نسيم طالب من «البجعة السوداء» إلى «المخاطرة بالذات»

جديد المفكر المشاكس يركز على الجانب الأخلاقي في السلوك

نسيم طالب  -  غلاف الكتاب
نسيم طالب - غلاف الكتاب
TT

نسيم طالب من «البجعة السوداء» إلى «المخاطرة بالذات»

نسيم طالب  -  غلاف الكتاب
نسيم طالب - غلاف الكتاب

يمكن اعتبار الكتاب الجديد للاقتصادي والمفكر اللبناني الأميركي نسيم نقولا طالب «المخاطرة بالذات، تباينات مخبأة في الحياة اليومية»، الذي صار بالإمكان العودة إليه بالإنجليزية والفرنسية، بانتظار ترجمته إلى العربية، استكمالا لكتابين سابقين معروفين جدا له، أشهرهما «البجعة السوداء» الذي بيعت منه ملايين النسخ في أميركا وتحول إلى «بيست سيلر» وترجم إلى أكثر من 30 لغة، والثاني هو «مضاد للهشاشة» وترجم بدوره إلى لغات عدة. هذه الثلاثية هي حلقات متداخلة تتمحور حول إعادة النظر في نمط تفكيري وتحليلي سائد، يدفع بالناس إلى الركون، وكأنما وجدوا السبيل إلى الخلاص، لكن المفاجأة في كثير من الأحيان، أنهم يكتشفون خساراتهم متأخرين، لا لشيء إلا لأنهم ظنوا ما يعتقدونه يقيناً.
في كتابه «البجعة السوداء» يبدأ طالب من الحرب اللبنانية، فعندما انطلقت شرارتها الأولى ظن الجميع أنها ستنتهي في غضون شهور، لكن ما حدث كان مفاجئا وغير محسوب، فقد استمرت 17 عاماً، وهو ما لم يكن ينتظره أحد. كذلك يعطي مثلا آخر هي أحداث 11 سبتمبر (أيلول) التي بدت مذهلة لأنها وقعت في مكان وزمان باغتا الجميع. وما يعتقده الكاتب هو أن الذهول يأتي لا من غرابة الحدث، وإنما من سوء التقدير، فبرأيه أن هذين الحدثين الكبيرين مثلاً، لو تم التمعن فيما سبقهما من تاريخ جيداً، لأمكن توقعهما والتنبه. وعلى ذلك، يمكن قياس الحرب العالمية الأولى، أو حصول تسونامي، أو انتشار الإنترنت، حتى كثير من الأزمات المالية. والرجل الذي يعتبر اقتصاديا وخبيرا في الإحصاء وتحليل المخاطر، نبعت شهرة كتابه «البجعة السوداء» مما اعتبر في أميركا تنبؤا بأزمة الرهن العقاري التي عصفت بالعالم عام 2008، أي بعد عام فقط من صدور «البجعة السوداء» الذي يتحدث عن إمكانية الانهيار المالي.
نسيم طالب، اللبناني المولود في بلدة أميون الصغيرة في شمال لبنان، والذي مر بظروف صعبة أثناء الحرب الأهلية، ونال تعليما ممتازا في لبنان كما فرنسا وأميركا، شغوف بكشف عيوب التفكير، وعورات النمطي والمألوف الذي يستسلم له البشر في تحليلاتهم. وهو مشغول بحثّ الناس على إعادة النظر باليقينيات، معتبرا أن إدخال الصدف التي يمكن أن تحدث ضمن الحسابات والتوقعات، هو مما يقلل من المفاجآت.
ويعتقد طالب المقيم في أميركا، وبات كثيرون ينتظرون كتبه، لمتابعة تحليلاته المغايرة للمعهود، أننا نعيش في ظل نظام معقد للغاية، ما يجعل الحسابات بحاجة لأخذ تشعبات كثيرة في الاعتبار. لذلك فهو يرى أن التركيز على الجزئيات، يفقد المحلل بصيرته، والحاجة هي إلى رؤية بانورامية شاملة لأي مشكلة كي تكون التوقعات أكثر دقة والتصورات أقرب إلى الواقع. وفي رأيه أن لا شيء يستدعي الفشل أكثر من الثقة اليقينية بأننا نسير على الطريق الصحيح. وهذه الثقة هي واحدة من أهم أمراض النخبة المفكرة، من خبراء وسياسيين ومفكرين وأكاديميين وصحافيين وغيرهم.
وإذا كان كتاب نسيم طالب «مقاومة الهشاشة» الذي أتى ثانيا في الثلاثية، هو عبارة عن استكمال لـ«البجعة السوداء» مع كثير من الأمثلة حول كيف يمكن للمرء الاستفادة من العشوائية التي نعيشها، والتقلبات الحديثة التي باتت تداهمنا، فقد تمكن خلاله من كتابة فلسفة أكثر تبسيطا من الذي سبقه، ليصل في كتابه الصادر حديثا «المخاطرة بالذات» أو «الجِلد في اللعبة» إذا ما اعتمدنا حرفية العنوان، ليستكمله بالطريقة ذاتها التي تعتمد التجارب الشخصية التي مر بها والأحداث العامة التي نعرفها، ليتمكن طالب من تبسيط أفكاره التي ليست بسيطة دائماً.
وإن كان الكتاب الجديد يركز بشكل كبير هذه المرة على الجانب الأخلاقي في السلوك، فإن محوره الأساس هي فكرة مفادها «يحق للآخرين من مسؤولين سياسيين وخبراء ومحللين وقادة، أن يغامروا باتخاذ قرارات، فقط حين يكون الفشل سيعود عليهم كما غيرهم». أما ما يحدث الآن فإن أصحاب القرارات الذين يتسببون في كوارث في العالم هم آخر من يتحملون نتائج أفعالهم حين تخسر رهاناتهم. وبالتالي فإنهم قليلا ما يفكرون بعمق وبالقدر الكافي لما يتوجب عليهم فعله. ويحذر طالب في الكتاب من أولئك الذين يُسدون إليك النصح بأن تفعل كذا أو كذا، فيما هم أنفسهم ليسوا على استعداد لتطبيق هذه النصيحة على أنفسهم. ويرى أنك قبل أن تأكل من الطبق عليك أن ترى ما إذا كان مضيفك مستعدا للأكل منه، فإن كان لا يقوم بذلك فهذا معناه أن ثمة مشكلة ما في الطعام.
لا يبدو نسيم طالب وهو يشرح نظريته سعيدا بالنخبة التي تتولى زمام العالم. وهو يعتقد أنه لم يسبق في تاريخ البشرية أن اتخذت قرارات مصيرية بهذا الحجم، ومن نخبة بهذا العدد، جميعهم يتداولون أمورنا في غرف مبردة ومريحة، وهم يعرفون سلفا أنهم لا يغامرون بأنفسهم إذا ما خابت حساباتهم. فقرار الحرب يتخذ في غرف مغلقة، والقادة يديرونها وهم في مكاتبهم، بينما يموت الجنود الصغار الذين لا يملكون أي سلطة، فيما أصحاب الرتب لا يخسرون حياتهم ولا يصابون مهما كانت النتائج. وذات يوم كان من يتخذ قرار الحرب يخرج على رأس الجيش ويسير في مقدمة المقاتلين وهم يعرفون أنه أكثرهم تحملا للتبعات. يذكّر طالب قرّاءه بمسؤولي البنوك الذين جمعوا ملايين الدولارات، بسبب مداخليهم الباهظة في أميركا، وحين شارفت بنوكهم على الإفلاس عام 2008، جُل ما فعلوه هو التأسف على ما جرى، وكأنهم لم يرتكبوا أي حماقة يتوجب عليهم التعويض عنها.
لذلك، ينبه الكاتب إلى ضرورة عدم السماح لمن يُمنى بالفشل ولا يدفع الثمن مباشرة من جلده ولحمه أن يعاود الكَرة، لأن من لا تمسه الخسائر في العمق لن يتعلم الدرس أبدا وسيكرر أخطاءه.
الأفكار كثيرة، والأمثلة شيقة، ويحب الكاتب أن يعددها، وينوعها، كي يسهل مهمة الفهم على قارئه، ومما يحاول أن يشرحه هو أن المثقف أو المتعلم ليس بالضرورة ذكياً. بل على العكس، المتعلمون وأصحاب الشهادات هم الذين ارتكبوا الأخطاء الفادحة من أيام ستالين مرورا بحرب العراق وصولا إلى خداع الأنظمة الغذائية التي يُروج لها.
هذا الكاتب الذي يهوى نسف الأفكار السائدة يحذرنا من أنه لا ينبغي الركون إلى أن الأكثرية هي التي تفرض نفسها على الأقلية، معطيا مثلا أن المهاجرين المسلمين لا يأكلون لحما غير حلال، فيما من لا يتقيد بهذه القاعدة، يأكل أنواع اللحوم المذبوح منها وغير المذبوح، لذا ولتسهيل الأمر بات بعض الباعة يفضلون في كل الأحوال بيع اللحوم الحلال، باعتبار أنها ترضي كل الأذواق. وما لا نتنبه له أن الأقلية هنا هي التي كسبت الأرض.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».