فريدا كاهلو... أسطورة في الحياة وتواضع في فن الرسم

معرض فني كبير لها في صالات القصر الملكي وسط ميلانو

فريدا كاهلو - من المعرض
فريدا كاهلو - من المعرض
TT

فريدا كاهلو... أسطورة في الحياة وتواضع في فن الرسم

فريدا كاهلو - من المعرض
فريدا كاهلو - من المعرض

حادثة الاصطدام التي تعرضت لها الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، التي يقام لها معرض فني كبير في صالات القصر الملكي وسط مدينة ميلانو الإيطالية، أثناء ركوبها حافلة الركاب التي كانت تستقلها، وهي شابة بعمر 18 عاماً عام 1925 مع زميل لها بعد خروجها من أحد المعاهد الطبية، كانت انعطافاً كبيراً في حياتها، فقد بدأت رحلة المعاناة الأليمة بسبب دخول قضيب معدني في عمودها الفقري مما أبقاها مكبلة بالجبس لمدة سنتين، إضافة إلى مرض شلل الأطفال الذي أصيبت به عندما كانت في السادسة من عمرها.
وكان والداها، وهما من المهاجرين اليهود الألمان، قد غادرا ألمانيا عام 1907 إلى هنغاريا حيث ولدت هناك عام 1907. وكان الأب، الذي أخذ عائلته ليهاجر من جديد باتجاه المكسيك عام 1910، مصوراً فوتوغرافياً ورساماً هيأ لها، بعد الحادث الذي جعلها حبيسة الفراش، حاملاً خشبياً يستند على فراشها لتمارس الرسم، وهي ترقد على ظهرها، وتحلق في مرآة معلقة بالسقف لترى حركات أصابعها وهي تمسك بالفرشاة وتضع على قماش الكانفس ألوانها التي أهداها لها والدها، حين كان يرسم قبل تفرغه للتصوير الفوتوغرافي. تركزت رسومها بالبورتريت الشخصي، بواقعية تحمل ضربات لونية تتسم بالقوة، إلا أن عملها الفني لا يتمتع بثراء لوني بقدر ما لهذه اللوحات من جمال أو محتوى إنساني أو علاقة بحياة إنسانة منكسرة، اعتمدت على إدخال الرموز الحيوانية التي كانت تدخل في الكثير من معتقدات الناس وقيمهم الاجتماعية آنذاك مثل الكلاب والقردة والببغوات وأحراش الغابات وحيوان الجدي. ورغم أن النقاد يصنفون أعمالها ضمن الاتجاه السريالي، إلا أنها تقول في سيرتها الذاتية: «لم أرسم أبداً أحلاماً، بل أرسم واقعي الحقيقي فقط».
في مجمل أعمالها التي وصلت أعدادها إلى مائة عمل فني، تبحث فريدا كاهلو، كما هو واضح في المعرض، عن الدهشة بمهارات سهلة تتمركز حول الذات وتتوزعها موضوعات أثيرة على الفنان نفسه، وهي المعاناة، والبحث عن أنوثة الجسد، والطابع المحلي الفلكلوري المكسيكي (المرأة، والأرض، والسياسة، والألم، والمرض). لقد ظلت فريدا كاهلو مأخوذة بالحماسة السائدة لدى الناس بمحبة فن الرسم الذي أكسب الأبنية جماليات متألقة وخيالاً إنسانياً عكس الحياة المكسيكية. وقد أنشأت هذه المشروعات الفنية ورشاً فنية متنقلة ومراكز لفن الجاليات وأماكن للعمران الفني الشعبي الحر، فازدهرت واتسعت حركة الفن التشكيلي في المكسيك في الثلاثينات بتأثير الفنانين، فنشأ اتحاد الفنانين ليضم نحو أربعة آلاف من المشتغلين بالفن حيث أنتجوا نحو 1300 رسم جداري على مدى خمس سنوات بالألوان والفسيفساء، لتكتسب العديد من الأبنية الشعبية حياة تألق وخيال إنساني تعكس طبيعة الحياة المكسيكية الضاجة بالألوان والحركة.
إلا أن فريدا كاهلو بعد أن تعافت بعد مرور فترة امتدت نحو عامين، تركت اهتماماتها بدراسة الطب لتتفرغ إلى الرسم، فانضمت عام 1928 إلى مجموعة فنية من الشباب المكسيكي لممارسة الرسم، وقد شجعها والدها على الالتقاء بأحد الفنانين الكبار، لتعرض عليه أعمالها لتقييم تجربتها، فسارعت إلى الالتقاء بالفنان ريفيرا الذي كان منشغلاً برسم واحدة من جدارياته وسط المركز التاريخي للعاصمة المكسيكية، حيث كان يحرص على الرسم على حوائط المباني الكبرى، وواجهاتها، لضمان ألا تتمكن الدولارات الأميركية من إخراج الأعمال الفنية من المكسيك إلى قاعات العروض الأميركية.
لقد كانت فترة ديمقراطية في الفن عكست الصراعات الديمقراطية ضد رجال الصناعة والتنظيمات الفاشية. وقد أتاحت الفرصة الأولى لعدد كبير من الرسامين المكسيكيين، ليرسموا لوحات على الجدران والتخلص من ضيق اللوحات المرسومة، وهي مثبتة على الحوامل، كما تخلصوا من جمهور جامعي التحف. وقد مكنت هذه الفترة التي دعمتها السلطات المكسيكية بعد الثورة الديمقراطية في 1910 - 1921 بإنجاز مجموعات من الرسوم الحائطية التي صورت على الأبنية العامة، ومن ثم فتح الباب أمام تيار من الفن الملحمي الذي يصور تاريخ الأمة وظروف حياة الناس وأشكال كفاحهم من أجل الحرية. ولم تقم قوة الفن على رعاية الحكومة وحدها، بل قامت أيضاً على ارتباطات الرسامين بالناس الذين كانوا يعيشون أشد ظروف الفقر والبؤس جوراً. وقد نظموا نقابتهم وهي نقابة العمال الفنانين والرسامين والمثالين المكسيكيين. وكان كل من الفنان ديغو ريفيرا وخوزيه كليمنت وألفارو سيكيروس على رأس المجموعة، فبنوا فنهم على التقاليد القديمة التي انتهجها الفن الهندي المكسيكي، جنباً إلى جنب الفنون الحفرية الشعبية التي تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، وكان هدفهم يتجلى في تثقيف الشعب وخلق ثقافة عميقة وغنية وديمقراطية. وقد مكنت هذه الموجة الجديدة عديداً من النساء من أن يعملن كفنانات. وقد كشفت هذه التوجهات الإنسانية في الفنانين، وفي أعمالهم، شيئاً من ثروة الثقافات القومية التي تجمعت لخلق ما يعد أكثر الأشياء إنسانية وديمقراطية في الحياة المكسيكية، وبرهنت من خلال سنوات قليلة على مقدار خصوبة ثروات الفن الخلاق بين أفراد الشعب، وعلى مقدار عمق تعطشهم للفن.
تزوجت فريدا كاهلو من الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا في 21 أغسطس (آب) 1929، وقد كان عمرها 22 سنة بينما كان عمر ريفيرا 42 سنة، ونتيجة لطباعها الصعبة، ولخيانته لها مع أختها تطلقا عام 1939، ولكنهما تزوجا من جديد في عام 1940 في سان فرانسيسكو. يذكر أن كاهلو كانت لديها ازدواجية جنسية مما ترتب عليه حدوث المشاكل أثناء زواجها بدييغو ريفيرا.
هكذا تتحول هذه الفنانة من خلال أجهزة الإعلام التي ظلت تنفخ بصورتها وعلاقاتها بالقائد الشيوعي تروتسكي وبعدد من الفنانين والأدباء تحولت إلى واحدة من الأساطير في عالم الفن، ليس من خلال أعمالها الفنية المتواضعة، بل لشخصيتها المتمردة وسلوكها الحر الذي اتسم بالغرابة واللاالتزام بأخلاقيات وعادات وقيم مجتمعها.
ورحلت فريدا إلى باريس في منتصف الأربعينات لإقامة معرض لها في عاصمة النور، فوجدت أن شهرتها قد سبقتها، حيث كان يلاحقها الصحافيون والمصورون في كل مكان، كما حدث لها في الولايات المتحدة، وهما البلدان الوحيدان اللذان زارتهما خلال حياتها القصيرة.
في باريس التقت بعدد من المشهورين من كتاب وفنانين، وقابلت الكاتب الوجودي جان بول سارتر، واعتبرها أندريه بريتون، منظر السريالية، واحدة من أتباع مدرسته، كما أن الفنان الإسباني بابلو بيكاسو أبدى اهتماماً كبيراً بها فأهداها قرطاً مميزاً صنعه بنفسه رسمته في العديد من أعمالها الفنية التي اعتمدت في أغلبها على صورتها الذاتية، حيث صورت نفسها في أكثر من شكل؛ وكانت تقول: إن ذلك هو وسيلة غير واعية لتحدي الموت الذي كان يتربص لها منذ بداية حياتها.
في آخر أيام حياتها، كانت تصرّ على أن تنقل وهي مستلقية على ظهرها في السرير بعد أن اشتد عليها المرض، ولكن رغم وصية الطبيب بعدم مغادرة السرير حضرت حفل افتتاح معرضها في المكسيك في العام السابق مباشرة لرحيلها، وأصرت، بعنادها المعروف، على الخروج بكرسيها ذي العجلات إلى إحدى المظاهرات الصاخبة في العاصمة المكسيكية، حاملة لافتة تطالب بالسلام احتجاجاً على تدخل وكالة المخابرات الأميركية في غواتيمالا بعد حركة انقلاب عسكري دبرته مخابراتها. وحين عادت إلى بيتها أصيبت بالتهاب رئوي حاد ففارقت على أثره الحياة في 13 يوليو (تموز) من عام 1954، وقد خلدها الشاعر الشيلي الشهير بابلو نيرودا بقصيدة رثاء حفرت على شاهد قبرها، كما خلدتها بعدد كبير من الصور الفوتوغرافية المصورة وفنانة المسرح الإيطالية تينا مادوتي التي هاجرت مع عائلتها المعارضة للفاشية من إيطاليا إلى المكسيك، ومن ثم إلى الولايات المتحدة 1942.
ولا يزال رماد جثتها محفوظاً إلى اليوم في جرة من الخزف في منزلها السابق، الذي حوّل إلى متحف يضم عدداً من أعمالها الفنية ومقتنيات عديدة من حياتها الخاصة.



الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».