بعد البيان الذي صدر عن منظمة «إيتا» الباسكية تعلن فيه حلّ نفسها، في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، منهية خمسة عقود من الكفاح المسلّح ضد ديكتاتورية الجنرال فرانكو، ثم ضد الديمقراطية اليافعة والمترنحة لسنوات، ومئات عمليات الاختطاف والتفجيرات الإرهابية التي أوقعت 853 قتيلاً بين عسكري ومدني، وبعد كشفها عن مخابئ أسلحتها في الأراضي الفرنسية التي كانت ملاذها في وجه ملاحقات أجهزة الأمن الإسبانية، أُسدِل الستار أمس عن المشهد الأخير من الكابوس المديد الذي عاشته إسبانيا عندما أعلنت آخر المنظمات الإرهابية في أوروبا تخلّيها نهائياً عن أعمال العنف وقررت تسليم ترسانتها، وطلبت الغفران من ضحاياها.
المكان الذي اختارته «إيتا» للفصل الختامي في هذه المسرحية التي تسببت في وقوع مئات القتلى وآلاف الجرحى واليتامى والأرامل من غير أي حصيلة سياسية تُذكر، هو قصر من مطالع القرن الماضي يقع في ضاحية مدينة بايونا من أعمال بلاد الباسك الفرنسية. وقد جاء في البيان الذي صدر عن الناطق بلسان مجموعة الاتصال الدولية التي لعبت دوراً أساسياً في تيسير الوصول إلى هذه المرحلة: «نحن على يقين من أن الباسك، شعباً وأحزاباً سياسية، قد بذلوا جهداً كبيراً لتذليل الصعاب والتقدم نحو السلام العادل والدائم في ظروف كانت وما زالت صعبة».
اللقاء الذي اختارت له «إيتا» أن يكون في الجنوب الفرنسي الذي كان قاعدتها الخلفية وملاذها في وجه ملاحقات قوى الأمن الإسبانية، والذي هو كذلك جزء من «الوطن الباسكي» الذي تطالب باستقلاله، جاء تتويجاً للجهود التي بدأت في خريف عام 2011، عندما انعقد مؤتمر دولي للسلام في مدينة سان سيباستيان بمشاركة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، والزعيم السابق للذراع العسكرية للجيش الجمهوري الآيرلندي جيري آدامز، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، أعلنت «إيتا» في أعقابه تخلّيها عن العمل المسلح. وفي العام الماضي، سلّمت المنظمة الباسكية ثلاثة أطنان من المتفجرات وآلاف الصواعق وكميات كبيرة من الذخيرة كانت مخزّنة في مخابئ على جانبي الحدود الإسبانية - الفرنسية.
كان واضحاً منذ بداية الفصل الأول من هذه العملية حرص «إيتا» على أدقّ التفاصيل الاستعراضية واجتذاب أكبر قدر ممكن من التغطية الدولية لمشروعها الانسحابي استعداداً لمرحلة جديدة من النشاط السياسي، إثر الهزائم القاسية التي ألحقتها بها أجهزة الأمن الإسبانية، خصوصاً بعد التعاون الوثيق مع الأجهزة الأمنية الفرنسية في السنوات الأخيرة. وقد بلغت تلك التفاصيل الاستعراضية ذروة رمزيتها عندما وقع اختيار «إيتا» على واحدة من أبرز قادتها التاريخيين، سوليداد إيباراغيري، لتلاوة البيان النهائي الذي أعلنت فيه «ختام مسيرة الكفاح المسلح».
وفي سيرة إيباراغيرّي المولودة بُعيد ظهور «إيتا» أنها وُلِدت في كنف عائلة كرّست حياتها للمنظمة الباسكية، ولها ولد من أحد القياديين البارزين في الحركة، وهي متهمة بأربع عشرة عملية اغتيال.
وفي سياق تحضيرها لهذا اللقاء، كانت «إيتا» قد أصدرت بياناً منذ أسبوعين تطلب فيه «الغفران من المواطنين الذين لم تكن لهم مسؤولية في النزاع»، واعترفت بما ألحقته من «ضرر لا يعوّض خلال مرحلة الكفاح المسلح». كما جاء في البيان: «ندرك أننا خلال تلك الفترة تسببنا بألم كبير وخسائر فادحة. نريد أن نعرب عن احترامنا للموتى والجرحى والضحايا التي أوقعتها تلك العمليات». وأضافت: «في ذلك النزاع السياسي والتاريخي كان القهر سائداً قبل نشوء (إيتا) واستمرَّ بعد أن أوقفت اغتيالاتها». وكان لافتاً، ومستغرباً، ما جاء في البيان عن القصف الذي تعرّضت له مدينة غرنيكا (خلّدها بيكاسو في لوحته الشهيرة) الباسكية إبّان الحرب العالمية الثانية على يد الطيران النازي الذي قصفها بوحشية موصوفة، نزولاً على طلب الجنرال فرانكو، بحيث لم يعد فيها سوى شجرة ما زالت إلى اليوم رمزاً للصمود الباسكي: «إن الأجيال اللاحقة لقصف غرنيكا قد ورثت ذلك العنف وما خلّفه من عذاب، لكن من واجبنا اليوم أن نبني مستقبلاً أفضل لمن يأتي بعدنا».
وقد ألحقت «إيتا» بيانها بمذكرة تشرح فيها الأسباب التي حدت بها لطلب الغفران من ضحاياها، طالبة «كشف الحقائق والانتصاف لضحايا الباسك عن العنف الذي تعرضوا له ولم يعلن أحد مسؤوليته عنه». لكنها رفضت الكشف عن ملابسات مئات العمليات التي ما زالت طي الغموض «لأن الوشاية انتحار سياسي لا يمكن أن نقبل به».
وقد أثارت تلك المذكرة احتجاجات واسعة وانتقادات شديدة لما وُصف بأنه محاولات من «إيتا» لتبرير جرائمها «وإضفاء صورة كفاحية على أعمالها الإرهابية».
أبناء الضحايا وذويهم رفضوا في غالبيتهم بيان «إيتا» لأنه «يساوي بين الضحية والجلاد»، واعتبروه «مناورة لتلميع صورتها» واعتذاراً تكتيكياً للعودة إلى العمل السياسي من باب واسع بعد الهزيمة التي مُنِيَت بها، وفشلت في تحقيق أهدافها.
ورأى البعض أن الملاحقات القضائية يجب أن تستمر حتى كشف كل الحقائق ومحاسبة المسؤولين عن كل الجرائم، وأن «هذا الاعتذار الذي فرضه فشل (إيتا)، وانهيار بنيتها العسكرية وتلاشي التأييد الشعبي لمشروعها، لا يمكن أن يشكّل صفحاً عمّا ارتكبته».
والدة أحد رجال الحرس المدني الذي اغتالته «إيتا» في واحدة من آخر عملياتها عندما أطلق أحد أعضاء المنظمة النار عليه من الخلف، قالت: «حاولتُ، لكن لا قدرة لي على النسيان أو على الغفران... لقد دمرّوا حياتنا». أما المنسّق العام للقوى القومية والاستقلالية في بلاد الباسك، آرنالدو أوتيغي، فقد رأى في خطوة «إيتا» حدثاً تاريخياً «لا سابق له في تاريخ المنطقة»، ودعا الجميع إلى تحمل مسؤولياتهم.
- الحكومة الإسبانية: هزيمة عصابات الإرهاب
الحكومة الإسبانية، من جهتها، أعربت عن ارتياحها للبيان واعتبرت أن هذه الخطوة هي «ثمرة سيادة القانون وكرامة الضحايا التي ألحقت الهزيمة بالعصابة الإرهابية». أما الأمين العام للحزب الاشتراكي، بيدرو سانتشيث، فقد رأى في بيان «إيتا» اعترافاً بـ«أن الديمقراطية الإسبانية هي التي قضت على (إيتا)»، لكنه حذّر من «أن القتلة ليس من حقهم أن يعيدوا كتابة تاريخ بلاد الباسك بما يناسب أهدافهم ويغسل آثامهم».
وفي الوقت الذي أعلنت فيه المفوضية الأوروبية عن ارتياحها لهذه «الخطوة نحو السلام وسيادة القانون في إسبانيا وأوروبا»، كان لافتا البيان الذي صدر عن أساقفة المقاطعات الباسكية طالبين فيه المغفرة عن «حالات التواطؤ والغموض والإهمال» التي صدرت عن بعض أفراد الكنيسة خلال سنوات إرهاب «إيتا». وكانت العلاقات المتينة أساساً بين نظام الجنرال فرانكو والكنيسة الكاثوليكية قد شهدت توتراً شديداً عندما بدأت تظهر دلائل على التقارب بين الكنيسة الباسكية ومنظمة «إيتا»، حيث كانت الكنيسة تحجم باستمرار عن إدانة أعمالها الإرهابية، وغالباً ما تحاول تبريرها في المواعظ التي كان لها عميق الأثر في المجتمع الباسكي الذي كان شديد التعاطف مع «إيتا» طوال سنوات الديكتاتورية. كما ثبت غير مرة أن بعضاً من رجال الدين الباسك قد وفّروا الحماية والتغطية لعناصر من «إيتا» كانت تطاردهم السلطات الإسبانية.
لا شك في أن إعلان «إيتا» تخلّيها نهائياً عن أعمال العنف وطلبها الغفران عن أفعالها والاعتذار من الضحايا، رغم اقتصار الاعتذار على «الضحايا الذين لم تكن لهم مسؤولية مباشرة في النزاع»، هي أنباء سارة بالنسبة للمجتمع الإسباني الذي عاش سنوات من الرعب والانقسام الحاد في صفوفه. ولا بد من التذكير بأن إرهاب المنظمة الباسكية بلغ ذروته وأقصى عشوائيته خلال السنوات الأولى من النظام الديمقراطي بعد وفاة الجنرال فرانكو وإعلان الملكية الدستورية، مما جعل المجتمع الإسباني يحبس أنفاسه عند كل عملية إرهابية خوفاً من عودة الجيش إلى الإمساك بزمام السلطة متذرّعاً بضرورة الحفاظ على الأمن لينهي المشروع الديمقراطي الذي كان قد قبل به على مضض.
ولا يغيب عن أحد أن فصول مشهد تلاشي «إيتا» تتعاقب في عز احتدام أزمة انفصالية أخرى في إقليم كاتالونيا الذي كانت إسبانيا تعتبره «قدوة» بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى، خصوصاً إقليم الباسك، من حيث نهجه المسالم وطبيعته التوافقية.
وقد حرصت الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام الإسبانية منذ أسابيع على عدم المقارنة بين الحالتين الباسكية والكاتالونية، وأحجمت عن أي تلميح أو استخلاص للعِبر من المقاربتين اللتين تشكلان التحدي الأكبر للنظام السياسي الإسباني منذ عقود.
- الاعتراف بالفشل
العبرة الأساس من قرار «إيتا» هي الاعتراف بالفشل في تحقيق الأهداف السياسية عن طريق استخدام القوة. والرسالة، غير الموجهة، إلى الانفصاليين في كاتالونيا أنه لا مجال لتجاوز القانون من أجل الوصول إلى الغايات السياسية، علماً بأن الحركة الانفصالية الكاتالونية لم تلجأ قطّ إلى استخدام العنف في مطالبها.
ومن غير المتوقع أن يلمس المجتمع الإسباني أي تداعيات فورية لخطوة «إيتا». فهناك مئات الملفات القضائية التي لم تحسم بعد، والعمليات التي لم تنجلِ ملابساتها، فضلا عن الانقسام الحاد الذي ما زال متجذراً في المجتمع الباسكي، والذي لن يكون من السهل تجاوزه في القريب المنظور. ومن علامات هذا الانقسام المرشح للظهور والتفاقم في أي مناسبة، الاعتداء الذي تعرض له أحد أفراد الحرس المدني وزوجته أخيرا في إحدى المدن الباسكية، والاحتفالات التكريمية الحاشدة التي تُنظّم كلما خرج من السجن أحد أعضاء المنظمة بعد إنهاء مدة عقوبته.
أن تتخلى «إيتا» نهائياً عن أعمال العنف لا يعني أنها تخلت عن مشروعها السياسي، وهي قد قطعت الشك باليقين عندما جاء في بيانها الختامي أن «النضال من أجل استقلال بلاد الباسك لم يبدأ مع (إيتا)، ولن ينتهي مع نهايتها». ويتبدّى بوضوح من الخطوات المدروسة بدقة والتصريحات التي صدرت عنها في الفترة الأخيرة، أنها تمهّد لمرحلة جديدة من العمل السياسي يُرجّح أن تكون على أقصى يسار القوى والأحزاب الباسكية.
وقد بدأت تظهر بوادر تحديد المواقع من خلال التصريحات التي صدرت في الأيام الأخيرة عن القوى والأحزاب الباسكية.
رئيس الحكومة المحلية وزعيم الحزب القومي الباسكي، وهو أكبر الأحزاب في الإقليم، رأى أن «أخشى ما تخشاه (إيتا) هو اقتناع المجتمع الباسكي بأنها لم تنفع لشيء»، وحذّر من مغبّة التمييز بين ضحايا العنف الذي ارتكبته «لأن في ذلك بذور امتداد الانقسام واهتزاز التعايش في المجتمع الباسكي».
ملامح الانقسام تبدّت، داخل إقليم الباسك وخارجه، في مواقف الأحزاب والقوى السياسية من ملف سجناء «إيتا» الموزعين معظمهم في معتقلات خارج المقاطعات الباسكية ضمن سياسة الحكومة الإسبانية التي عمدت منذ سنوات إلى إبعادهم عن أماكن إقامتهم الأصلية مما كان له كبير الأثر في إضعاف المنظمة وأسهم في هزيمتها.
القوى القريبة من «إيتا» لمحت إلى أن قرار المنظمة حل نفسها يجب أن يقابَل بخطوة جريئة من الحكومة المركزية للعفو عن السجناء وطي صفحة الماضي بصورة نهائية. الأحزاب القومية المعتدلة دعت إلى إعادة النظر في سياسة الإبعاد لتقريب السجناء من الأمكنة التي تقيم فيها عائلاتهم، فيما اعتبرت القوى المحافظة أن «نظاماً ديمقراطياً راسخاً لا يمكن أن يجازي الذين ارتكبوا مئات الاغتيالات وعمليات الاختطاف بقانون يعفيهم من مسؤولياتهم أمام القانون». وقد سارع الأمين العام للحزب الاشتراكي المعارض إلى مناشدة جميع الأطراف التهدئة حول ملف السجناء خشية من «تضييع هذه الفرصة التاريخية لإرساء قواعد راسخة للتعايش السلمي بعد عقود من التضحيات والعذاب والخسائر».
- «إيتا»... التأسيس والاغتيالات و سياسة الابتزاز
تأسست منظمة «إيتا» عام 1959 في مدينة بيلباو على قاعدة ما كانت تُسمّى «الحركة الثورية الباسكية للتحرير الوطني». هدفها إعلان دولة مستقلة تضّم المقاطعات الباسكية في الشمال الغربي من إسبانيا والجنوب الغربي من فرنسا، ومناهضة نظام الجنرال فرانكو الذي نهج سياسة قمع أمني وثقافي شديدة في إقليم الباسك منذ تولّيه الحكم بعد انتصاره في الحرب الأهلية.
ارتكبت «إيتا» أولى عملياتها في عام 1968 عندما أقدمت على اغتيال أحد أفراد الحرس المدني، وكانت آخرها في فرنسا على بعد 50 كلم من باريس خلال مواجهة مع قوى الأمن الفرنسية التي كانت تطارد إحدى مجموعاتها التي سطت على مصرف، حيث قتلت جندياً فرنسياً.
وقد بلغ عدد القتلى، بين مدنيين وعسكريين، الذين ذهبوا ضحية أعمال «إيتا» 853، إضافة إلى نحو سبعة آلاف جريح.
العملية الأبرز في تاريخ «إيتا» كانت اغتيال رئيس وزراء الجنرال فرانكو وخليفته المرتقب وقتئذ الأميرال كارّيرو بلانكو بمدريد في 12 ديسمبر (كانون الأول) 1973، بعيد زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر إلى العاصمة الإسبانية. وقد شكّلت تلك العملية نقلة نوعية في سجل المنظمة، إذ وضعت عبوة ناسفة قوية تحت الطريق التي كان يسلكها كل يوم الأميرال بلانكو، انفجرت عند مرور سيارته التي ارتفعت عشرات الأمتار ورست على سطح أحد المباني. وكانت المجموعة التي نفذّت العملية قد حفرت نفقاً طويلاً علي مقربة من السفارة الأميركية أوصلت من خلاله العبوة إلى المكان المحدد. وقد أسهمت تلك العملية التي كانت ضربة قاسية لنظام فرانكو في تعزيز صورة «إيتا» كطرف بارز في مناهضة النظام الديكتاتوري.
وما زالت هناك 224 عملية من التي ارتكبتها «إيتا» لم تكشف ملابساتها بعد، ولم تُطوَ ملفاتها القضائية. ويبلغ عدد السجناء من المنظمة 297، منهم 53 يقضون عقوباتهم في السجون الفرنسية، وواحد في البرتغال، فيما البقية موزعون على السجون الإسبانية ومعظمهم خارج المقاطعات الباسكية.
وكانت «إيتا» تعتمد نظاماً تمويلياً يقوم على ابتزاز الشركات والأثرياء والسطو على المصارف وطلب فدية مالية للإفراج عن الرهائن المخطوفين. ويُقدّر أنها جمعت نحو 180 مليون دولار منذ تأسيسها، وأن ميزانيتها السنوية كانت تناهز 5 ملايين دولار.