معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

الاقتصاد التحدي الأكبر لرئيس وزراء السودان الجديد

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل
TT

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

معتز موسى...السياسي الإسلامي الخارج من الظل

قبل ساعات قليلة من الخطوة المفاجئة بتكليف معتز موسى بتشكيل الوزارة الجديدة في السودان، قال موسى إن أمامه 400 يوم عمل قبل موعد الانتخابات الرئاسية في 2020، يعمل خلالها بما سماه برنامج «صدمة» قصير الأجل، لمعالجة اختلالات الاقتصاد السوداني. والواقع أن الرجل القليل الكلام يتولى المسؤولية في بلد يعيش أوضاعاً اقتصادية مأزومة، إذ تجاوز معدل التضخم الـ60 في المائة، وتدهور سعر صرف الجنيه السوداني بشكل غير مسبوق، وسط ندرة في الوقود والسلع الرئيسية، وغلاء فاحش في الأسعار.
بمواجهة هذه الأزمات، فإن معتز موسى، وفق كثيرين، بحاجة لـ«عصا موسى لتلقف ثعابين وحبال السحرة» الذين سبقوه، فهل يفلح الرجل في الفترة القصيرة المتاحة بنهاية ولاية الرئيس عمر حسن البشير الحالية في 2020 في إعداد المسرح بأفعال تعيد التوازن لاقتصاد البلاد، بما يمهد الطريق له للحصول على دورة رئاسية «ثالثة»، يسعى حزبه من أجلها لتعديل الدستور، أم أن «الوقت انتهى»؟

كان الناس ينتظرون «وزارة موسى» ليتلمسوا الطريق إلى توجهات جديدة، لكن لدى الإعلان عنها، عشية الخميس، قال كثيرون «إنها شراب قديم في أباريق جديدة»، وإنها كانت «مجرد تنقلات» بين أفراد الطاقم الحاكم، وفقاً لتكهنات أطلقها مراقبون ومحللون تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» قبل ساعات من إعلان الوزارة الجديدة.
وعلى الرغم من تسنّم معتز موسى، وهو سياسي معروف بتوجهاته الإسلامية الصريحة، عدداً من المناصب عقب تخرجه في كلية الدراسات الاقتصادية بجامعة الخرطوم 1989، فإنه ظل قابعاً في الظل. لكنه لفت الأنظار أول مرة خلال برنامج حواري تلفزيوني على إحدى الفضائيات المصرية. وعن هذه الإطلالة اللافتة، قال الصحافي ضياء الدين بلال، في مقال: «لا يوجد مقطع فيديو احتفى به مناصرو الحكومة ومعارضوها، على السواء، مثل الاحتفاء بذلك المقطع من حوار لميس الحديدي مع معتز موسى، وهو يردُّ على أسئلتها الاستفزازية والاستدراجية بثباتٍ وثقةٍ قلما تجود بهما حوارات المسؤولين. قُوَّة حجَّة مُعتز ألجمت لميس، وأعجبت السودانيين في كُلِّ مكان، فتناقلوها عبر وسائط التواصل الاجتماعي على أجنحة الفخر».
بلال رأى - بحسب المقال - أن موسى يعد من أكثر الوزراء مقدرةً على التعبير عن سياسته، والدفاع عنها بمنطقٍ قوي ولسانٍ مُبين، وأردف أنه تلقى رسالة من إعلامي بارز خلال تلك الفترة، فحواها: «هذا الوزير جديرٌ بتقلُّد منصب رئيس الوزراء»، وهو سقف يلامس أحلام الكثيرين؛ أن يستخدم الرجل «عصا موسى» في مواجهة الأزمة.
بيد أن عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، صديق يوسف، يذهب إلى القطع بعدم قدرة النظام، وليس الرجل، على مواجهة الأزمة، سواء استخدم عصا موسى أو استعان بسحرة سليمان، ومن ثم استطرد قائلاً: «حل الحكومة، وإعادة تشكيل الوزارة، ليس حلاً لمشكلة السودان». ورأى يوسف أن التغيير في الطاقم الحاكم ليس نتيجة حاجة عملية، بل تعبير عن «صراعات داخل الحزب الحاكم، وتوازنات يعرفونها هم». وبالتالي، لا قيمة لاختيار شخص أو إعفاء آخر. وتابع شارحاً: «ما لم تتغير السياسات، فلن يحدث جديد، سواء كان رئيس الوزراء معتز موسى أو بكري حسن صالح»، مضيفاً: «ما حدث لا يعني الشعب السوداني في شيء، بل يعبر عن صراعات ومصالح مراكز النفوذ».
في المقابل، فإن أسامة توفيق، القيادي الإسلامي المنشق عن الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، الذي سبق له أن عايش معتز موسى في أثناء توليه وظيفة «قنصل» في سفارة السودان في بون، بألمانيا الاتحادية، وكذلك إبان الحرب في جنوب السودان، التي كان أحد قادتها الميدانيين، وكان موسى أحد مقاتليها، يقول عن موسى خلال تلك الفترة: «إنه رجل متدين للغاية، وكان مكتبه مفتوحاً للسودانيين. ولقد استغل وجوده هناك (في بون) في تأهيل نفسه، إذ تعلم اللغة الألمانية وأجادها، وحصل على درجة الماجستير في السياسة الدولية»، ويضيف: «كان يسكن شقة صغيرة لا تليق بقنصل، ولا بزوجته هالة بنت رجل الأعمال الإسلامي الشهير الطيب النص»، ويستطرد: «كان يركب سيارة قديمة من طراز (مرسيدس)، ثمنها في حدود 600 دولار، وأشهد له بالنظافة ورفض استغلال النفوذ».
ويوضح توفيق أن موسى نقل بواسطة أسامة عبد الله، وزير الكهرباء والسدود الأسبق المثير للجدل، إلى إدارة السدود، مضيفاً: «كان أحد أبناء أسامة عبد الله. وخلال عمله في السدود، كنا نلتقي في المناسبات». ومن ثم، تنبأ توفيق لرئيس الوزراء الجديد بالفشل في مهمته، رغم الميزات الشخصية التي رواها عنه بقوله: «كتبت تغريدة بأن معتز مؤهل ونظيف، فرض عليه تحكيم مباراة في السنترليغ، بدار الرياضة أم درمان، في يوم عاصف وممطر»، ثم تابع موضحاً: «أن تشتغل مع الرئيس عمر البشير، فأنت فاشل من البداية... كل شيء سيسلم له كروشتة طبيب عليه تنفيذها، بما في ذلك روشتة أسماء الوزراء»، واستطرد: «اختياره لم يأت لكونه مؤهلاً، بل لأن الرئيس فقد الثقة في المؤتمر الوطني، فأصبح يستعين بأقاربه... ولهذا، لا أتوقع له النجاح، ليس لضعف فيه، بل لأنه سيكون مكبلاً».

- بطاقة شخصية
ولد معتز موسى عبد الله سالم، وهذا هو الاسم الكامل لرئيس الوزراء الجديد، في منطقة صراصر، التابعة لمحلية الحصاحيصا، بولاية الجزيرة، في وسط السودان، عام 1967. وتجمعه صلة رحم بالرئيس عمر حسن البشير، كما أنهما يتحدّران من منطقة واحدة. وقد تخرج في كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم 1989، بدرجة بكالوريوس الإدارة والمحاسبة. وفي عام تخرجه، حدث انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، الذي جاء بالإسلاميين الذين ينتمي إليهم، وبالرئيس البشير، للحكم، وهو ما أتاح له التقلب في المناصب حتى عين رئيساً للوزارة، الأحد الماضي.
يقول زملاؤه في الجامعة إنه كان ملتزماً بوضوح بـ«الحركة الإسلامية» - التنظيم السياسي للإسلاميين السودانيين حينذاك - لكنه لم يكن يشارك في النشاط العلني و«أركان النقاش» التي كانت تعقد في الجامعة، أو العمل السياسي المباشر. وثمة مَن يقول إنه كان «رجل تنظيم»، بالإضافة إلى كونه طالباً جاداً ومجداً في التزامه الأكاديمي. ونقلت تقارير صحافية محلية أن موسى في تلك الفترة كان مواظباً على الوجود في «مسجد جامعة الخرطوم»، وهو مسجد عزيز على الإسلاميين السودانيين، ترعرع فيه نشاطهم الطلابي، بل والحزبي والسياسي، وكانوا يتوافدون للصلاة فيه من كل أنحاء الخرطوم، بمن في ذلك زعيمهم الراحل الدكتور حسن الترابي الذي كان يتردد عليه كثيراً.
وتوضح هذه التقارير أن موسى كان من كبار المعجبين بالترابي، لدرجة أنه كان يقلد طريقته في الحديث باللغتين العربية والإنجليزية، وأنه كان ملتزماً برياضة المشي التي كان يمارسها بصرامة، وفي الوقت نفسه كان يحتفظ بعلاقات جيدة مع زملائه الطلاب.

- حرب الجنوب
شارك موسى عقب تخرجه من الجامعة في الحرب الأهلية بجنوب السودان، ضمن كتائب «المجاهدين»، وخاض عدداً من المعارك. ووفق كلام أسامة توفيق: «التقيته هناك عندما كنت الآمر الفعلي للقوات التي كانت تقاتل في الجنوب». ولقد خسر موسى شقيقه أبا ذر في المعركة الشهيرة التي تعد من كبريات معارك الإسلاميين ضد التمرد الذي كانت تقوده «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الراحل جون قرنق، وهي معركة «الميل 40». وبعد ذلك، أتاح له تخرّجه بالتزامن مع انقلاب الإسلاميين التقلّب في الوظائف؛ ذلك أنه في أعقاب التخرّج مباشرة عمل في «المركز القومي للإنتاج الإعلامي»، وهو المكان الذي تولى صناعة الدعاية الحربية، أو ما اصطلح الإسلاميون على تسميته «الجهاد».
ثم بعد العمل في «المركز القومي للإنتاج الإعلامي»، التحق موسى بالسلك الدبلوماسي، بداية في رئاسة وزارة الخارجية (1992 - 1994)، بوظيفة سكرتير ثالث، ثم ابتُعث قنصلاً إلى سفارة السودان في بون، عاصمة جمهورية ألمانيا الاتحادية (1994 - 1998). وبعيد عودته من ألمانيا، استعان به وزير الكهرباء والسدود في حينه، أسامة عبد الله، وكان موسى أحد تلاميذه. وهناك، تنقل بين عدد من الإدارات، إلى أن تولى منصب مدير الإدارة العامة وتمويل المشروعات (1998 - 2013).
وفي عام 2013، كلف معتز موسى بحقيبة وزير الري والكهرباء، وهي الحقيبة الوزارية التي ظل محتفظاً بها حتى تعيينه رئيساً للوزارة. وتعتبر إدارة العملية التفاوضية على ملف النزاع الثلاثي على «سد النهضة» واحدة من أهم الملفات التي تولاها. ويرى خبراء متابعون أنه أسهم في تقريب الشقة بين المصريين والإثيوبيين، على الرغم من السخط المصري المعلن حول إدارة السودان لسد النهضة، باعتباره «مهادناً لإثيوبيا على حساب مصر».
غير أن مراقباً، طلب التكتم على اسمه، أفاد بأن موسى «كان يدير ملف التفاوض على سد النهضة من وجهة نظر التناقضات السياسية بين النظامين المصري والسوداني»، وأن إدارته للملف «كانت تستهدف الضغط على مصر للحصول على تنازلات، خصوصاً في النزاع على مثلث حلايب».
مناقب الرجل ومثالبه ظلت محل جدل بين مقرظ ومنتقد. وفي هذا، وصفه نائب رئيس الوزراء السابق مبارك المهدي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» قبل أشهر، بأنه من القلة النادرة التي كانت تدير ملفات وزاراتها بقدرات سياسية ومهارة تنفيذية عالية تؤهله لمنصبه. لكن مصدراً آخر قال للصحيفة: «إنه مطيع لرؤسائه، شديد على مرؤسيه، وهو سبب اختياره رئيساً للوزارة».

- منصب تشريفي
في أي حال، ومع تضارب الآراء بشأن شخص رئيس الوزراء السوداني الجديد، فإن رئيس تحرير صحيفة «التيار» المستقلة، عثمان ميرغني، بدا غير متفائل البتة، إذ قال لـ«الشرق الأوسط» معلقاً: «لا أعتقد أن بيد موسى ما يمكّنه من تغيير الأحوال، لأن منصب رئيس مجلس الوزراء منصب أقرب إلى المنصب التشريفي... ولا يعطي سلطات أصيلة لشاغله، والسلطة الأصيلة الوحيدة المتاحة له هي إدارة جلسات مجلس الوزراء»، وهذا باعتبار النظام الرئاسي السوداني يكرّس السلطة التنفيذية الفعلية بيد رئيس الجمهورية.
ووصف ميرغني الفترة المتبقية من عمر الدورة الرئاسية (400 يوم) بأنها قصيرة، تتخلها فترة الإعداد للانتخابات، التي ستكون فيها الحكومة شبه مشلولة، وهو ما لن يمكنه من تنفيذ أية برامج جديدة. لذلك، لن تتعدى هذه الفترة كونها فترة تكميلية للبرامج الموجودة. ويتابع: «والواقع أنه ليس هنالك برامج، بل هنالك أزمات! وفي مثل هذه الظروف، يصعب أن يكون هناك عمل يمكن أن يؤديه الرجل خلال هذه الفترة القصيرة».
ويشير ميرغني إلى «عوامل عرقلة إضافية» تواجه موسى، وتتمثل في ما سماه «الانشقاقات التي تجري بصمت أو بصخب داخل حزب المؤتمر الوطني، وحالة الاستقطاب داخله، بجانب القضايا الخارجية المحيطة بالسودان، التي تعتصره من زواياه جميعها، بما يشبه الحصار الاقتصادي إقليمياً ودولياً». ومن ثم، يقطع ميرغني بأن رئيس الوزراء الجديد «مهما كانت قدراته الشخصية، ومهما كان التعويل عليه، لا يملك سلطة أصيلة تمكنه من تنفيذ ما في ذهنه، لأنه محكوم بما هو موجود، والمطلوب منه تنفيذه فقط».
من جهة أخرى، ينقل المحلل السياسي محمد لطيف، مدير مؤسسة «طيبة برس»، عن موسى اعترافه بأن أمام وزارته جملة مهدِّدات سبق أن واجهت الوزارة السابقة، واعترافه أيضاً بهشاشة التشكيلة على أصعدة الإدارة والمتابعة والتقييم «ما جعل الناس تنظر للواقع بعدم ثقة، والمستقبل بشكوك كبيرة».
ويضيف لطيف، الذي تجمعه صلة مصاهرة بالرئيس البشير، وبالتالي رئيس الوزراء الجديد، أن معتز موسى أبلغه بأن المعالجة التي سيتبعها في إدارته للوزارة ستقوم على «تكريس مبدأ حسن الإدارة، وبوعي كامل ودراية بأي قضية من كل جوانبها، ووضع برنامج محدد الملامح والرؤى، وبإطار زمني للتنفيذ، وتوفير مقومات ومدخلات ذلك التنفيذ».
وختاماً، فإن السودانيين يأملون في أن ينتشل موسى النجاح من فك الصعاب، ويطعمهم المن والسلوى. إلا أنهم في المقابل يخشون أن يكون برنامج «علاج الصدمة» الذي أعلنه طامة كبرى جديدة تضاف إلى أزماتهم، ذلك أن تشكيل الوزارة التي أعلنت أخيراً، والطريقة التي أعلنت بها، دعمت الشكوك بأنه لن تقدم جديداً. وهذا ما ذكره محلل طلب إغفال اسمه، بقوله: «لو كنت مكانه، لتقدّمت على الفور باستقالتي. أظنها أمليت عليه لأن شخصاً غيره أعلنها، وليس من داخل مجلس الوزراء، بل من مباني الحزب الحاكم»!


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.