ماريو فارغاس يوسا... إخفاق فكري ورواية لا تليق بحامل نوبل

مقالاته السياسية وروايته الأخيرة في ترجمة إلى الإنجليزية

ماريو يوسا  -  غلاف الكتاب
ماريو يوسا - غلاف الكتاب
TT

ماريو فارغاس يوسا... إخفاق فكري ورواية لا تليق بحامل نوبل

ماريو يوسا  -  غلاف الكتاب
ماريو يوسا - غلاف الكتاب

يحتفي ماريو فارغاس يوسا في ثمانيناته منتشياً بالمنجز الروائي الذي قدمه إلى اليوم. فقد نشر صاحب (أحاديث في الكاتدرائيّة - 1969) و(حرب نهاية العالم - 1981) و(من قتل بالومينو موليرو - 1986) 18 رواية، أصبح بعضها جزءاً من كلاسيكيات أدب أميركا اللاتينية، وأتت له بتكريمات كثيرة تُوجت بالأرفع من نوعها في العالم، جائزة نوبل للآداب 2010، بالإضافة إلى كتلة الأموال الهائلة التي تتدفق عليه من بيع حقوق كتبه، التي سمحت له بقضاء شيخوخة هنيئة. ويحق بالطبع ليوسا، الذي خطّت له الأقدار بقاءً متطاولاً، أن يكتب ما شاء، فذلك خياله وتلك فضاءاته، لكن القراء لا يعذرون، وهم يتوقعون من الروائي الواقف على بوابة الغروب الأخير نصاً نهائياً يكون كما خلاصة تجربة العيش، وموقفاً حاسماً من مفارقات العالم والوجود والعدم. ولذا تلقف القراء كتابيه الجديدين المترجمين إلى الإنجليزية لأول مرة باهتمام شديد، وحرصت دور الكتب على عرضهما في واجهاتها الرئيسة، لكن الغالبية ممن أسعفهم الحظ بالوصول إليهما أصيبت بخيبة أمل، عكستها المراجعات القاسية للكتابين في صحف العالم الأنغلوفوني الكبرى.
مجموعة المقالات المترجمة تحت عنوان «سيوف ويوتوبيات: رؤى من أميركا اللاتينية» (ترجمتها للإنجليزية آنا كوشنر) تغطي نماذج من أعمال يوسا الصحافية، عبر مهنة امتدت لنصف قرن، ومعظمها يعالج قضايا سياسية خارج التداول، ويميل فيها إلى تسويق مواقفه الليبرالية، ودعمه للديمقراطيات على الطراز الغربي، من خلال إطلاق سهام نقده الحادة تجاه حكم القادة الديكتاتوريين في القارة، والدفاع عن المثلية الجنسية، والدعوة لتشريع الماريجوانا!
بغير رائحة اللون السياسي الباهت التي تفوح من هذي المقالات، والتي ما عادت تقنع أحداً بعد أن دمر تلاميذ ميلتون فريدمان القارة، أو كادوا، فإن هجوم يوسا غير المبرر على فيدل كاسترو، والتجربة الاشتراكية الكوبية التي وضعها في سلة واحدة مع نظام أوغيستو بينوشيه الفاشي في تشيلي، يمثل سقطة فكرية لا تغتفر. وربما كانت وقتها قد تسببت له بفقدان الود والقطيعة مع الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وغيره من مثقفي اليسار اللاتيني. وحتى عندما تقرأ هذه المجموعة المختارة من المقالات بعين الأدب، دون اعتناء بانحيازاتها السياسية المرحلية، فإن سبكتها تبدو أضعف بكثير من تلك المتانة التي تميز كتابات يوسا الروائية عادة، وقدرته المذهلة فيها على أن يصنع كوكباً من هباءة.
رواية «الحي»، أو «حي الخمسة أركان» كما في الأصل الإسباني الذي صدر عام 2016، التي قدمتها المترجمة إيديث غروسمان لقراء الإنجليزية الشهر الماضي، بدت أفضل حالاً لناحية متانة السرد والإمساك برشاقة النص، حيث كل حرف مصطف في مكانه تماماً، لكنها لن تكون من كلاسيكيات أدب أميركا اللاتينية، وبالتأكيد هي ليست تلك الرواية النهائية التي توقع الكل أن يُودعها الساحر البيروفي يوسا خلاصة التجربة، بل وذهب بعض النقاد إلى وصفها بأدب يليق بالمجلات اللامعة الأوراق التي تقرؤها النساء.
ليس فضاء الرواية حتماً سبب خَيْبَة أمل قراء يوسا، فهو اختار مساحة ثرية لتقاطع تاريخي وطبقي وسياسي في بيرو، بلاده التي يعرفها كخطوط يده. فتلك مرحلة التسعينات، وفترة حكم ألبرتو فوجيموري، الذي خسر أمامه يوسا شخصياً الانتخابات الرئاسية بعد دورة ثانية في 1990، وشهد بعدها رأي العين ذلك الفساد الذي تسرب إلى كل مرفق من مرافق الحياة بسبب هيمنة فريق فوجيموري على مفاصل السلطة، وانطفاء جذوة نضال حركات اليسار، التي تحولت كما مشجبٍ تُعَلّقُ عليه كل أعمال الخطف والقتل والتضييق على الحريات العامة، بغض النظر عن مرتكبيها، وتَحوّل الصحافة إلى مخلب قط للمهيمنين، غايته الإسفاف والإساءة والابتزاز.
ويوسا في «الحي» اختار تحديداً الإضاءة على التناقض الطبقي السافر بين علية القوم وبقية السكان، حتى لكأن كلاً منهما يعيش في كوكب آخر تماماً، وهذه كلها مكونات كان لها أن تتحول في يد ساحر لغة مثله إلى إلياذة تخلد المرحلة التاريخية، وتغوص فيما وراء أحداثها وشخوصها نحو فلسفة وجود كاملة، لكنه هنا تحديداً أخفق. فبدلاً من أن يجلس في علياء الروائي المؤرخ على قمة أولمب اللغة، ليصف لنا أحوال العالم الزائل في حي الأركان الخمسة الشعبي، في ليما العاصمة، الذي هو صورة كل حي شعبي في مدن البشر جمعاء، وقع يوسا منساقاً في فخ تسديد حساباته الفردية وخصوماته مع عهد فوجيموري. فهو يدين تركز السلطة، لكنه لا يبحث في سر تلك الحالة، فكأنها مسألة خصومة خسارة الانتخابات لا أكثر، ثم يباين بين الطبقات، فيجعل الأثرياء - الذين يحب رفقتهم - أنقى وأجمل وأكثر براءة، رغم تهتكهم الجنسي المخيف، وكأنهم خلقوا هكذا مغفورة خطاياهم، بينما يجمع سلة كبيرة من النعوت المخزية يرمي بها دون رأفة على أكتاف شخصيات الطبقة الشعبية.
وتقترب شخصيات تلك العوالم المتوازية عند تصادفها في مسارات الأقدار، لكنها لا تلتقي أبداً، وإن حدث وتقاربت فهي تنتج علاقات مبتذلة منمطة لا تليق بالقلم الذي أبدع «حرب نهاية العالم». ويتجاهل يوسا بالكامل قصة التجربة الثورية البيروفية التي كانت في خلفية سرده للأحداث، ولا يُومي إليها إلا ليصفها بمجرد أعمال إرهابية قذرة دمرت اقتصادات البلاد المرتبطة بالعولمة والسوق الدولية. وحتى موضوعة الصحافة الصفراء التي كانت الخيط الرابط عبر تقاطعات الشخصيات والأحداث والأمكنة في (الحي)، فقد أفرغ فيها حقده على الصحافيين الذين كانوا سلقوه بألسنةٍ حداد أيام فوجيموري، فصورهم في أسوأ تقويم، وقسا عليهم بموتات بشعة، وجعلهم طبقة وضيعة طفيلية، فسادها ليس أساساً بسبب منظومة الهيمنة بقدر ما هو بنية داخلية لنفسيات أولئك الحالمين بصعود درجات السلم الاجتماعي، وتصادف أنهم يُحسنون الكتابة.
مع كل هذا الإخفاق - على مستوى المعالجة الفكرية إذا شئت - والانخراط بتصفية الحسابات الشخصية مع المرحلة التاريخية، تظل رواية «الحي» قادرة بفضل خبرة يوسا الأكيدة ومهارته على الإمساك بقلب وعقل قارئه، فلا يملك أن يضعها من يده ولو للحظة. كما أنه يبدع تحديداً في الفصول التي ضمت أحداثاً إيروتيكية، كما يلعب في الفصل ما قبل الأخير من الرواية على نموذج «التيلينوفيلا»، حيث يسرد ثلاثة أحداث متوازية معاً، متنقلاً بينها في كل فقرة وأخرى، وإن أحسن فعلاً بأنه اقتصر تلك التجربة المتعبة للقارئ على فصل واحد فحسب.
خيبة أمل الكثيرين بـ«الحي» ليس بقماشتها كمنتج أدبي، فهي رواية كان يمكن أن تكون وعداً بموهبة أدبية مبهرة لكاتب ناشئ، وإن انتصرت فيها الإيروتيكيات على السياسة، والحزازات على التحليل العميق، والثرثرة الهابطة على السرد المسبوك. لكن أن تأتي من قلم قامة مثل ماريو فارغاس يوسا تحديداً، وعن فترة تاريخية كان فيها صانعاً من صانعي تاريخ بلاده لا مجرد مراقب على هامش الأيام، فتلك عند محبيه أقرب إلى خطيئةٍ لا تغتفر. فهل هي عبث الواثق من قدرته على العبث، أم قد فرغت جعبة الساحر بعد ثمانين حولاً، فسئِم؟ لننتظر إذن روايته المقبلة، إن أمهلته الأيام ليكتب لنا سفر النهاية المؤجل.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.