قبل بضعة أسابيع حذرت كيرستين نيلسن، وزيرة أمن الوطن في الولايات المتحدة، في مقابلة لها مع مجلة «تايم» الأميركية تحذر من استعمال الإرهابيين خلال العقود المقبلة طائرات «الدرون» (من دون طيار)، - التي هي نتاج لما بات يعرف بالذكاء الصناعي - وطالبت بسن القوانين التي تساعد على ضمان حماية الشعب الأميركي من هذا الخطر.
تصريحات نيلسن تلفت الأنظار إلى قضية «الذكاء الصناعي التكنولوجي» وهل هو دائماً خير في منفعة الإنسانية أم يمكن له أن يضحى شراً مستطيراً يهدّد الآمنين والمطمئنين، إذا عرف طريقة إلى الإرهابيين، أولئك الذين باتوا بدورهم على درجة عالية من القدرة على التعاطي مع التكنولوجيا المتقدمة، ومن المقدرة على تطوير آليات خاصة بهم تفعل فعلها في عوالم الإرهاب والجريمة عبر الحدود.
لعل إشكالية الذكاء الصناعي باتت تتقاطع كذلك مع كبريات التنظيمات الإرهابية وفي مقدمها «داعش» إذ تشير آخر التقارير إلى أن «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» بات يركز على اختراق الدول المعادية للتنظيم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبا، وذلك عبر التنسيق مع مواقع إلكترونية وإرهابية. وما بين الذكاء الصناعي والثورة المعلوماتية التكنولوجية، يغدو العالم برمته أمام موجة غير مسبوقة من التحديات الإرهابية، مما يزيد من العبء الملقى على عاتق الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المكلفة بالمواجهة.
عن الذكاء الصناعي
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح ذات يوم في العالم الماضي بأن «من تكون له الريادة في الذكاء الصناعي، سيكون سيد العالم». تصريحات بوتين ولا شك كانت تحمل نبرة الصراع العالمي، مما استدعي ردات فعل من جانب الولايات المتحدة، حيث البعض هناك أدرك ولو متأخراً ما يمثله هذا الذكاء من كارثية مستقبلية، سيما وأن الصراع بين الأمم سيضحى معلوماتيا، بأكثر منه مواجهة أسلحة تقليدية معروفة. وفي تقرير صدر في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عن «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية» الفرنسي، نجد تصريحات لإيلون ماسك، المهندس الملياردير ورجل الأعمال الرؤيوي، الذي أعرب عن قلقله من إمكانية استخدام الذكاء الصناعي من قبل الإرهابيين حول العالم، وأشار إلى نيته لتأسيس معهد دراسات متخصص في هذا المجال من أجل تطويره لصالح البشرية، وليس ضدها.
«داعش» والذكاءات الشريرة
راهناً، يبقى «داعش» أكثر الجماعات الأصولية المتطرفة خطراً وفتكاً على الساحة الدولية، ونجح «الدواعش» في أن يضموا عناصر من المتقدمين علمياً في الكثير من المجالات التكنولوجية والرقمية، بينهم عناصر أوروبية وأميركية لديها خيرة في عالم «الفضاءات الرقمية»، لا على الأرض فقط. وفي العام الماضي 2017 أرسل «داعش» طائرات «درون» (من دون طيار)، صغيرة ومرنة جداً ومسلحة بقنابل يدوية، تمكّنت من مناوشة القوات العراقية في أكثر من مكان. وفي تونس استطاع «الدواعش» رسم صور عبر الكومبيوتر للتضاريس الجغرافية لبلدة بنقردان (جنوب شرقي تونس) وقاموا بعمل محاكاة للواقع قبل شن هجماتهم سواء للانتقام من رجالات الشرطة، أو لتنفيذ عمليات إرهابية جديدة، مما يعني أن الذكاء الصناعي يخفف الآن عبء الحصول على المعلومات الاستخباراتية على الجماعات المسلحة، ويعبد الطريق أمام عملياتهم.
الاختراق المعلوماتي كارثة محققة
ضمن سياقات الحرب التي يشنها «الدواعش»، تهديد المناوئين والمقاومين لهم، وذلك عبر نشر أسمائهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم، ومن ثم إتاحة هذه جميعها للملأ، بهدف إحداث حالة من الرعب في نفوس هؤلاء وأولئك بداية، وتالياً تأليب الجماهير المؤدلجة عقائدياً ضدهم. وفي هذا الإطار يقوم «داعش» بما هو أخطر من تأسيس خلايا عنقودية إرهابية. فنحن الآن إذن أمام جزئيتين أساسيتين في تسخير «داعش» للذكاء الصناعي، الأولى الاختراق للحصول على المعلومات، والثانية جعل وسائط التواصل الاجتماعي أداة لينة وطيعة في اكتساب عناصر جديدة. ورغم الضربات اللوجيستية الفتاكة والانحسارات التي أصابت التنظيم على الأرض، يتوقع مراقبون موجة جديدة من الإرهاب القاتل سترب العالم، إذا قيض الذكاء الصناعي الطريق للعناصر المجندة لخدمة أجندة «داعش» بنوع خاص، وأي تنظيم إرهابي مؤدلج آخر حول العالم.
السيناريوهات الظلامية طويلة ومتعددة، ومنها ما يتصل بقدرات القراصنة لاختراق الشبكات الخاصة بالبنية التحتية للدول من شبكات مياه، أو كهرباء، أو جسور، أو مطارات، وقد تساءل بعضهم ماذا لو وجد الإرهابيون من الدواعش طريقاً لاقتحام بعض برامج الأقمار الصناعية التي تقوم على مساعدة الطيران المدني في الأجواء الدولية، وتالياً التحكم في مسارات تلك الطائرات وتوجيهها إلى حيث يريدون.
الأوروبيون والسيارات القاتلة
الآتي مرعب، ولا شك، سواءً كان بالنسبة للأوروبيين أو الأميركيين معاً. ولعل هذا ما دعا في فبراير (شباط) الماضي لعقد لقاء قمة لخبراء بلغ عددهم 26 خبيراً من عدة مؤسسات رائدة في العالم، ومنظمات لها دالة على أبحاث الذكاء الصناعي. ولقد التقى هؤلاء في بريطانيا بالتعاون مع معهد المستقبل في جامعة أكسفورد ومركز جامعة كامبريدج لدراسة المخاطر الموجودة، بمساهمة ماسك. وذهب المشاركون هناك إلى أنه من المحتمل استخدام الذكاء الصناعي من قبل مختلف الأشخاص، بمن فيهم المجرمون والإرهابيون.
وفي حال لم يتكاتف الباحثون وواضعو السياسات معا لدرء هذا الخطر، فقد يتسرب الذكاء الصناعي إلى أهم أجزاء حياتنا.
ومفهوم أن أوروبا شهدت خلال السنوات القليلة الماضية ضرباً من ضروب السيارات التي قادها إرهابيون في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، مما أوقع العشرات بين قتيل وجريح. هؤلاء ربما لن تكون هناك حاجة إليهم في القريب، إذا بقيت تطورات الذكاءات الاجتماعية في يد الإرهابيين على النحو الذي نراه الآن. فخبراء أكسفورد يتحدثون عن سيارات ذاتية القيادة، ولك أن تتخيل وقوع تلك الأجيال من هذه السيارات في أيدي إرهابيين وكيف ستكون حينئذٍ قنابل موقوتة سائرة.
«داعش» والإنترنت
قبل نحو ثلاثة عقود راج تعبير في الأوساط الإعلامية مفاده أن «وسائل الإعلام قادرة على أن تصنع شتاء أو صيفا»، بمعني أنها يمكن أن تجعل الفصول الزمانية دافئة مستقرة أو حارة ملتهبة. وخلال شهر مايو (أيار) الماضي نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تقريراً عن «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» وعن مصيره، ومآلات «داعش» المستقبل.
باختصار، يقول التقرير إن «البغدادي» لم يمت، بل يعمل على إعداد الطبعة الجديدة من التنظيم، تلك التي تقوم على التجنيد عن بعد من خلال استخدام الوسائط الاجتماعية الحديثة لمواصلة القتال وخدمة مشروع «خلافته» المزعومة حول العالم بأدوات تكنولوجية وبتواصل معلوماتي متميّز. ويركز التقرير على أن البغدادي كان مدرّساً جامعياً قبل أن يصبح إرهابياً، وأنه في وقت مبكّر قرّر إعطاء الأولوية لتجنيد الأطفال والشباب داخل العراق أو سوريا وخارجهما عبر الإنترنت. وأن «البغدادي» مقتنع بأنه حتى إذا اختفى تنظيمه الحالي، فإن فكرته (أي «خلافته» المزعومة) ستستمر طالما استطاعت التأثير على الجيل القادم من خلال التعليم.
«فيسبوك» والإرهاب
حين بدأ مارك زوكربيرغ عالمه «فيسبوك»، كان هدفه الأول هو بناء عالم جميل من التواصل الإنساني الخلاق، وتحويل تعبير عالم الاجتماع الكندي الشهير مارشال ماكلوهان عن «القرية الكونية»، إلى واقع حي معاش يتجاوز الحدود والسدود الجغرافية. إلا أن «فيسبوك» أضحى مصيدة للإرهابيين للترويج لما يؤمنون به، فأضحت عقائدهم وأفكارهم سريعة الانتشار، بل وباتت عملية تجنيد عناصر جديدة مسألة يسيرة في أرجاء الكرة الأرضية. وليس سراً أن عدة عمليات إرهابية أخيرة استخدمت فيها أنظمة، سيما حادثة مسرح «الباتاكلان» في العاصمة الفرنسية باريس، والذي استخدمت فيه ألعاب إلكترونية من أجل التخطيط لواحدة من المذابح الإنسانية.
روبوتات صناعية أم بشرية؟
الجزئية الأخرى وليست الأخيرة في قصة تتجلى ملامحها ومعالمها في عالمنا المعاصر، موصولة بالروبوتات. فهل يمكن أن تستحوذ جماعات إرهابية مثل داعش «روبوتاً» قاتلاً في المستقبل القريب تعوض به مثلاً قلة عدد المنضمين إليها من الشباب لأي سبب؟ البروفسور نويل شاركي، الأستاذ المتخصص في مجال الذكاء الصناعي وأجهزة الروبوت في جامعة شيفيلد البريطانية، يقر بإمكانية حدوث ذلك، ولهذا تبنى حملة عنوانها «أوقفوا الروبوتات القاتلة». هنا قد يغدو الخيال العلمي واقع حال، بمعنى أنه يجعل إنساناً بشرياً روبوتاً صناعياً، من خلال تطوير معالجات إلكترونية فائقة السرعة قابلة للزرع داخل الدماغ البشري، وساعتها سنجد فكرة «فرانكشتين» الخيالية تتجسد في روبوت بشري شرير قادر على تهديد العالم.