محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

من رموز اهتمام الجيل الثاني في «الحرس الثوري» بالشؤون الجيوسياسية

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر
TT

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

محمد باقري... فتى الاستخبارات الإيرانية وسيط بين رئاسة الأركان ودبلوماسية العسكر

تدرج الجنرال محمد باقري بين مختلف مستويات أجهزة استخبارات «الحرس الثوري} الإيراني، وورث عن أخيه الأكبر الراحل المهنة والاسم الحركي المستعار، وجمع إلى خبرته أصول العلوم الجيوسياسية. ولكن رغم معارضة قادة الجيل الأول من «الحرس» فإن المرشد علي خامنئي سلّمه رئاسة أركان القوات المسلحة الإيرانية منذ عامين (يونيو/ حزيران 2016) ليبدأ فصلاً جديداً في تاريخ هيئة الأركان يؤشر إلى دخولها مجال الدبلوماسية العسكرية. وهذا دخول يربطه كثيرون بالأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، وأيضاً بتجربة باقري في رصد الحروب «غير المتكافئة» ومسار الميليشيات الطائفية المرتبطة بإيران ضد الولايات المتحدة، فضلا عن منافسة الحكومة الإيرانية في مجال السياسة الخارجية.

الاسم الحقيقي للجنرال (اللواء) محمد باقري (58 سنة)، مثل معظم حال الذين يعملون في الحقول الاستخباراتية، اسم آخر غير الذي يشتهر به، هو محمد حسين أفشردي. وهو الأخ الأصغر لحسن باقري لقائمقام قيادة «الحرس الثوري» الذي قتل في سن الـ26 في1983 إبان الحرب الإيرانية العراقية.
الأخ الأكبر تولى منصب القائمقام - قبل بلوغه الـ25 - بعد سنوات من العمل الاستخباراتي وتأسيس القواعد الأولى لوحدات استخبارات «الحرس الثوري». ولقد أملت عليه ظروف العمل الاستخباراتي أن يحمل اسماً آخر، هو «محمد باقري» الذي أطلقه عليه محسن رضايي، قائد «الحرس» حينذاك وأمين عام «مجلس تشخيص مصلحة النظام» حالياً. واليوم يُعرف الأخ الأصغر بهذا الاسم وللأسباب نفسها.

- بداية الصعود الأمني
في سن الـ19 التحق الجنرال باقري - المولود في أقصى شمال غربي إيران - بـ«الحرس الثوري» وبسعي من أخيه الأكبر دخل الجناح الاستخباراتي وحصل بعد مضي 36 سنة على رتبة لواء ركن (جنرال) من المرشد علي خامنئي ليصار إلى تعيينه في منصب رئيس هيئة الأركان. وكان هذا حدثاً، حسب مصادر متعددة، أثار غضب بعض قادة «الحرس» القدامى، مثل غلام علي رشيد وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي»). ذلك أن القادة الغاضبين بوصفهم «آباء الحرس» كانوا يتوقعون أن يختار المرشد واحدا من عناصر الجيل الأول لرئاسة هيئة الأركان المسلحة، وليس شاباً من الجيل الثاني... لم يعترف به - عملياً - الجيل الأول، ولم يوجه له دعوة لحضور الاجتماع الأسبوعي المعروف بـ«اجتماع الأربعاء» لكبار قادة الحرس في مكتب محسن رضايي.
غير أن باقري ينوب الآن عن المرشد في قيادة القوات المسلحة، بدلاً من اللواء حسن فيروزآبادي، وهو الشخص الذي حصل على رتبة عسكرية في بداية وصول خامنئي إلى منصب المرشد وترأس الأركان لفترة 28 سنة من دون أن تكون له سابقة ضمن القوات العسكرية التقليدية.
الجنرال باقري درس الجغرافيا السياسية في الجامعة، ووفق سيرته الذاتية المختصرة حصل على الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة الدفاع الوطني العليا في العاصمة الإيرانية طهران. وشأنه شأن كثيرين من قادة «الحرس الثوري» أصبح أستاذا في الجامعة حيث درّس المجال التخصصي نفسه. وهو يعد إلى جانب اللواء رحيم صفوي، قائد «الحرس» السابق من مؤسسي «الرابطة الجيوسياسية الإيرانية»؛ وهذا من المؤشرات التي تظهر إعجاب «جنرال» الجيل الثاني في «الحرس» بالقضايا الجيوسياسية - أي رسم الخرائط الإقليمية -، طبعاً، إلى جانب انشغاله بالعمل الاستخباراتي.
وعلى امتداد 35 سنة تدرج الجنرال باقري في مناصب مثل «مسؤول استخبارات الفيالق» في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، و«قائد استخبارات عمليات القوات البرية في الحرس الثوري» و«رئيس دائرة استخبارات هيئة الأركان المسلحة»، ثم أسند إليه منصب «مساعد الاستخبارات والعلميات في هيئة الأركان». وكل هذه مسؤوليات تعكس حجم الخبرة الاستخباراتية في سجله.

- الحكومة مستاءة
بعد مرور سنة، بالتحديد، وفي تطور يحمل في طياته الكثير من الدلالات، اختار الرئيس الإيراني حسن روحاني جنرالاً من جنرالات الجيش لمنصب وزير الدفاع، وبذا خرجت وزارة الدفاع بعد ما يقارب ثلاثة عقود من تحت عباءة «الحرس».
الوزارة كانت منذ 1992 وحتى قبل سنة خلت، بيد جنرالات «الحرس الثوري»، إذ تعاقب على منصب الوزير كل من محمد فروزنده (رئيس «منظمة جرحى الحرب الاقتصادية القابضة» لاحقاً) وعلي شمخاني (أمين عام «مجلس الأمن القومي» حالياً) ومصطفى نجار (أصبح لاحقاً وزيرا للداخلية) وأحمد وحيدي (عضو اللجنة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية لاحقاً) وحسين دهقان (مستشار المرشد الإيراني في الشؤون الدفاعية وهو ومرشح محتمل للرئاسة بعد روحاني).
وبعد تداول الحديث عن الاستياء العام بين قادة الجيش الإيراني، وفي خطوة اعتبرتها الصحف الإصلاحية «رد اعتبار» لقادة الجيش، اختار روحاني في حكومته الثانية، أمير حاتمي لحقيبة وزارة الدفاع، وكان حاتمي – بالمناسبة – يشغل منصب نائب رئيس الأركان. وكانت المحاولة وفق تحليل لوكالة تابعة لـ«الحرس» محاولة من روحاني «لحفظ التوازن» في مناصب قادة القوات المسلحة، إلا أن جهات مستقلة فسّرت خطوة روحاني على أنها محاولة من النظام لكسب ود قادة الجيش ضد منافس قوي اسمه «الحرس الثوري».
وفي مرحلة لاحقة اتخذ الرئيس روحاني خطوة أبعد في هذه اللعبة، ليبرهن أن لديه موقفاً من الرئيس الجديد للأركان المشتركة... ولا يتناغم معه كثيرا. وللعلم، في البنية الإدارية الجديدة للقطاع العسكري الإيراني، تعد هيئة الأركان المسلحة، هيئة عليا تشرف على أنشطة الجيش و«الحرس الثوري» وقوات الشرطة، فضلا عن وزارة الدفاع. وفي خطوة لافتة أقرّ روحاني هذا العام تقليص ميزانية هيئة الأركان إلى النصف من 30 ألف مليار ريال إلى 16 مليار ريال، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتفوق فيها ميزانية وزارة الدفاع على ميزانية رئاسة الأركان.
بالتالي، اعتبرت الخطوة «مواجهة» لرئيس أركان يحمل ضمن سجله مواقف معارضة لرؤساء الجمهورية... منها رسالته عام 1999 إلى رئيس الحكومة (آنذاك) محمد خاتمي يهدده فيها أنه في حال لم يتدخل لإخماد حراك الطلاب «الإصلاحيين» واحتجاجاتهم، فإن «الحرس الثوري» سيتدخل بطريقته الخاصة.
ولكن من بين أبرز علامات المواجهة، راهناً، بين الرئيس ورئيس الأركان، مزايدة الجنرال الشاب وظله الثقيل على صلاحيات الحكومة وتجاهله اتجاهات روحاني، سواءً على الصعيد الدفاعي أو السياسة الخارجية.

- دبلوماسية العسكر
لقد أظهر محمد باقري، تحديداً، منذ أول أيام تعيينه، أنه يريد أداء دور مختلف عن دور سلفه فيروزآبادي، على صعيد العلاقات الدولية. يريد دوراً ينسجم مع آراء رئيس الأركان الجديد ويتفق مع أسس رؤيته الجيوسياسية. وفي هذا الإطار، زار باقري تركيا في أغسطس (آب) الماضي وأجرى مفاوضات مع وزير الدفاع التركي ورئيس هيئة الأركان المسلحة خلوصي أكار. وبعد ذلك توجه إلى كل روسيا وباكستان وسوريا، في خطوة يمكن أن تظهر لنا اهتمام «الحرس» بتوظيف صلاحيات رئيس الأركان كأداة دبلوماسية. أي كأداة يمكن أن تؤثر على مستقبل «الحرس» في الملف السوري. كذلك استضافت إيران خلال أقل من سنة رؤساء أركان كل من تركيا وروسيا وبوليفيا وباكستان والعراق. وكان جدول أعمال باقري أكثر ازدحاماً من جدول وزير الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف، ما دفع المراقبين إلى الحديث عن بداية فترة «دبلوماسية العسكر» في إيران.
غير أن ذروة «دبلوماسية» الجنرال باقري، حقاً، كانت إبان فترة التوتر حول استفتاء إقليم «كردستان العراق»، عندما سافر إلى تركيا، وأجرى مفاوضات مباشرة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بحضور رئيس الأركان التركي خلوصي أكار، كما وجه دعوة في الفترة ذاتها إلى رئيس أركان الجيش العراقي، وناقش أزمة «كردستان العراق». وبذا تحوّل إلى اللاعب الأساسي والأكثر نشاطاً فيما يتعلق بالخطوة الكردية... أكثر حتى من رئيس الحكومة وأعلى من الوزارة الخارجية.
يومذاك رأى كثيرون من مؤيدي الحكومة الإيرانية أن رئيس هيئة الأركان ربما تجاوز حدوده وأن على روحاني مواجهته. وهو أمر ترك أثره في ميزانية الأركان التي قلّصتها الحكومة إلى النصف؛ ما تسبب بدوره في انزعاج باقري... الذي ما لبث أن قدم شكوى إلى المرشد الإيراني بهذا الصدد.
وعلى ما يبدو، رد خامنئي ضمنياً على خطوة روحاني، وخلال إعلان إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي في الخريف الماضي، أعلن تغيير موقع رئيس الأركان من عضو غير أساسي إلى أحد الأعضاء الأساسيين في المجلس. وهكذا عزز له موقعه مقابل الرئيس الإيراني.

- رأس هرم القوات المسلحة
الآن يرأس باقري هرم القوات المسلحة الإيرانية.
ومن ثم، فنحن أمام جنرال من «الحرس الثوري» لديه إلمام بـ«مجالات العمل الاستخباراتي» ويميل إلى مجال الأنشطة الجيوسياسية، ماذا يعني ذلك؟
«تقييم تبعات الحرب المحتملة مع أميركا» و«بحث في نماذج حروب الميليشيات الشيعية ضد الولايات المتحدة» و«الاستراتيجية الجيوسياسية على أساس الهلال الشيعي» في المنطقة العربية... هي محاور معظم مؤلفات باقري ومقالاته. وهي، بطبيعة الحال، تقدم صورة واضحة عن عقليته ومنطقه العسكري، لا سيما أن غالبية كتابات الرجل تأتي في سياق التفكير بهذه القضايا، وحتماً، التركيز على دور الميليشيات في هذه المعركة.
إضافة إلى ما سبق، فإن أداء الجنرال باقري يظهر رغبته الكبيرة في العمل السياسي وتنشيط «دبلوماسية العسكر» كبديل لدبلوماسية الحكومة. وبالفعل، هذا ما تحدث عن ضرورته مستشار قائد «الحرس الثوري» يدالله جواني في عدة مناسبات. وأكثر من ذلك، يتماهى هذا الميل مع ما ورد على لسان المرشد خامنئي، خلال الأسبوع الماضي في الملتقى السنوي للوفود الدبلوماسية الإيرانية المقام في طهران، عندما شدد على «الدبلوماسية الآيديولوجية» كنوع من الدبلوماسية الوفية للشعارات السياسية والمذهبية لـ«الثورة»، ما يؤكد النظرة التوسعية لدى قادة «الحرس»... الجلية تماماً في مؤلفات باقري.
أخيراً، إذا ما افترضنا أن اختيار محمد باقري رئيسا لهيئة الأركان - التي توضح المعطيات أن خامنئي اتخذه رغم معارضة كبار «الحرس»، باستثناء رحيم صفوي الذي يعد من داعمي باقري -، فإن هذا الاختيار جاء متعمداً وعن وعي تام بالخلفيات والظروف. ذلك أن المرشد اتخذ خطوة باتجاه خلق شخصية يمكنها لعب أدوار ذات مهام دبلوماسية من العيار الثقيل. والمعنى، أنها تستطيع أن تؤدي أدوارا يمكن أن يكون منصب رئيس الجمهورية من بينها. وهنا علينا ألا ننسى أننا نسمع كل يوم همسات عن انتخاب «رئيس عسكري» في الواجهة السياسة الإيرانية كأحد أبرز آمال تسيار «المحافظين» المقربين من «الحرس الثوري».


مقالات ذات صلة

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

حصاد الأسبوع من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع إيشيبا

شيغيرو إيشيبا... رئيس وزراء اليابان الجديد يعدّ العدة لتجاوز الهزيمة الانتخابية الأخيرة

الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في اليابان شرعت أخيراً الأبواب على كل الاحتمالات، ولا سيما في أعقاب حدوث الهزيمة الانتخابية التي كانت مرتقبة للحزب الديمقراطي

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع الأعلام الجورجية والأوروبية مرفوعة في تظاهرات العاصمة الجورجية تبيليسي (رويترز)

«الحلم الجورجي» يكسب الجولة ضد «الحلم الأوروبي»

«لقد انتصرت روسيا اليوم في جورجيا... علينا أن نعترف بذلك»... بهذه الكلمات لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تخوض بلاده حرباً مفتوحة مع روسيا منذ 33

رائد جبر (موسكو )
حصاد الأسبوع لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

حققت الهند والصين تقدماً كبيراً على صعيد المناقشات حول حدودهما المتنازع عليها في جبال الهيمالايا؛ ما يشير إلى إمكانية لتحسين العلاقات في أعقاب المناوشات التي وقعت بين الجانبين، وأسفرت عن تجميد العلاقات بين العملاقين الآسيويين. هذا التقدّم الكبير المتمثل في الإعلان عن الاتفاق على «فك الاشتباك العسكري»، والذي جاء قبيل انعقاد قمة «البريكس» السادسة عشرة في روسيا، مهّد الطريق للمباحثات الثنائية بين رئيس الوزراء ناريندرا مودي والرئيس الصيني شي جينبينغ. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم أن العلاقات التجارية ظلت عند مستويات قياسية مرتفعة، تضرّرت العلاقات الثنائية في مجالات، بينها الاستثمار والسفر والتأشيرات... ويبقى الآن أن نرى ما إذا كانت العلاقات الثنائية ستتعافى.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الزعيمان الهندي والصيني مودي وشي، وبينهما بوتين خلال تجمّع للقادة المشاركين (رويترز)

الهند أصرَّت على رفض «مبادرة الحزام والطريق» الصينية

> على الرغم من ذوبان الجليد في العلاقات الصينية - الهندية، رفضت الهند في اجتماع «منظمة شنغهاي للتعاون»، الذي اختتم أعماله حديثاً في باكستان، الانضمام.


أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
TT

أمن الأردن يواجه خطر تصعيد المواجهة الإسرائيلية ــ الإيرانية

من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)
من لقاء الملك عبدالله الثاني والرئيس الإيراني بزشكيان (التلفزيون الأردني)

يحاول الأردن تحييد أجوائه وأراضيه بعيداً عن التصعيد الإسرائيلي - الإيراني، الممتد عبر جبهتي جنوب لبنان وشمال غزة، ليضاعف مستويات القلق الأمني مراقبة خطر الضربات المتبادلة و«المُتفق على موعدها وأهدافها» بين طهران وتل أبيب، ولتعود مخاطر عمليات تهريب المخدرات والسلاح على الواجهتين الشمالية والشرقية، وتدخل الجبهة الغربية على الحدود مع دولة الاحتلال على خطوط التهريب، لتعويض الفاقد من المواد المخدّرة في أسواق المنطقة.

سارع الأردن لتأمين سلامة أرضه، ومنع اختراق أجوائه، وممارسته لسيادته بعد ليلتين متباعدتين سعت طهران من خلالها إلى «حفظ ماء الوجه بتوجيه صواريخ لم تنجح في الوصول إلى أهدافها داخل إسرائيل». وبالنتيجة، أسقطت الدفاعات الجوية الأردنية صواريخ إيرانية في الصحراء الشرقية وعلى الحدود الشمالية مع سوريا.

وفي حين اعتبرت بعض الجهات أن «الدفاعات الجوية الأردنية انطلقت حماية لإسرائيل»، أكدت عمّان على لسان مصادر مطلعة أن «الضرورة تتطلب اعتراض أي صواريخ عابرة لسماء المملكة، بعيداً عن المواقع الآهلة بالسكان، ومخاطر تسبّبها بخسائر بشرية، أو أضرار مادية». وبالتالي، جاء القرار العسكري محصّناً بأولوية حماية أرواح الأردنيين. وأردفت المصادر من ثم أن «مَن يريد ضرب إسرائيل فأمامه حدود لبنان الجنوبية أو الحدود السورية مع الجولان المحتل»؛ لأن من هناك تكون الصواريخ الإيرانية أقرب لتحقيق أهدافها، بدلاً من إطالة المسافة بمرورها عبر سماء المملكة، واحتمالات سقوطها في مواقع حيوية على الحدود الغربية مع دولة الاحتلال.

في الواقع، تابع المواطنون الأردنيون ليلة الثالث عشر من أبريل (نيسان) وأيضاً في أكتوبر (تشرين الأول)، عرضاً ليلياً بإضاءات الدفاعات الجوية وإسقاطها صواريخ إيرانية عبرت فضاءات الأردن على وقع الكلام عن دعم طهران لغزة ضد العدوان الإسرائيلي، والانتقام لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، أثناء زيارته الرسمية للمباركة بفوز الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في انتخابات الرئاسة، وكذلك الانتقام من تصفية قيادات الصفوف المتقدمة في «حزب الله» اللبناني، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي.

وفي المقابل، أمام التقدير العسكري الأردني في أولوية إسقاط الصواريخ الإيرانية أثناء عبورها سماء المملكة ومنع سقوطها بالقرب من مناطق سكنية، أكّدت عمّان، عبر قنوات اتصال أمنية مع إسرائيل، ورسائل أردنية إلى الإدارة الأميركية، تصدّيها لأي هجوم إسرائيلي على طهران قد يستخدم سماءها بذريعة الردّ على ضربات إيرانية محدودة في الداخل الإسرائيلي.

توضيح الموقف الأردني

هنا استعاد جنرالات أردنيون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» ذاكرة المفاوضات مع إسرائيل قبل صياغة «قانون معاهدة السلام» المتعارف على تسميته «اتفاق وادي عربة من عام 1994»، ومنها تمسّكهم - آنذاك - بتحديد تل أبيب مدىً جغرافياً للرد على أي هجوم مُحتمل «على أن يضمن ذلك عدم انتهاك الأجواء الأردنية وإسقاط أي أجسام متفجرة داخل حدود المملكة الغربية». ومما سمعناه أن «نبوءة» المفاوضين الأردنيين من قيادات القوات المسلحة، كانت تقرأ مستقبل التطورات في منطقة متخمة باحتمالات الحرب، وموقع الأردن بين «فكي كماشة» بضم «محور الممانعة» من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة. وبناءً عليه؛ اضطر الجيش إلى التعامل مع الصواريخ الإيرانية العابرة التي قد تُسقط داخل الأراضي الأردنية. ومن المعلوم بأن الحدود الغربية مأهولة بالسكان؛ وبذا تبادر دفاعات الجيش الأردني الجوية بالرد على تلك الصواريخ دفعاً لسقوطها في الصحراء الشرقية بعيداً عن السكان، غير أن بعض حطام تلك الصواريخ وقع حقاً في مناطق من العاصمة ومحافظات الوسط، ولقد وثقتها كاميرات الهواتف الذكية فيديوهات، وجرى نشرها على منصات التواصل الاجتماعي.

إيمن الصفدي (رويترز)

نشاط عمّان الدبلوماسي ترك انطباعاً بأن انفتاح الحراك

على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي

لحماية المصالح الأردنية

عبر الأجواء السورية

من ناحية ثانية، وجّهت إسرائيل قبل أسبوع ضربة صاروخية على مواقع عسكرية إيرانية. وأفادت معلومات مؤكدة بأن مسار الرد الإسرائيلي كان عبر الأجواء السورية، بعد نجاح الاختراق الإسرائيلي من ضرب رادارات متقدّمة للدفاعات السورية. ولقد أعادت تل أبيب في هذا المشهد التأكيد على انتهاكاتها المستمرة بحق «دول الجوار»، وأمام صمت دولي ومباركة أميركية بعد توافر معلومات عن مواقع حددتها إسرائيل، ورأى مراقبون أن الرد جاء في سياق «معادلة ميزان القوى» في المنطقة ضمن حدود الحرب المنتظرة أو سياسة صناعة التوتر في المنطقة عبر «حرب استنزاف»، تسبّبت في سقوط آلاف القتلى والجرحى والمفقودين ومئات آلاف النازحين في غزة ومن جنوب لبنان.

زوايا حرجة في العلاقة مع إيران

توازياً مع ما سبق، وفي زيارة مفاجئة حمل وزير الخارجية أيمن الصفدي في الثامن من أغسطس (آب) الماضي رسالة من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، أكد خلالها الصفدي أن الزيارة جاءت «بتكليف من الملك عبد الله الثاني لتلبية الدعوة إلى طهران»، مضيفاً أن هدف الزيارة هو «الدخول في حديث أخوي واضح وصريح حول تجاوز الخلافات ما بين البلدين بصراحة وشفافية، والمضي نحو بناء علاقات طيبة وأخوية قائمة على احترام الآخر، وعدم التدخل في شؤونه، والإسهام في بناء منطقة يعمّها الأمن والسلام».

الزيارة والرسالة شكَّلتا «استدارة» أردنية في علاقتها مع إيران، ليتبعها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لقاء جمع الملك الأردني وبزشكيان، في الثلث الأخير من سبتمبر الماضي، وهو لقاء بدأ موسّعاً بحضور بعض أركان وفدي البلدين، ثم اقتصر على مباحثات ثنائية لم يحضرها أحد، وظلّت تفاصيل اللقاء محفوظة لدى الزعيمين.

أيضاً، تلك الزيارة فتحت شهية البعض لـ«شيطنة» الموقف الرسمي الأردني واتهام عمّان بنقلها «رسالة تهديد» لطهران برد إسرائيلي حازم. غير أن الوزير الصفدي أكد في تصريحات رسمية مع نظيره الإيراني في حينه «أبلغت معالي الأخ بشكل واضح، لست هنا حاملاً رسالة إلى طهران، ولست هنا لأحمل رسالة لإسرائيل». وتابع أن «رسالة الأردن الوحيدة لإسرائيل أُعلنت في عمّان بشكل واضح وصريح، ومفادها وقف العدوان على غزة، ووقف جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الخطوات التصعيدية، والذهاب نحو وقف فوري ودائم لإطلاق النار يتيح العمل من أجل تحقيق سلام عادل وشامل... لن يتحقّق إلا إذا حصل الشعب الفلسطيني على حقوقه كاملة، وفي مقدمها حقه في الحرية والسيادة والكرامة في دولته المستقلة».

في مطلق الأحوال، ما كان المقصود من زيارة الصفدي الإيرانية تأكيد موقف حيال طهران وحلفائها فقط، بل كانت الزيارة في حد ذاتها رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الأردن «يملك خياراته السياسية في الدفاع عن سيادته على أرضه وسمائه، وأن واحداً من الخيارات هو فتح قنوات الاتصال على وسعها مع طهران وأطراف الصراع في المنطقة»، بحسب مصادر تحدثت لـ«الشرق الأوسط» آنذاك.

استقبال عراقجي وميقاتي

ما يُذكر أنه في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استقبل الملك عبد الله الثاني في عمَّان، وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وشدّد على «ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة». وحذّر العاهل الأردني من أن «استمرار القتل والتدمير سيبقي المنطقة رهينة العنف وتوسيع الصراع»؛ ما يتطلب «ضرورة وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان خطوةً أولى نحو التهدئة»، مجدداً التأكيد على أن «بلاده لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية».

ثم أنه إذا كان استقبال الوزير الإيراني، الذي زار الأردن ضمن جولة عربية مهماً لعمَّان، فقد سبق هذه الزيارة بيومين وصول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى العاصمة الأردنية ولقاؤه الملك عبد الله الثاني. وكان في جدول أعمال الزيارة:

- أولوية دعم الجيش اللبناني وسط احتمالات النزول إلى الشارع في ظل مخاوف من احتكاكات محتملة بين ميليشيات حزبية محسوبة على زعماء لبنانيين.

- الحاجة إلى تطبيق القرار الأممي بنشر قوات من الجيش اللبناني في مناطق الجنوب التي تخضع لسيطرة «حزب الله».

- الاستفادة من فرص وقف إطلاق النار عبر هُدن يمكن تمديدها.

واستكمالاً لعقد المباحثات مع «محور الممانعة»؛ طار الوزير أيمن الصفدي إلى دمشق، التي شكَّلت حدودها الجنوبية مع الأردن وعلى مدى أكثر من عقد ونصف العقد، حالة أمنية طارئة للجيش الأردني. ذلك أنه يتعامل باستمرار مع صد محاولات قوافل مهربي المخدّرات وعصابات السلاح لتجاوز الحدود؛ وهو ما استدعى مواجهات مسلحة واشتباكات نهاية العام الماضي أسفرت عن سقوط قتلى وإلقاء القبض على مهرّبين لهم اتصالات مع خلايا داخل المملكة.

الصفدي حمل رسالة شفوية من العاهل الأردني إلى الرئيس السوري بشار الأسد، لكن لم يُكشف عن مضمونها. مع هذا، نشاط عمّان الدبلوماسي على مدى أيام الشهر الماضي، ترك انطباعاً لدى جمهور النخب المحلية، بأن انفتاح الحراك الدبلوماسي الأردني على «محور الممانعة» يأتي من زاوية السعي لحماية المصالح الأردنية في ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد عسكري خطير، وموقع المملكة على خطوط النار.

التهريب تهديد أمني

أردنياً، يُعتقد في أوساط الطبقة السياسية المطلعة، أن خطر تهريب المخدرات من الداخل السوري لا يزال يشكل «تحدياً أمنياً» كبيراً؛ الأمر الذي يستدعي إبقاء حالة الطوارئ لدى قوات حرس الحدود على امتداد الحدود الشمالية نحو (370 كلم) بين البلدين، لا سيما في ظل تحوّل مناطق في الجنوب السوري إلى مصانع إنتاج المخدرات، ونقلها من خلال عمليات التهريب إلى أسواق عربية وأجنبية عبر المملكة. ويضاف إلى ذلك النزف الاقتصادي المستمر منذ عام 2012، واستقبال اللاجئين وكُلف إقامتهم، وتراجُع أثر خطط الاستجابة الدولية للتعامل مع الدول المستضيفة للاجئين؛ إذ يستضيف الأردن نحو 1.3 مليون لاجئ سوري، معظمهم يقيمون خارج المخيمات التي خصصت لهم.

أمر آخر، يستحقّ التوقف عنده هو أنه لا يمكن فصل تلك الزيارة عن الملف الأردني الأهم، ألا وهو «الملف الأمني» المباشر. والحال، أنه لطالما بقي الجنوب السوري مسرحاً للميليشيات الإيرانية وغيرها، سيظل القلق الأردني من الخطر الآتي من الشمال، وبالتحديد، ستستمر المخاوف من تسرّب عناصر مسلحة بقصد «المقاومة» في فلسطين وعن طريق عمّان.

وبالفعل، جاء في بيان إن الرئيس الأسد والوزير الصفدي بحثا قضية عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؛ إذ شدد الأسد على أن «تأمين العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين» هو «أولوية للحكومة السورية» التي أكد أنها قطعت شوطاً مهماً في الإجراءات المساعدة على العودة، خصوصاً في المجالين التشريعي والقانوني.وفي إطار الزيارة، أجرى الصفدي مباحثات موسَّعة مع وزير الخارجية والمغتربين السوري بسام الصباغ، ركّزت على جهود حل الأزمة السورية وقضية اللاجئين، ومكافحة تهريب المخدرات، إضافةً إلى التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه.

الرئيس نجيب ميقاتي (إ.ب.أ)

 

حقائق

زيارة ميقاتي لعمّان... طلبتُ دعم أمن لبنان

فيما يخصُّ العلاقات الأردنية - اللبنانية، طلب الرئيس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، في عمّان من العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني دعم الجيش اللبناني بصفته القوة القادرة على التعامل مع احتمال تطور استخدام سلاح ميليشيات حزبية متباينة المواقف والولاءات، مع استمرار القصف الإسرائيلي الليلي على مناطق في الضاحية الجنوبية، وفي جنوب لبنان.وللعلم، يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي استقبل اللواء يوسف الحنيطي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، في عمّان، قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون. وفي الواقع لم يخفِ الأردن الرسمي دعمه للجيش اللبناني وأولوية تزويده بكل الاحتياجات بصفته ضمانة لأمن لبنان وحامياً للسلم الأهلي، بينما المواقف بين الأحزاب السياسية والميليشيات المحسوبة عليها. وبموازاة أولوية تزويد الجيش اللبناني بمتطلبات فرض سيطرته لحماية الأمن الداخلي وتنفيذ استحقاق قرارات أممية، أعلنت عمّان أيضاً دعمها لجهود الاستقرار السياسي في لبنان عبر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ما من شأنه تخفيف حدة الاحتقان والتوتر، خصوصاً بعد تطورات الأسابيع الأخيرة أمنياً وسياسياً على معادلات الإدارة السياسية للبلاد، وتحريك عمل مؤسسات لبنان الدستورية. وهنا يرى محللون أردنيون أن تراكم الفوضى على حدود المملكة الشمالية مع سوريا والشرقية مع العراق، وحالة اللااستقرار في لبنان التي تفاقمت مع استمرار العدوان الإسرائيلي، وزيادة نشاط خطوط تهريب المخدرات، وضع تجب مواجهته عبر مسارين: الأول، مسار أمني يتطلب رفع درجات التأهب لمنع أي اختراقات إيرانية للأمن الأردني، والثاني مسار سياسي يتعلق بمواصلة الجهود السياسية لاحتواء الخطر الراهن ومحاولة تجاوز أي تصعيد من شأنه دفع المنطقة وجوار الأردن نحو المجهول. ولكن في هذه الأثناء، واضح أن إسرائيل هي الأخرى تبحث عن إزعاج الأردن، بما في ذلك «عزف» حسابات خارجية على منصات التواصل الاجتماعي على وتر الفتنة، وإغراق الرأي العام في جدل الإشاعات وتأجيجها.