أساطير من زمن خامل

«حكايات الحسن والحزن» الرواية الأولى لأحمد شوقي علي

أساطير من زمن خامل
TT
20

أساطير من زمن خامل

أساطير من زمن خامل

في «حكايات الحسن والحزن» الرواية الأولى للكاتب المصري أحمد شوقي علي، نطالع عالم الفقراء المعروف اصطلاحاً بـ«عالم المهمشين».
لطالما تناولت الرواية العربية، والمصرية خصوصاً هذا العالم، حيث يعيش الناس كفاحهم المرير بين ميلاد خطر على يد قابلة، وانسحابهم الكسير في نهاية الرحلة. بطولات يومية من فرط كثرتها وعاديتها تصبح غير مرئية حتى لمن يجترحونها؛ فهم يعيشون ببساطة دون أن يدركوا قيمة بطولاتهم؛ حيث الحياة فخ يجب التعايش معه حتى النهاية.
الكتابة عن حياة كهذه فخ آخر، نجت منه بعض الكتابات، بينما ذهبت كتابات كثيرة إلى النسيان؛ لأنها مثقلة بروح التعاطف السياسي حيناً، وبروح الطرافة أحياناً، دون عبرة ما.
وفي الرواية الجديدة الصادرة عن دار الآداب ببيروت، يطل خطر طرافة الروايات الشفاهية من الكلمة الأولى في العنوان «حكايات»، بينما يقدم المعطوفان «الحسن والحزن» وعداً بذلك التعاطف الذي تعرفه الواقعية الاشتراكية.
وفي متن الرواية، نرى ذلك العالم الذي لا ينطوي على شيء فذ: كامل شاب يتيم أخنف، ينطق اسمه خامل؛ فصار ذلك اسمه المعتمد من الآخرين. يهرب خامل من قريته عبر بحر النيل إلى مكان خالٍ هو «أرض الجوافة»؛ خوفاً من عمه الطامع في الميراث، وفي موجات القص نتعرف على من تركهم خامل وراءه: أمه «مسعدة» التي تسعد الآخرين دون أن يسعدها أحد، والأختان إخلاص وسيدة، والأخ الصغير الذي ولد باسم جابر في ليلة واحدة مع جابر آخر هو ابن الجارة، وقد اتفقت الجارتان أن تسميا ولديهما باسم واحد، لكن الطفل الآخر مات صبياً؛ فتطيرت مسعدة وغيرت اسم ابنها إلى سالم.
يشرع المهاجر في بناء بيته وتأسيس حياته، لكي يتمكن من جمع شمل أسرته، وتمضي الحكايات بطقوس والميلاد ووقائع الحب والغيرة، ومفاوضات الزواج المعتادة في عالم متقشف كهذا، حيث يمكن لملعقة ناقصة عن المتفق عليه في جهاز العروس أن تحول دون إتمام الزواج.
القارئ الذي سينتظر أفراحاً في هذه الحكايات لن يعثر عليها إلا متقشفة ومرتجلة وسط الأحزان، والذي سينتظر أعمالاً خارقة ووقائع حاسمة تصل بالحكايات إلى نهاية لن يجد سوى الدوران اللانهائي في حياة أسرة عادية ليس في عالمها أي إبهار، لكنه سيكتشف بعد أن يختبر لعبة الكاتب، جدوى المضي معه في الرحلة دون أن ينتظر شيئاً أكثر من متعتها، ومشاركة أبطال هذه الرواية في قبول هذا العالم الذي لا يكتمل حتى يتقوض، وفي التصالح مع ضعف الإنسان الفاني في مواجهة قدره العاتي، حيث «كل شيء قريب... الموت والحياة... المقبرة والقابلة. كذلك العودة أو الرحيل ـ الرواية ص 133».
الذي ينقذ هذا العالم من عادية وقائعه المعروفة لغالبية القراء، هو حشد من تقنيات سردية تزيح العادي صوب العجائبي.
تستفيد الرواية من تقنيات سرد «ألف ليلة وليلة» والقص الشعبي، فنرى توالد الحكايات والزمن الدائري الذي يوصل بداية الحكاية بنهايتها، وهناك التأسيس العجائبي لهذا العالم الواقعي منذ البداية؛ فقبل أن يتعرف القارئ على «خامل» سيرى «غريب» الإنسان الذي تحول إلى جن أو توهم ذلك، وحيداً في أرض الجوافة ينتظر جنية أحلامه، وفي انتظارها يسلي نفسه بحكاية خامل، وهكذا يقوم غريب بدور الراوي في الرواية، وتقوم حكايته مع الجنية مقام القصة الإطار في «ألف ليلة وليلة». ومثلما خلقت الرغبة الدموية لشهريار حكايات الليالي، خلقت أشواق غريب للحب عالم خامل وأسرته بأجيالها الثلاثة، وكما تحافظ الليالي على قارئها بانتظار مصير شهرزاد كل ليلة، تتوالى أحلام غريب بالجنية في فصول قصيرة كفواصل بين الحكايات. خامل إذن وعائلته وعالمه، يمكن أن يكون موجوداً، ويمكن أن يكون وهماً، غير موجود إلا في حلم غريب الذي صنعه على شاكلته، تحكمه الهواجس. بعد أن ضيَّع أمانة من المال أودعها عنده آخرون رأى في المنام أن عمه سيدبر له مكيدة تمكن الدائنين من الفتك به؛ فهجر قريته هرباً إلى أرض الجوافة؛ موطن العفاريت التي استوطنها في زمان ما رجال مستوحدون، يحلمون بظل الأنثى، ويحاولون الإنجاب من الأنثى الوحيدة المتاحة: الجوافة.
وتتولى اللغة الخاصة جداً شحن النص بالشجن، وتمكنه من الإمساك بالقارئ، وإقناعه بقبول التحدي الجمالي، دون أن ينتظر شيئاً.
تستفيد لغة الرواية من الكتب المقدسة والشعر والموال ومن زجل الرثاء (الكثير على الموتى) بما تتضمنه هذه الأساليب من فصاحة وعامية وإعادة تأكيد المؤكد بالتكرار، ثم لا يلبث الكاتب أن يعيدنا إلى لغة الحياة اليومية بمفردة يدسها بشكل مباغت فيعيد السرد إلى واقعيته: «أشرت إلى نجمتين بصدرها، وقلت هذه لوزة وتلك بندقة. قالت لِمَ؟ قلت لأن لوزة بها حسنة فهي لوزة، وبندقة ليس بها حسنة فهي بندقة. قالت: يا سلام! ـ الرواية ص 27».
هكذا، تتولى اللغة إسباغ مذاق الغرائبي والأسطوري على وقائع عادية، حتى لتوشك أن تخلق لغريب جنية تهيؤاته وتجعل لـ«رئيسة» زوجة خامل جمال دولثينيا حبيبة دون كيخوتي.



«مفكرة أبريل»: لقاء الفنّ والحوار في نسيج تكوينات جديدة

نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة (الشارقة للفنون)
نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة (الشارقة للفنون)
TT
20

«مفكرة أبريل»: لقاء الفنّ والحوار في نسيج تكوينات جديدة

نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة (الشارقة للفنون)
نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة (الشارقة للفنون)

في امتدادٍ حيٍّ نابض يتقاطع مع روحية بينالي الشارقة الـ16، تُطلق «مؤسّسة الشارقة للفنون» برنامجاً ثقافياً جديداً بعنوان «مفكرة أبريل: في رحالنا تكوينات جديدة»؛ من 18 إلى 20 أبريل (نيسان) الحالي، ضمن مواقع البينالي المتوزّعة في الإمارة.

يُمثّل البرنامج محطةً تأمّليةً وتجريبيةً في آن؛ فيلتقي الفنّ بالحوار، ويتشابك التعبير الأدائي مع النشاط المجتمعي، ليفتح مساحات جديدة للتفكير النقدي في أوضاعنا الراهنة، وفي الكيفية التي يمكن بها إعادة تصوّر واقعنا واستنطاقه عبر تجارب تشاركية متعدّدة الصوت.

بالإضافة إلى كونها حدثاً ثقافياً، تُشكِّل «مفكرة أبريل» دعوةً مفتوحةً لتكوين مقاربات جديدة نحو التبادل وبناء الشبكات المجتمعية، وإعادة تخيُّل الهياكل الداعمة للحياة. وطوال 3 أيام، تستضيف فعاليات حوارية وأدائية وفنّية تتناول موضوعات تتقاطع فيها الرؤى الفردية والجماعية، في مسعى لفهم التحولات البنيوية التي يشهدها عالمنا، وإعادة ترتيب علاقاتنا بالزمن والمكان والآخر. فمن خلال هذه البرمجة، تسعى «الشارقة للفنون» إلى خلق بيئة حاضنة للتفكير العميق والتنظيم الذاتي والإصغاء المتمعّن، فتنصهر التجارب الحيّة مع الأفكار الطازجة، وينشأ من هذا التفاعل حقلٌ خصب لإنتاج معرفة مجتمعية بديلة.

تتماهى «مفكرة أبريل» مع الأعمال المُشارِكة في البينالي، وتُسهم في تعميق النقاشات حول التغيّرات المجتمعية والتحولات الممنهجة واستعادة سرديات أُخضِعت للإسكات أو التمزيق، بالإضافة إلى تأمّل أشكال التنظيم الجماعي، وأنماط القيادة المجتمعية، والمعارف القديمة العائدة بحُلَل جديدة.

ويفتح البرنامج باب التأمّل هذا على مستوى الإنتاج الثقافي التعاوني، والإرث الصوتي، والبنى التحتية الإبداعية المُعرَّضة للتهديد، والحدود النفسية والمكانية التي تُقيّد حركة الإنسان والأفكار. وتُشجِّع رؤيته المُشاركين على اعتماد منهجيات بديلة وتجريبية في التفكير والممارسة، تستند إلى إعادة تأطير العلاقة بين الفرد والمجتمع، والمكان والذاكرة.

ومن قلب الشارقة، حيث يلتقي البرّ بالبحر، ينطلق البرنامج نحو استكشاف البُعد البحري بكونه رمزاً للتنقّل والانتماء وحرّية الملاحة والتبادل الثقافي المفتوح، مستفيداً من الجغرافيا المحيطة لإعادة صياغة أسئلة الهجرة والعبور، بما يتجاوز الحدود التقليدية للمكان والهوية.

وخلال أيامها الـ3، تنسج «المفكرة» طيفاً متنوّعاً من الفعاليات الفنّية والفكرية، من بينها جولات ميدانية بقيادة مرشدين، تُثري تجربة الزوار بإضاءة سياقية على الأعمال والمواقع، إلى جانب جلسة استماع مع مشروع «سينغينغ ويلز»، الذي يلتقط تردّدات الأرض والذاكرة عبر صوتيات عميقة.

تتماهى «المفكرة» مع أعمال البينالي وتُعمّق نقاشات حول التغيّرات المجتمعية (الشارقة للفنون)
تتماهى «المفكرة» مع أعمال البينالي وتُعمّق نقاشات حول التغيّرات المجتمعية (الشارقة للفنون)

وتُقام ورشات عمل للطباعة بتقنية الريزوغراف، وورشات للنشر الذاتي باستخدام تقنيات طباعة متعدّدة، منها الريزوغراف أيضاً. وتخوض ورشة يقودها مؤسِّسا مجلة «أول ذات بلو»، بوميكا ساراسواتي وسيدهِيش غاوتَم، تجربةً تُمكّن المشاركين من إنتاج معارفهم وتجاربهم بصيغة مادية ملموسة.

كما تستضيف «المفكرة» جلسات نقاشية مع فنانين بارزين مثل براين مارتن، ويونني سكارسي، وميغان كوب؛ تُطرح خلالها رؤى نقدية حول الممارسات الفنّية والهموم المجتمعية المتقاطعة. أما في عالم الصورة المتحرّكة، فيُعرَض فيلم «الحصان الأول» (2024) للفنانة أوانوي سيميتش بين، في مساحة تتيح تأمُّل السرد البصري بوصفه امتداداً للذاكرة والهوية.

ويجتمع كلٌّ من باشاك غوناك وبيركي كان أوزكان وساندي شمعون وهاوبتماير ريكر في عرض أدائي تركيبي مستوحى من عملهم الصوتي المُشارك في البينالي، فيُستَحضر الصوت بكونه أداةَ مقاومة ووسيطَ اتصال بين اللامرئي والملموس.

كما تقدّم الفنانة كوليكا بوتوما عرضاً أدائياً بعنوان «ماء (إعادة)»، تستدعي فيه حضور الماء بوصفه عنصراً حيوياً للتحوّل والتطهير وإعادة التكوين.

وأيضاً، تُقام سلسلة عروض أدائية مستندة إلى العمل الاستثنائي، «هي كورويرو بوراكاو مو تي أوانوي أو تي موتو: قصة نهر نيوزيلندي» (2011)، الذي يتمحور حول بيانو أحمر ضخم منحوت بالكامل من طراز «ستاينواي»، من إبداع الفنان الماوري مايكل باركوفاي، حيث يتحوّل الصوت إلى سيرة مكان وتاريخ.

وفي ختام البرنامج، تُعقد ورشة تقييمية مُغلقة للمدعوّين، تتيح مساحة للتأمّل الجماعي في روح البينالي، وما نرثه من معانٍ وتجارب، وما ينبغي أن نحمله معنا، وما يجب علينا إعادة تصوّره من أجل تشكيل تكوينات جديدة للدعم والمقاومة والاستمرارية.

وتُقام فعاليات «مفكرة أبريل» 2025 بوصفها امتداداً محورياً وحيوياً لبينالي الشارقة الـ16، الذي يحتفي بأكثر من 650 عملاً فنياً أبدعها نحو 200 فنان مُشارك، من ضمنها 200 تكليف جديد خُصِّصت لهذا الحدث. وحمل البينالي هذا العام عنوان «رحالنا»، بتقييم مشترك من علياء سواستيكا، وأمل خلف، وميغان تاماتي كوينيل، وناتاشا غينوالا، وزينب أوز؛ إذ قدَّمن مقترحاً فنّياً متعدّد الأصوات والرؤى، يتعمّق في الأسئلة المتنامية بلا انقطاع حول ما الذي نحمله، وكيف إنه نداء مفتوح لمواجهة التكوينات والمواقف المتفاوتة التي تتجسَّد عبر مقاربات القيِّمات الخمس، ودعوة لاستعراض أصداء البينالي ووَقْعه في الوعي الجمعي والفردي.

وتسعى «مؤسّسة الشارقة للفنون»، باستقطابها طيفاً متنوّعاً من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، إلى تفعيل الحراك الفنّي داخل النسيج المجتمعي في الإمارة، وما يتخطّاها جغرافياً؛ فتُعلي من شأن الطاقات الإبداعية، وتدفع بها نحو آفاق من الإنتاج البصري المُغاير، المتّسم بروح البحث والتجريب والفرادة.