لم يسبق في تاريخ تونس أن انتقد رئيس حكومة تونسي في السلطة، وعلناً، نجل رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الحاكم، مثلما فعل رئيس الحكومة التونسي الشاب يوسف الشاهد.
تصريح الشاهد الانتقادي جاء بعد حملة إعلامية سياسية طويلة استهدفته وحكومته، وحمّلتهما مسؤولية الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد. ورافقتها مطالبات بإقالتهما صدرت خصوصاً عن نور الدين الطبوبي زعيم نقابات العمال وحافظ قائد السبسي زعيم حزب «نداء تونس» الحاكم ونجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.
هذا التصريح - الانتقاد الذي رحبت به أطراف سياسية كثيرة مشاركة في «حكومة الوحدة الوطنية» ومن خارجها، خلط الأوراق بسرعة، وتوقع البعض أن يُدخل البلاد في أزمة سياسية شاملة، في حين توقع آخرون أن يفتح الطريق أمام الشاهد ليصبح «الرجل القوي» في الدولة والحزب الحاكم، تمهيداً لترشحه المرتقب في الانتخابات الرئاسية خلال العام المقبل.
شد أنظار المراقبين التونسيين التصريح الانتقادي المفاجئ الذي أدلى به رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد إلى القناة التلفزيونية العمومية الأولى مساء الثلاثاء 29 مايو (أيار) المنصرم، وخاطب به الشعب مباشرة، وبالأخص، أن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي كان في زيارة إلى باريس، حيث شارك مع رؤساء دول الجوار الليبي في مؤتمر المصالحة بين الأفرقاء الليبيين الذي رعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
- وثيقة قرطاج
لقد اعتبرت مبادرة الشاهد إلى مخاطبة الشعب التونسي، حول الصعوبات التي تواجهها الحكومة والحزب الحاكم، «ضربة سياسية استباقية» أوقف بها الدعاة إلى إقالته أو إلى تغيير فريقه الحكومي، رغم اعتراضات أحزاب كبرى وبعض سفراء الاتحاد الأوروبي بتونس، وبينهم السفير الفرنسي أولفييه بوافر دارفور. ولقد تسببت هذه المعارضة في وقف المفاوضات الماراثونية التي استضافها قصر قرطاج حول صياغة «وثيقة قرطاج 2» التي كان من المقرّر أن تكون خريطة طريق للدولة في المرحلة المقبلة.
لقد تزايدت تلك الدعوات بين المقرّبين من حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس وزعيم حزب «نداء تونس»، مثل الوزير السابق خالد شوكات، الذي فسّر تراجع شعبية «نداء تونس» في انتخابات 6 مايو (أيار) الماضي مقارنة بانتخابات أواخر 2014، بإخفاقات الحكومة وعجزها عن تنفيذ برنامجه الانتخابي. غير أن يوسف الشاهد رفض هذا الطرح بقوة، وتجنب التعويم وما وصف بـ«اللغة الخشبية» خلال رده على منتقدي حكومته. وحمّل مسؤولية الأزمات التي يمرّ بها الحزب الحاكم والإدارة والبلاد إلى أخطاء حافظ قائد السبسي. والجديد، أنه ذكره بالاسم رغم علاقته العائلية برئيس الجمهورية.
- حكومة في خطر؟
جاءت انتقادات رئيس الحكومة لزعيم الحزب الحاكم ونجل الرئيس بعد يوم واحد من إعلان الرئيس التونسي أمام زعماء الأحزاب والنقابات الكبرى في البلاد «تعليق» المفاوضات التي نظمت في القصر الرئاسي طوال 5 أشهر بمشاركة الزعماء السياسيين والخبراء. وأوضحت المستشارة سعيدة قراج، الناطقة باسم رئيس الجمهورية، أن حصيلة الاجتماعات المطولة للخبراء والسياسيين كانت صياغة وثيقة اقتصادية سياسية من 64 نقطة يمكن أن تعتمدها الحكومة. إلا أن حصيلة هذه المفاوضات كانت اتفاقاً على 63 نقطة تهم أساساً البرنامج الاقتصادي الاجتماعي. وفي المقابل تصدّع تحالف الأحزاب والنقابات المشاركة منذ صيف 2016 في «حكومة الوحدة الوطنية» بسبب الخلاف حول «النقطة 64» التي تنص على تغيير الحكومة ورئيسها بعد اتهامها بالفشل. وكان على رأس المدافعين عن خيار التغيير اتحاد نقابات العمال وزعامة «نداء تونس»، الذي ينتمي رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى قيادته، لكنه دخل منذ مدة في خلاف مع مديره التنفيذي نجل الرئيس والمقربين منه ممن حملهم مسؤولية إضعاف الحزب والتسبب في تصدعه وانقسام كتلته البرلمانية.
لعل ما جعل الطبقة السياسية تنخرط مباشرة في خلافات الحزب الحاكم وصراعات زعمائه أن حكومة يوسف الشاهد تضم وزراء من عدة أحزاب ونقابات. ومن ثم، فإن إسقاطها سوف يعني انهيار «حكومة الوحدة الوطنية» والحزام السياسي الذي كان حولها، وكذلك القطع مع تجربة التوافق السياسي بين التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والإسلامية المعتدلة في إطار ما عُرف بـ«حكومة الوحدة الوطنية».
- انتقادات للشاهد ولحركة «النهضة»
في المقابل خرج زعيم حزب «نداء تونس» عن صمته، وأصدر بياناً فور الإعلان عن تعليق «وثيقة قرطاج» انتقد فيه - في الوقت نفسه - رئيس الحكومة والأطراف السياسية التي رفضت تغييره الآن، بحجة البحث عن الاستقرار السياسي والوطني، وعلى رأسها حزب «حركة النهضة» واتحاد نقابات المزارعين وحزب المبادرة بزعامة وزير الخارجية الأسبق كمال مرجان.
حافظ قائد السبسي اعتبر أن «الحكومة الحالية التي تمخضت في سبتمبر (أيلول) 2016 عن اتفاق قرطاج 1 كمرجعية سياسية جامعة قد تحوّلت إلى عنوان أزمة سياسية أفقدتها صفتها كحكومة وحدة وطنية».
- فك الارتباط قبل انتخابات 2019
من ناحية أخرى، فسّر سياسيون ومراقبون من تيارات تونسية مختلفة تراجع شعبية حزب «نداء تونس» في الانتخابات من نحو 40 في المائة في العام 2014 إلى نحو 20 في المائة في انتخابات الشهر الماضي، بتحالفاته مع بعض الأطراف السياسية وبينها قيادة «حركة النهضة». ولقد لوح بيان حافظ قائد السبسي بفك الارتباط السياسي معها وبالترشح للمحطات المقبلة دون تحالفات. والتقت هذه الانتقادات مع تصريحات مماثلة عن نشطاء سياسيين من التيارات المحسوبة على الراديكالية والثورية ممن فسّروا خسارة «حركة النهضة» ثلثي ناخبيها مقارنة بانتخابات 2011، ونصفهم مقارنة بانتخابات 2014، بتحالفاتها مع حكومات حزب «النداء» الذي ينتمي معظم وجوهه إلى حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
... وحملة إعلامية على عائلة الرئيس
ولئن تتسارع الأحداث في تونس بنسق سريع، وفي اتجاهات متناقضة منذ انهيار رأس الدولة المركزية في أعقاب ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، فإن من بين مفاجآت الأيام القليلة الماضية أن الصراعات السياسية تداخلت وتطورت من نقاش حول البدائل الاقتصادية والاجتماعية إلى حملات إعلامية وسياسية واتهامات متبادلة. وشملت هذه الحملات عائلة الرئيس التونسي، خصوصاً نجله الأكبر حافظ الذي بات الرئيس الفعلي للحزب منذ استقالة والده منه فور جلوسه على كرسي الرئاسة في يناير 2015.
ومن بين المفارقات، أنه صدر دفاع عن عائلة الرئيس من قبل قيادات أحزاب في الحكومة والمعارضة بينها عماد الخميري، الناطق الرسمي باسم حزب «حركة النهضة». وانتقد حافظ قائد السبسي تلك الاتهامات والحملات الإعلامية التي استهدفته وعائلته، واعتبر أنها تستهدف دور رئيس الجمهورية راعياً للتوافقات السياسية والاجتماعية ومرجعاً للشرعية الشعبية الانتخابية والدستورية.
- مفاجأة من داخل البيت
لكن المفاجأة، هذه المرة، جاءت من داخل البيت. إذ صدرت الانتقادات للابن الأكبر لرئيس الدولة - التي تروج إشاعات كبيرة حول ثروته وحول انفراده بالقرار السياسي في حزبه - عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي كان قد تولى مسؤوليات عليا في حزب «نداء تونس» قبل دخوله الحكومة، بينها رئاسة اللجنة الوطنية التي أعدت لمؤتمر الحزب الأول في صيف 2015. وكان الشاهد يومذاك وكيل وزارة للزراعة ثم صار وزيراً للجماعات المحلية.
وما يُذكر أنه سبق للشاهد أن رُشح لرئاسة الحزب بعد تولّيه منصب رئاسة الحكومة في أواخر صيف 2016، إلا أن اعتراضات بعض مؤسسي الحزب ورموزه أجهضت الترشيح يومذاك، ومن ثم، أعلن الشاهد أنه يريد التفرغ للعمل الحكومي ويترك العمل الحزبي لغيره. ولكن يبدو أن رئيس الحكومة الشاب «وجد نفسه مضطراً لتبرير العلاقة المتوترة مع بعض النافذين في حزبه»، مثلما جاء على لسان وزير الزراعة الأسبق البرلماني محمد بن سالم.
- إقحام التونسيين في خلافات لا تهمهم
لقد اعتبر كثيرون من السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين التونسيين في تعليقاتهم على معركة رئيس الحكومة مع نجل الرئيس ومدير «نداء تونس» أن من شأنها أن تزيد من إضعاف الدولة وإرباك الحزب الحاكم، حسب تعبير البرلماني اليساري منجي الرحوي. كذلك اعتبر البرلماني والوزير السابق محمد بن سالم أنّ رئيس الحكومة الشاهد «أخطأ حين أقحم التونسيين في الحرب الداخلية لـ(نداء تونس)»، وحين تحدّث عن مشاكل حزبه في خطاب توجه به إلى الشعب. وأضاف بن سالم: «مشاكل (نداء تونس) تم تمريرها إلى البلاد، عوض مناقشة الأسباب التي تفسّر فشل البلاد في تحقيق ما تصبو إليه رغم نجاحها في تنظيم انتخابات شفافة ونزيهة في 2014».
- «سيناريو» الحبيب الصيد
وفي السياق ذاته، استحضر عدد من المراقبين، بينهم البرلماني عمار عمروسية والإعلامي الطيب اليوسفي الوزير، مدير مكتب رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، «سيناريو» إقالة الصيد في سبتمبر 2016. فقد تزعم الحملة الداعية إلى إبعاد الحبيب الصيد، حينذاك، وتعيين يوسف الشاهد، قادة حزب «نداء تونس» بقيادة حافظ قائد السبسي. وأيضاً من بين المفارقات أن الكتلة البرلمانية التي دعمت الحبيب الصيد حتى آخر لحظة كانت كتلة «حركة النهضة» بزعامة وزير العدل السابق نور الدين البحيري. لكن أنصار الإقالة تفوقوا فأبعد الحبيب الصيد، وهو من بين رموز النظام السابق وأحد المعارضين البارزين للمشروع السياسي والمجتمعي للحركات الإسلامية.
والواقع أنه لم تتح فرصة ليوسف الشاهد، خلف الصيد، لأن يلعب دوره. بل انطلقت بعد أشهر معدودة من تعيينه حملات تهدف إلى إضعافه وإرباكه ثم إقالته، مستفيدين من توتر علاقات نقابات العمال ببعض الوزراء وبالحكومة نتيجة خلافات حول زيادات الأجور وخصخصة المؤسسات العمومية المفلسة.
لكن السؤال الذي يطرحه عدد من السياسيين والإعلاميين ودعاة الاستقرار السياسي في تونس، مثل المحامي محمد المنصف الباروني، هو «إلى أي حد ينبغي التمادي في خيار تشريك النقابات في إعفاء الوزراء وتعيينهم، ثم في إقالة رؤساء الحكومات؟»، وهنا يشار إلى أن قيادات نقابية بارزة من الاتحاد العام التونسي للشغل طالبت سابقاً بالفعل بإقالة وزيري التربية ناجي جلول والصحة سعيد العايدي، واستجابت لها الدولة. واليوم يطالب أمين عام نقابات العمال بإعفاء رئيس الحكومة.
إذا حصل ذلك، فإن من بين الساسة التونسيين من يرى فيه تهديداً مباشراً لاستقرار البلاد، والشيء نفسه يصدق على السفير الفرنسي بتونس الذي أورد في تصريح صحافي أن «باريس والعواصم الأوروبية تدعم الاستقرار السياسي في تونس وجهود حكومة الوحدة الوطنية الحالية التنموية ونجاحاتها رغم الظروف الإقليمية والداخلية الصعبة التي تمر بها».
- أزمة سياسية بامتياز
وفي الوقت الذي رحبت قيادات سياسية، مثل الإعلامي والوزير السابق والقيادي في حزب «مشروع تونس» صلاح الدين معاوي، بما وصفوه بـ«شجاعة سياسية صدرت عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد»، صعّد أمين عام اتحاد نقابات العمال نور الدين الطبوبي لهجته ضد رئيس الحكومة، ملوّحاً باستخدام أوراق النقابات في إشارة ضمنية إلى ورقة الإضرابات. واعتبر الطبوبي أن تصريحات الشاهد «كشفت أن الأزمة سياسية بامتياز، ولا علاقة لها بالاستحقاقات الوطنية والاجتماعية، التي تنتظرها فئات واسعة من الشعب التونسي. وهي مرتبطة بتقسيم المواقع والنفوذ والمحطات السياسية القادمة». وأورد زعيم النقابات أن وضع البلاد «يتطلب الصراحة المسؤولة بعيداً عن المحاباة والمجاملة والأجندات الانتخابية».
وبعدما التقى 7 من سفراء دول الاتحاد الأوروبي المعتمدين في تونس رئيس الحكومة الشاهد، وأعلنوا دعمهم له ولسياساته - حسب تصريحات السفير الفرنسي - تهجّم أمين عام نقابات العمال على السفير الفرنسي. وأعرب الطبوبي عن استغرابه من الحديث عن «هيبة الدولة في بلاد يرتع فيها السفير الفرنسي ويحشر نفسه في أدق المسائل الداخلية دون رادع من أي كان»، مبرزاً أن «الاتحاد سيبقى قلعة الدفاع عن استقلالية القرار الوطني».
- ورقة انتخابات 2019
في مطلق الأحوال، لا يختلف اثنان في تونس حول علاقة فشل جهود صياغة «وثيقة قرطاج 2»، ثم الانتقادات المتبادلة بين كبار السياسيين، بمن فيهم رئيس الحكومة ونجل الرئيس بانتخابات 2019 التشريعية والرئاسية. وفي حين توقع وزراء سابقون أن يقدم حافظ قائد السبسي على الترشح لخلافة والده في نهاية العام المقبل، فإن هؤلاء فهموا من تحركات رئيس الحكومة، الداخلية والخارجية، توظيف عمره (42 سنة) وموقعه ليغدو المرشح الرسمي لحزب «نداء تونس» للانتخابات الرئاسية المقبلة. واللافت، أنه لم تستبعد غالبية التعليقات في وسائل الإعلام القريبة من قصر قرطاج أن يكون الرئيس الباجي قائد السبسي نفسه هو من اقترح على الشاهد انتقاد ابنه... تأهباً لتولي مسؤولية رئاسة الحزب في المؤتمر المقبل للحزب ثم الترشح لانتخابات 2019. ومن بين ما يرجح هذه الفرضية بالنسبة لكثيرين أن يوسف الشاهد يحظى بدعم أميركي وأوروبي ودولي، من جهة، ودعم العديد من الفصائل السياسية الحاكمة والمعارضة داخل تونس من جهة ثانية. كذلك، تربط الشاهد علاقات عائلية غير مباشرة بعائلة الرئيس ما يرشّحه فعلياً لأن يكون ورقة الاستقرار ويجنّب البلاد الهزات بعد انتخابات 2019.
- القطيعة مع الشباب؟
عند هذه النقطة، يعتبر كثير من الخبراء أن معضلة تونس الكبرى، اليوم، هي استفحال القطيعة بين الشباب الممزّق بين البطالة والمخدرات والتطرف... والسياسيين الذين يخوضون صراعاً على الكراسي، وتحرّكهم الأجندات السياسية والانتخابية والمصالح الخاصة والفئوية. وفي هذا الإطار حذر الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي عبد الله العبيدي من استفحال ظاهرة هجرة الأدمغة والخبرات التونسية، بينما يتدهور مستوى التعليم وقيمة الدينار، ناهيك عن أنه بلغ التضخم رقماً قياسياً لم يسجل منذ عام 1991. ولا شك في أن تدهور الوضع المعيشي للمواطن التونسي بصفة ملحوظة ينذر باحتمال انفجار الأوضاع مجدداً في وجه الجميع، وبعنف قد يفوق عنف ثورة 2011 وانتفاضات يناير 2016 ومايو 2017 ويناير 2018.
وفي كل الحالات سيبقى السؤال الأكبر هو: إلى أي حد سوف تبقى اللعبة السياسية تحت سيطرة اللاعبين الرسميين وشبه الرسميين؟ ومن ثم هناك سؤال وجيه آخر هو: ألن تؤدي الانتفاضات الشبابية والاحتجاجات النقابية والاجتماعية القادمة إلى إعادة خلط الأوراق وإجهاض حسابات كل المتسابقين نحو المناصب والكراسي؟