من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز
TT

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

من التاريخ.. حروب الفكرة: توماس هوبز

يزداد إيماني يوما بعد يوم بأن الحدث التاريخي أو السياسي إما تسبقه فكرة ما وإما مجموعة أفكار تؤدي إليه وإما تنتج عنه مجموعة من الأفكار، وهذه ظاهرة إنسانية وتاريخية طبيعية ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال القرون الخمسة الماضية التي شكلت النظام الدولي وذلك حتى وصولنا لمرحلة العولمة، التي أصبحت لها فلسفتها السياسية والاقتصادية الخاصة ومبشروها الذين ينادون بها، وهو ما دفع مفكر مثل «فرنسيس فوكوياما» لاعتبار العالم قد وصل لمحطة النهاية للفكر فاستقرت عندها مبادئ الديمقراطية وآليات السوق الحرة والفكر الليبرالي، بعدما استطاعت هذه الآيديولوجية أن تهزم الآيديولوجيات المنافسة، وعلى رأسها الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية والشيوعية خلال الحرب الباردة، وهو نفس ما وصل إليه مفكر مثل «كارل ماركس»، ولكن بشكل عكسي عندما رأى في اعتناق البشرية مستقبلا للشيوعية المنتظرة نهاية لجدليته المادية والفكرية على حد سواء؛ وتقديري أن كل هؤلاء المفكرين قد ذهبوا لأبعد نقاط التفكير البشري، لأنهما حجما الإنسان ونزعوه قدرته على التنوع والتغيير والتحريك، وهي في تقديري محاولات فاشلة للتحجيم البشري.
ومن هذا المنطق، فإنني استأذن القارئ العزيز أن نتناول خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما يمكن تسميته عمليا «صراع الفكرة» التي ولَّدت لنا ما يسمى انتصار الآيديولوجية الليبرالية وآليات السوق الحرة، التي بدا كأنها تسيطر على الضمير الإنساني في أغلبية بقاع العالم بشكل قد يختلف معه البعض.
أيا كانت الآراء، فإنه مما لا شك فيه أن أوروبا شهدت خلال القرون الخمسة الماضية حركة فكرية هائلة، جعلت هناك صراعا فكريا حول مسيرة السياسة ما بين الفكر المحافظ والليبرالي والفاشي، ثلاثية آيديولوجية مؤثرة كان لها دورها في تطور أنظمة الحكم الأوروبية والدولية، ويمثل الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» المركز الأساسي للفكر السلطوي المحافظ الذي تظل أركانه الأساسية صالحة في تقدير البعض لعدد من المجتمعات، بينما ترى أغلبية أنه يؤسس للحكم الأوتوقراطي - السلطوي، الذي لا مكان له في عالم اليوم.
لقد ولد «هوبز» فكريا على هامش الثورة الإنجليزية التي أتت بعد ذلك بـ«أوليفر كرومويل» في نهاية المطاف بدلا من الملك «تشارلز الأول» الذي قُطِع رأسه على أيدي الثوريين، وقد بدأ «هوبز» فكره برفض الفكر الثوري، وهو ما جعل الكثير يعتبرونه ملكيا بسبب أفكاره المتحفظة ضد الثورة، ولكننا يمكن أن نحسبه اليوم على اعتباره ميالا للدولة أو السلطة المركزية أكثر منه للملك، فالملك بالنسبة له ما هو إلا تجسيد للدولة، خاصة أنه بعد سنوات في المنفى عاد ليعلن ولاءه للديكتاتور الديني «أوليفر كرومويل» باعتباره مخلصا سياسيا لإنجلترا الثورية من حالة الفوضى الممتدة والفراغ السياسي الذي أصابها.
وأيا كانت ميوله، فإن «هوبز» يظل يمثل فكرا محافظا شاملا يعرض لرؤية أساسية، بدأت من منطلق رئيس وهو عدم ثقته بالإنسانية، فلقد وصف حياة إنسان الفطرة، أو كما يحلو له تسميته «حالة الطبيعة»، بأنه شخصية أنانية وغير ملتزمة، هدفها الأساسي هو الحصول على أكبر قدر من السلطة، وهو شعور لا ينتهي إلا بموته، ومن ثم تكون حياته - كما وصفها - «وحيدة وفقيرة وقاسية وقصيرة»، ومن ثم جاء فكره الذي عبر عنه في كتابه «المارد Leviathan» ليعكس هذه الرؤية، فكان يقصد بالمارد هنا الدولة ذات السلطة، التي يرى أنها المنظم الوحيد للأفراد لكي يعيشوا حياة إيجابية ومنتجة، فكتب يقول: «إنني أضع التوجه العام للإنسانية الذي تسيطر عليه رغبة جارفة في السلطة تلو السلطة بشكل ممتد وغير منظم، وهو شعور لا ينتهي إلا بالموت...». ولذلك، فإن الفرد لا يمكن أن يضمن هذا القدر من السلطة أو الحياة الكريمة إلا بمزيد من السلطة، من هنا رأى هذا المفكر أن الفرد لن يكون في مأمن طالما غابت السلطة المدنية عن تنظيم العلاقات بين أفراده، وإلا فستصبح الحياة في المجتمع «حربا بين كل إنسان وآخر».
ولهذا، يقر «هوبز» بوجود اختلافات كبيرة بين العالم المادي والفرد، الأول يحركه نظام هندسي رياضي واضح الأبعاد، كذلك الجسد البشري فلديه البعدان المادي والنفسي، ودور الفرد في المجتمع أمر مختلف، فالنظام الاجتماعي مصطنع وليس طبيعيا، من ثم فإن الإنسان يجب أن يصل له من خلال القانون الطبيعي والحدس السياسي، وهو ما يشير إلى ضرورة إيجاد السلطة المنظمة بين أفراده من خلال ما وصفه بالعقد الاجتماعي، ولكن هذا العقد بالنسبة له كان يعني شكلا مختلفا، فبمقتضاه يدخل الأفراد فيه ويتنازلون عن بعض حقوقهم لصالح السلطة المركزية لتقوم بتنظيم «الكومنولث» أو المجتمع أو الدولة كما وصفها، ويكون لهذه السلطة دورها الواضح كخط فاصل بين أمن ومصلحة الفرد من ناحية مقابل المصلحة الجماعية للأفراد من ناحية أخرى، بحيث يتم التنازل عن بعض جوانب الفردية لصالح التوجه الجمعي.
ولكن فكر الرجل لم يقف عند هذا الحد، بل إنه كان على قناعة كاملة بأن هذه السلطة المركزية يجب أن تكون مطلقة، فالعقد الاجتماعي بالنسبة له لم يتضمن النيل من سلطة الحاكم، وهنا يؤكد الرجل ضرورة أن يكون القائم بأعمال الدولة شخصا قويا، يفضل أن يكون ملكا، لأن هذا لا يضع الأعباء على الدولة لكي تحكم من خلال مجموعة فيكون إرضاء كل فرد فيها على حساب الدولة ومصلحتها، وقد برر «هوبز» السلطة المطلقة بكلمات واضحة هي أن «رباط الكلمة أضعف من أي يواجه طموحات الفرد أو غضبه أو مشاعره الجياشة، وذلك من دون الخوف من قوة قادرة على استخدام العنف ضده»، وعندئذ فقط تكون لهذه الشخصية أو الحكومة القدرة على إبقاء السلام الاجتماعي وفقا لهوبز، ومن ثم منح الحاكم حق فرض العقوبات لكبح جماح الميول غير الاجتماعية داخل المجتمع، وقد وصل تقديس «هوبز» للدولة كمفهوم تنظيمي على اعتبارها أهم شيء على الأرض والخروج عليها يمثل خطيئة سياسية ومعنوية على حد سواء، فهي أهم من الكنيسة أو السلطة الدينية التي اعتبرها جزءا من الدولة أو الكومنولث وليس العكس، ومن ثم ضرورة أن تخضع سلطات الكنيسة الدنيوية للدولة بشكل واضح وصريح.
وواقع الأمر أن التخوف الذي ملأ هذا الرجل كان جارفا، فلقد وصل «هوبز» في تقديسه السلطة الحاكمة إلى الحد الذي دفعه لرفض أي نوع من أنواع الثورة، لأنه كان يعتقد أن الحاكم خارج نطاق العقد الاجتماعي، فهو عقد بين المواطنين أنفسهم لصالح السلطة المركزية التي يجب ألا تخضع له: «فالملك فوق الرعية» من وجهة نظره، كما أنه يجب ألا يشاركه في سلطته أي أجهزة أخرى، بما فيها البرلمان، وهنا كان الرجل واقعا تحت تأثير ظروف الثورة الإنجليزية، لأنه كان يرى أن من أسباب اندلاعها تقاسم السلطات بين الملك واللوردات ومجلس العموم (البرلمان)، وعندما كتب كتابه الشهير «ليفياثان» فإن كرومويل الثوري لم يكن قد بسط نفوذه على إنجلترا بعد بالشكل الكامل.
لعل من أكثر الانتقادات التي يسوقها البعض لنظرية «هوبز»، هي أنه رأى العالم بنظرة قاسية وموحدة من خلال معادلة السلطة المطلقة أو الفوضى المطلقة، ولكن هذا شيء طبيعي يحدث للمفكرين أثناء الثورات، ففي هذه الظروف وعندما تعم الفوضى البلاد عقب الموجة الثورية، فإن التركيز غالبا ما يكون على أهمية الحفاظ على كيان الدولة والسلطة الحاكمة فيها، ومن ثم فإن البعض قد يميل إلى فكر «هوبز» السلطوي إذا ما كانت الدولة في خطر على أساس أن أخطر ما يصيب الفرد السياسي مصيبتان، الأولى الحرب الأهلية التي يتبعها بشكل يكاد يكون حتميا تفكك أجهزة الدولة أو حتى الدولة ذاتها، وهو ما يعني في نهاية المطاف كارثة حقيقية ومحققة.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».