه المؤكد وصوله إلى الجولة الثانية.
لكن المشهد الانتخابي ما زال يتغيّر باستمرار في هذا السباق المحموم الذي لم تشهد مثله البرازيل في تاريخها. فعندما أعلن الحزب ترشيح حدّاد منذ أسبوعين لم تكن نسبة التأييد له تتجاوز 9 في المائة حسب كل الاستطلاعات. وكانت هناك شكوك كبيرة في قدرة «لولا» على تجيير شعبيته له، أو حتى في رغبته دعم وصول نائبه إلى سدّة الرئاسة. لكن ما هي إلا أيام حتى ارتفعت شعبية حدّاد لتصل إلى 26 في المائة بعد أسبوعين فقط من إعلان ترشيحه، وهو ما يرجّح وصوله إلى الجولة الثانية لمواجهة بولسونارو الذي يواصل صعوده بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال خلال الحملة الانتخابية كادت تودي بحياته؛ إذ بلغت شعبيته 28 في المائة وفقاً لآخر الاستطلاعات.
الأمر الوحيد المؤكد في هذه الانتخابات هو أن أياً من المرشحين الرئيسين لن يكون قادراً على الفوز من الجولة الأولى، وأن الجولة الثانية ستكون صراعاً مستميتاً على كل صوت ومنافسة مفتوحة على كل الاحتمالات حتى اللحظات الأخيرة.
المرشّح اليميني والشعبوي المتطرف بولسونارو يواصل التصعيد في خطابه العنصري ويجاهر بحنينه إلى الديكتاتورية العسكرية، بل يلمّح في حال فوزه إلى احتمال القيام بانقلاب ذاتي يعيد العسكر إلى الحكم، جاعلاً الهاجس الأمني يتقدم على الهواجس المعيشية بعدما بلغ عدد ضحايا الجرائم والاغتيالات 60 ألف قتيل في العام الماضي. لكنه، في المقابل، سيواجه صعوبة كبيرة في توسيع دائرة تأييده بعد الجولة الأولى؛ إذ يفتقر إلى الدعم في مجلس النواب كونه لا ينتمي إلى أي كتلة برلمانية، ما قد يحول دون توصله إلى تحالفات مع أحزاب أخرى في الجولة الثانية.
أما حدّاد فإنه سيضطر إلى استخدام خِطابين متناقضين لضمان تجاوزه الجولة الأولى والفوز في الجولة الثانية. الأول لمخاطبة القاعدة الشعبية من الفقراء والأميين الذين لن يتزاحموا لمتابعة محاضراته في الجامعة، والذين تعوّدوا على خطاب «لولا» الذي يحاكي هواجسهم ويعرف كيف يحرّك مشاعرهم. والآخر لاستمالة أولئك المعتدلين الذين يتخوّفون من شطط المرشح اليميني المتطرف، لكنهم قد يؤيدونه أو يمتنعون عن التصويت بسبب رفضهم القاطع لسياسة «لولا» وأسلوبه...
إنه درسٌ في الماكيافيلية السياسية على «البروفسور» حدّاد أن يتقنه خلال أيام معدودة لكسب تأييد ملايين الناخبين الذين لم يحسموا موقفهم بعد، قبل أن يُكتب له الوصول إلى رئاسة الجمهورية البرازيلية.