السينما العربية... في سباق السعفة من الخمسينات

يسودها حضور سعودي وغياب إماراتي

من فيلم يوسف شاهين «ابن النيل»
من فيلم يوسف شاهين «ابن النيل»
TT

السينما العربية... في سباق السعفة من الخمسينات

من فيلم يوسف شاهين «ابن النيل»
من فيلم يوسف شاهين «ابن النيل»

عند مدخل صالة ديبوسي في كل يوم عند الساعة السادسة والنصف مساءً يبدأ حشد النقاد والصحافيين الآتين لمشاهدة فيلم المسابقة بالتجمع عند الرصيف. مساحة صغيرة مزعجة للمارين كونها ليست أكثر من رقعة من الرصيف؛ ما يعني أن العابرين مضطرون للمشي في الشارع لكي يتقدموا إلى حيث يقصدون.
وهي مزعجة أكثر إذا ما كانت الشمس قوية لأن الواقفين بانتظار أن تُـفتح أبواب الصالة يشعرون بالحر حتى ولو ارتدوا قمصاناً قصيرة الأكمام. ومزعجة أكثر وأكثر إذا ما كانت ممطرة. لا سقف ولا مظلات كافية تقي الأبدان من الماء الهاطل.
على ذلك، هناك من يقصد هذا المكان ويقف منتظراً فتح البوابات قبل ساعة أو أكثر لسببين: الأول لديه تصوّر (أو ربما وهم) أن عليه أن يكون من أوائل الداخلين لكي يجلس في المكان المعتاد بالنسبة إليه.
الثاني هو أن مواعيد تُضرب هناك والأصدقاء يلتقون كما لو كانوا في مقهى بلا كراسي.
«ماذا شاهدت اليوم من الأفلام؟»
السؤال التقليدي الأول وبناءً على جوابه ينطلق الثاني «وهل أعجبك؟». ويليهما نقاشات غير حادة تتخللها ضحكات قبل الانتقال إلى موضوعات أخرى تشمل السفر إلى مهرجان لاحق، وشؤون العمل وذكريات الأيام التي مضت وصولاً، كما نقول في لبنان، إلى «إيجار البيت».
القمر المفتقد

يستقي المرء من هذه الأحاديث اليومية نسخة غير رسمية من مشاغل النقاد والسينمائيين. هناك محاور عدة، لكنها ليست كثيرة. وهي تختلف من عام إلى آخر. بعضها عربي الصلة. مثلاً الحديث عن هذا الانفتاح السعودي ومستجداته والآمال المعلقة عليه، مثل عودة المخرج الدنماركي لارس فون تراير إلى «كان» بعد مقاطعة المهرجان له منذ أن تحدث عن النازية بإعجاب. كذلك، تناهى إلى سمعي الحديث عن التغييرات التي وقعت في برامج العروض الرسمية بحيث لا تترك المجال لهواة التغريدات إفساد متعة السينمائيين عبر تغريداتهم التي عادة ما تكون ساخرة أو سلبية.
لكن المحور الأكثر ترداداً هذا العام هو الغياب الملحوظ للوفد الإماراتي الذي كان يمثّـل مهرجان دبي. أجانب يسألون وعرب يجيبون، لكن إذا ما كانت الأسئلة واضحة (وهي من نوع «لماذا تم إلغاء مهرجان دبي هذه السنة؟»)، فإن الإجابات مبهمة، ليس بالاختيار، بل لتعدد الروايات ولعدم وضوح الصورة.
هناك من يعتقد أن هناك أزمة مالية تقف وراءه، ومن يعتبر أن دورته الأخيرة، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي ستكون آخر دوراته، في حين يؤكد آخرون ما ورد في الإعلام الرسمي للإدارة الجديدة من أن الدورة الخامسة عشرة ستقام فعلاً في‫ عام 2019. ‬
مهما كان الحال، فإن الجميع يشعر بغياب المركز الإعلامي للمهرجان الذي كان يُقام في «قرية المهرجان» والذي كان بيتاً للفيف كبير من الإعلاميين العرب وغير العرب يؤمونه كل يوم للبحث والنقاش.
بين كل المراكز العربية الأخرى (مصرية، لبنانية، مغربية، تونسية، جزائرية) كان المركز الإماراتي أكبرها وأكثرها ازدحاماً كل يوم. لم يقصّـر أي من الأفراد الذين نظموه وأشرفوا عليه أو عملوا فيه حيال أي مسألة إعلامية أو ثقافية أو فنية. أقاموا مؤتمرات. وزّعوا منشورات ترويجية، تباحثوا مع وفود أجنبية تنوي حضور الدورة المقبلة وشاهدوا الأفلام لاختيارها، وكانوا دائماً يختارون ما يؤمّن شغف الجمهور في دبي ويوطد سمعته في الخارج.
هذا تأجل، لكن ليس من قبل أن يخوض التجربة الآن مركز إعلامي سعودي مماثل يحضر رسمياً للمرّة الأولى، ويتبلور سريعاً كأحد أهم مراكز الدول المشتركة في المهرجان.
هذا النوع من الحضور العربي يتوسم لا مجرد التواجد المكاني في احتفاء كبير كاحتفاء «كان»، بل أيضاً الحضور كحالة إعلان وتمهيد إعلامي واجتماعي للخطط الجارية لتوسيع رقعة المبادرة التي أقدمت عليها المملكة مؤخراً بما يحوّل السوق السعودية (الذي يبلغ عدد قاطنيه أكثر من 33 مليون فرد) إلى نشاط متعدد الجوانب والفوائد.
تاريخ من المشاركات

على الصعيد الآخر، يتميّـز المهرجان الفرنسي هذا العام بتعدد المشاركات الفيلمية العربية. هناك فيلم واحد على الأقل حين تلقي نظرتك على أي قسم من أقسام المهرجان الرئيسية. فيلمان في المسابقة الأولى («يوم الدين» لأبو بكر شوقي و«كفر ناحوم» لنادين لبكي) وفيلمان في مسابقة «نظرة ما». («صوفيا» للمغربية مريم بن مبارك و«قماشتي المفضلة» للسورية غايا جيجي) ثم فيلم في قسم «أسبوع النقاد» («يوم زواج» للجزائري إلياس بلقادر). في قسم «نصف شهر المخرجين» نجد فيلماً واحداً («ولدي» للتونسي محمد بن عطية). هذا عدا عن العروض الموازية والخاصة، وتلك التي تنتمي إلى عروض لأفلام قصيرة، ومن بينها يوم يعرض فيه مخرجون سعوديون تسعة أفلام في احتفاء تشجيعي خاص.
هناك من يقول إن هذا الاشتراك ضعيف بالمقارنة مع حجم الأفلام المعروضة رسمياً (نحو 64 فيلماً وعلى نحو غير رسمي في السوق والعروض الخاصة (قرابة 300 فيلم). لكن الواقع هو أن المسألة ليست بالضرورة عددية تتعلق بكم فيلماً عربياً استطاع الوصول إلى الشاشات الرسمية، بل بحقيقة أن بعضها يتنافس داخل المسابقة الرسمية والبعض الآخر في جوار هذه المسابقة رسمياً.
وجود فيلمين عربيين متنافسين في الدورة ذاتها كما الحال هذا العام مع «كفر ناحوم» لنادين لبكي و«يوم الدين» لأبو بكر شوقي أمر يشبه الحصان المجنح في ندرته. هذا التنافس بين فيلمين عربيين في عام واحد حدث مرتين فقط من قبل. لكنه لم يحدث بين فيلمين كل من بلد مختلف.
في عام 1952 قام يوسف شاهين بعرض فيلمه المبكر «ابن النيل» بطولة شكري سرحان، وفاتن حمامة، ويحيى شاهين، وفي المقابل، عرض أحمد بدر خان فيلمه العاطفي «ليلة غرام» مع مريم فخر الدين، وجمال فارس، وزينب صدقي.
بعد عامين تواجه يوسف شاهين مع صلاح أبو سيف. الأول عبر «صراع في الوادي» (مع عمر الشريف وفاتن حمامة أيضاً) والثاني عرض «الوحش» مع أنور وجدي وسامية جمال.
هناك أفلام مصرية أخرى تم عرضها في تاريخ مهرجان كان، كثير منها ليوسف شاهين (الذي نال جائزة تقديرية عن جل أعماله، لكنه لم يفز بالسعفة عن فيلم معين) وسابقاً لكمال الشيخ وصلاح أبو سيف (مرة أخرى).
أما لبنان، فتمثل داخل المسابقة بفيلمين لجورج نصر، هما «إلى أين» (1957) و«الغريب الصغير» (1962).
غني عن القول إن السعفة الذهبية لم تمنح لأي فيلم من هذه المذكورة والوحيدة التي إنتاج عربي كامل وقعت في الدورة الثامنة والعشرين سنة 1975 عندما اختطفها الجزائري محمد لخضر حامينا عن «وقائع أيام الجمر».
«يوم الدين»، الذي عُـرض يوم أول من أمس (الأربعاء)، جاء مذهلاً في حد ذاته (نقده أدناه): دراما واقعية مؤلمة وجيدة الصنعة في الوقت ذاته. أما فيلم نادين لبكي «كفر ناحوم» فلا نعرف عنه شيئاً حتى الآن وعروضه ستقع في الأيام الأخيرة من المهرجان. قد يأتي بدوره جيداً ومفاجئاً وهذا لن يكون غريباً على مخرجة قدّمت سابقاً ما يليق بمكانتها وما تمثله لسينما لبنانية موجودة رغم حصار الظروف.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.