مرثية للقرية المصرية في زمن التشوه

محمد البرغوثي في روايته «داير الناحية»

حقل مخصص لزراعة الأرز في دلتا مصر (إ.ب.أ)
حقل مخصص لزراعة الأرز في دلتا مصر (إ.ب.أ)
TT

مرثية للقرية المصرية في زمن التشوه

حقل مخصص لزراعة الأرز في دلتا مصر (إ.ب.أ)
حقل مخصص لزراعة الأرز في دلتا مصر (إ.ب.أ)

شكلت القرية المصرية بأجوائها وخرافتها الشعبية وأحلامها وناسها الكادحين البسطاء شغفا أصيلا في منظومة السرد القصصي والروائي لدى الكثير من الكتاب المصريين، فاهتموا برصد التحولات الاجتماعية والتغيرات التي تطرأ على الريف المصري، باعتبارها صدى لما يحدث في مرآة الوطن. فمن توفيق الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف» إلى يوسف إدريس في «الحرام» مروراً بكتابات مؤثرة ومهمة لأجيال الستينات والسبعينات لكتاب مثل محمد البساطي وخيري شلبي وصولا للتسعينات وصولا للوقت الحاضر، كما في رواية «داير الناحية» للكاتب والصحافي المصري، محمد البرغوثي، الصادرة حديثا عن دار سما للنشر. تدور أحداث الرواية في عامي 2015 و2016. لكن ظلالها تمتد خلال سبعينات القرن المنصرم؛ حيث الشاعر والمثقف اليساري، الشخصية التي طالما كانت بطلاً أساسيا في تاريخ السرد المصري، بعودته الحالمة المثقلة بأتعاب المدينة لقريته الكائنة في محافظة الدقهلية بدلتا مصر، لكنه بدل أن ينعم براحة الريف وجماله وعذوبته التي طالما تغنى بها الشعراء تقابله التشوهات الرهيبة التي أفقدته ملامحه، وحولته مسخاً شائهاً من المدينة بعشوائيتها.
تضعنا الرواية إذن، أمام مرثية جديدة للقرية المصرية، مرثية حزينة ترصد بأسى وخوف ما آلت إليه الأمور وما ستؤول إليه بعد أن أصبحت الحقول تروى بمياه الصرف الصحي التي تلوث بها النيل وفروعه، كما نزعت ثورة التكنولوجيا الرقمية والاتصالات من الريف فطريته وبداهته، وأصبح مجرد كتلة لاهثة في الفضاء الافتراضي.
يتتبع البرغوثي أثر كل ذلك نفسيا على ساكني هذه القرى خلال الـ35 عاماً الأخيرة التي أحدثت تغيرات محورية في القرية المصرية، تكاد تكون هي الأصعب في تاريخ مصر.
تجسد الرواية ذلك في واقعة انتحار محبوبة بطلها «دولت» بتناول سم الفئران بعد تعرضها للقهر والاغتصاب من ابن عمها رمز السلطة الفاسدة، ما يؤشر على تاريخ بداية عصر الانهيار، فمن يومها «أصبح كل شيء مختلفاً. الشوارع والبشر والمناخ تغيرت، وتصاعدت غابات الإسمنت واجتاحت الغيطان والجناين، واختفت من كل السطوح أكوام حطب القطن والقش وصوامع الغلال وبلاليص المش والعسل وأبراج الحمام وحظائر الدواجن، وحلت بدلاً منها آلاف الأطباق اللاقطة وخزانات المياه المصنوعة من الصاج، وتحولت أفران الخبيز المبنية بالطوب والطمي إلى أفران حديدية موصولة بالغاز».
ويواصل الكاتب على مدى راويته رصد التشوه الذي أصاب القرية بتأثيرات وإهمال السلطة لها، حتى تحول الواقع فيها لواقع عبثي، على النقيض تماماً من وصفه الحالم لما كان عليه الريف المصري في صباه وشبابه فـ«الغيطان كانت تترامى على مد البصر براحاً شاسعاً يفيض خضرة ونضارة. والفضاء الأزرق خيمة ربانية مرقطة بتجمعات من قطع السحاب الشاهق البياض... وأسراب من العصافير والحمام والسمان تقطع الأفق من كل الاتجاهات. وعلى ضفتي فروع النيل».
تتكثف وتيرة هذه التحولات، خاصة بعد الطوفان الذي جاء في أعقاب ثورة 25 يناير، وبعد اختفاء «نظام سياسي مترهل وفاسد»، هذا الطوفان «راح يقتلع الأشجار ويسحق الغيطان ويسد الآفاق بالعمارات وبالمباني هائلة الحجم». كما أنه «محا مساحات شاسعة من أخصب غيطان الدلتا وحوّلها إلى كتل إسمنتية وكافيتريات وصالات أفراح» و«راحت الكتل الإسمنتية تزحف بوحشية وتردم قنوات الري ومدارات السواقي وتحولها إلى شوارع ضيقة». وبدل الخضرة والأشجار انتشرت «أكياس القمامة المنزلية الملقاة على حواف الجسور بما تحمل من الروائح الكريهة الناتجة من الصرف الصحي الذي تصرفه البيوت في قنوات ومساقي وترع الري». و«حلت ماكينة الري الصغيرة (الكليسكار) محل الساقية المصرية المعروفة، ولم يعد أحد يهتم بتطهير المصارف التي انسدت بالحشائش. وباتت الحقول تورى بماء الصرف»، بعد أن مضى زمن عم فرحات صانع السواقي العتيق.
هذا التشوه الذي أصاب القرية، أصاب سكانها، الفلاحين المصريين الذين طالما ارتبطوا بالأرض والزراعة، فها هم يترك آباؤهم الفلاحة بعدما ضاقت الأرض، وانحسرت المساحات المزروعة تحت زحف البنيان، وترك «نصف البلد أعمالهم الأصلية وتحولوا إلى تجار عملات أجنبية وترامادول وبانجو»، وضرب الفقر الناس، وانتشرت مقاهي المخدرات، وغابت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وانتشرت الكاسيتات بالغناء الهستيري. وأصبحت التجارة المحرمة منتشرة في الدلتا، وبالأخص في حبوب الترامادول والسلع المهربة. كما زحف التطرف الديني، على القرية، وأصبح الشباب العاطل نهباً لهذه الجماعات التي تستغل حاجتهم في تسفيرهم لـ«الجهاد المزعوم» في سوريا. وأصبح المتطرفون هم سادة البلد وكبار ملاكه متحالفين مع العناصر الفاسدة من السلطة.
ولكن في مقابل كل هذا الموات، يبزغ صوت الفتاة «عفت» ابنة شقيق المحبوبة «دولت» التي انتحرت، كطائر فينيق وبارقة أمل، مستعيدة سيرة عمتها حبيبة الشاعر ضحية اغتصاب ابن عمها رمز السلطة المتسلط الذي يعمل في أحد الأجهزة الأمنية، ويستغل سلطاته في السطو على ما ليس من حقه. لكن هذا الطائر سرعان ما يسقط ضحية لتحالف السلطة مع الجماعات المتطرفة، إذ يختارها أحد مشايخ هذه الجماعات «المرابي السلفي» والمتاجر في «الأدوية المدعمة» زوجة لابنه «القعقاع» الشاب السلفي الذي كان يتجهز للسفر للجهاد المزعوم في سوريا، إلا أن سقوط نظام الحكم الإخواني يؤجل ذلك، حتى يتم القبض عليه بعد أحداث رابعة العدوية، ويحكم عليه بالسجن 15 عاماً، لتبقى الفتاة «عفت» مرتبطة به بعقد زواج عرفي، وتلجأ لخالد سرحان بطل الرواية ليخلصها من هذه الورطة.
لكن خالد «المكبل بحياته» والغارق في ذنب حبيبته «دولت» المنتحرة لا يزال يدور حول ديارها في شارع «داير الناحية» الذي كانت تقطنه، وشهد سنوات الغرام الأولى، لتظهر له الفتاة العشرينية «عفت» ويسقط هو الآخر في غرامها المشبوب والمتأجج بالشبه وبذات الصفات التي تحملها «عفت» من عمتها «دولت».
ولكن الدنيا تغيرت، والزمن اختلف، والرسائل الورقية واللقاءات الحذرة والمختلسة التي كانت بين «خالد» والمغدورة «دولت» ولى زمنها من 35 عاما، وحضرت رسائل الـ«واتسآب» وصفحات «فيسبوك» واللقاءات المنفردة الكاملة والمكالمات الطويلة والصور المتبادلة، والتجاوب السريع لتكون هي الوسيط للغرام الذي أسقطت فيه الفتاة عفت ابنة عصر الـ«سوشيال ميديا»، الشاعر المحطم «الخائف والمذعور» من مجيئها حرة وعفية، لتضعه أمام سؤال «وماذا بعد؟»، هل يستمر في العدو خلف «دولت» أينما حلت، هل يبقي هذه العلاقة «الخفية» بين الرجل الخمسيني وفتاة الطب، ويظل طول الوقت مشتتاً، هل هي دولت أم عفت، أم إن روح دولت سكنت ابنة أخيها؟ لكنها أياً كانت الحال أتته في الزمن والظرف الخطأ.
هكذا وعلى طول صفحات الرواية المائتين واثنتين وسبعين، يشكل محمد البرغوثي مرثيته الخاصة للقرية المصرية وأهلها وزمانها المغدور، بلغة سردية سلسة، وفي سياق رؤية مهمومة بقيم الجمال والعدل والحرية.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.