سنوات السينما: Don‪’‬t Look Now

دونالد سذرلاند في «لا تنظر الآن»
دونالد سذرلاند في «لا تنظر الآن»
TT

سنوات السينما: Don‪’‬t Look Now

دونالد سذرلاند في «لا تنظر الآن»
دونالد سذرلاند في «لا تنظر الآن»

Don‪’‬t Look Now
(1973)
صراع بين عالمين وكابوس رجل

أمضى المخرج البريطاني نيكولاس روغ حياته ما بين سنة 1951 و1972 يقف وراء الكاميرا مصوّراً ثم مدير تصوير. في العام 1973 قرر أن ينبري لدور جديد فقام للمرّة الأولى بإخراج فيلم «أداء» (Performance) سنة 1970.‬
كان في السابعة والأربعين عندما حقق هذه النقلة (هو الآن في التسعين من العمر) والأفلام الأولى التي أنجزها كانت جميعاً لافتة. لكن «لا تنظر الآن» (ثالث أفلامه) لم يكن لافتاً فحسب بل متميزاً بجودة عمل شاملة وكان أيضاً فيلماً يفرز مواقف كابوسية مخيفة.
الفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتبة البوليسية دافني دو مورييه مع اختلاف وحيد أن الرواية لم تكن بوليسية أو جنائية كعادة ما قامت بكتابته، بل انتمت إلى النوع الذي يمس جوانب العلوم الغيبية والنفسية. هذه الجوانب ليست متوفرة هنا بالقدر ذاته. روغ تفاعل مع السيناريو الجيد الذي تم وضعه نقلاً عن أحداث الرواية بطريقة توعز بأنه أراد للفيلم أن ينتمي إليه وليس إلى كاتبته. في الوقت ذاته حرص على التشويق والغموض واستخدم تفعيلات هيتشكوكية لضبط عمله من دون أن يتخلى عن أسلوب بصري مختلف قوامه التركيز على الألوان (واللون الأحمر غالباً) والتصوير بمساحات وإضاءات مختلفة. أما الغيبيات والنواحي الفرويدية فوفرها فقط للاستفادة منها وليس لمعالجة الفيلم على أساسها.
البداية ذاتها موحية بأن العالم الذي يعيش فيه جون (دونالد سذرلاند) وزوجته لورا (جولي كريستي) ليس ثابتاً كما يبدو من الوهلة الأولى: جون في منزله يفحص بعض الصور الملتقطة وزوجته تقرأ في كتاب. أما ابنتهما الصغيرة فتغرق من دون علمهما في مسبح الحديقة. إنه عالم مأساوي بالطبع سوف لن يفيق منه الزوجان إلا قبيل وقوع انهيار كامل لحياتهما العاطفية والنفسية. إلى ذلك يضيف المخرج للمأساة صوراً أخرى. بينما تحاول الفتاة الصغيرة منع نفسها من الغرق، هناك أولاد آخرون في الحديقة مشغولون عنها. هذا عالم قد يقع فيه أي شيء في أي وقت وعلى نحو غير محسوب.
لإنقاذ نفسيهما من تبعات الحادث يقرر الزوجان القيام بزيارة إلى مدينة فنيسيا. كلاهما يبحث عن أن ينسى ويعيد ترتيب العلاقة ومحيطها. لكن فنيسيا، التي يرمز إليها البعض كعالم رومانسي فريد، ليست كذلك في هذا الفيلم. كتمهيد، وفي مشهد نراهما يجلسان في أحد المطاعم، يهمس جون لزوجته: «هاتان المرأتان الجالستان على بعد تحاولان تنويمي». هذه ليست سوى البداية لأن هاتين المرأتين تحاولان فعلاً النفاذ إلى ذلك العالم غير الثابت للزوجين لإرباكه والنيل منه.
هناك ما يوازي هذا المشهد فيما يثيره من توقعات: امرأة ثالثة (في مشهد منفصل) تقترب من لورا وتخبرها أن ابنتها سعيدة حيث انتقلت، لكنها تحذرها من أن هناك خطراً يحيط بزوجها الذي يستغل الوقت للإشراف على ترميم إحدى الكنائس القديمة بحكم عمله. لكن جون لا يؤمن بهذا التحذير. يريد أن يتخيل نفسه واقعياً. هذا يصوغ الأحداث لتبين أن المرأة (الزوجة) هي أكثر إدراكاً وانفتاحاً من الرجل (الزوج). وكيف، في مرحلة لاحقة، يدفع الزوج ثمناً كبيراً لتجاهله هذا الإنذار. لورا في أحد المشاهد تتبدى لزوجها في قارب غندول مع المرأتين الغامضتين. هو لا يعرف إذا ما كان ذلك كابوساً أو حقيقة.
في النتيجة فإن ما هو ماثل هنا عالمان وليس واحداً. الأول العالم الذي يعيشه جون ولورا والثاني عالم الغيبيات. يجعل روغ كلا العالمين المتناقضين متصل كما لو كان كل منهما يحاول السيطرة على الآخر. يفسر كل ذلك، أو يزيده تفسيراً، اتكال المخرج على اللون الأحمر الذي يرمز للحب وللعنف معاً. أما المرأتان اللتان كانتا تحاولان تنويم جون بقوى غيبية - مغناطيسية فهما مرتبطتان كذلك بسلسلة من الجرائم التي تقع في المدينة مع الإيحاء (بما أننا لا نرى المرأتين اللتين ترتديان معطفين أحمرين طوال الوقت تقومان بالقتل فعلاً) بأن جون قد يكون قد وقع تحت تأثير التنويم بحيث أصبح هو المنفذ.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.