برحيله المفاجئ صباح أمس (الاثنين)، يختتم فالح عبد الجبار، الصديق والزميل، رحلة طويلة تزاوج فيها النضال السياسي المبكر مع البحث الدؤوب في طبيعة المجتمع العراقي، وتشكيلاته القبلية والاجتماعية والمعقدة، ومساره السياسي الذي لا يقل تعقيداً. ولفهم كل ذلك، تسلح فالح عبد الجبار نظرياً بالفكر الماركسي عبر مصادره الأساسية. فصرف 20 عاماً في ترجمة رأس المال عن الإنجليزية، مقارناً إياها بالنص الأصلي بالألمانية، التي بدأ يتعلمها من أجل هذا الغرض. وبهذا الإنجاز، واصل عبد الجبار رحلته الفكرية الطويلة، لتتوالى كتبه في علم الاجتماع، مثل «الدولة والمجتمع المدني في العراق»، و«الديمقراطية المستحيلة والدولة الممكنة»، و«معالم العقلانية في الفكر العربي» و«المادية والفكر الديني المعاصر»، وكذلك كتاب «دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي («داعش» والمجتمع المحلي في العراق)»، الصادر نهاية العام الماضي الذي رأى فيه أن «الدولة الفاشلة في العراق هي أساس نمو الحركات التكفيرية واستشرائها»، وكتاب «العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني»، الذي قدم فيه قراءة للحراك السياسي لدى الشيعة في العراق ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والآيديولوجية، وربطه بمحطّات أساسية في التاريخ المعاصر.
وتوج كل هذا الجهد الميداني بدراساته النظرية مثل «فرضيات حول الاشتراكية» و«المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب»، وآخر كتبه في هذا المجال «الاستلاب»، الذي صدر قبل شهرين فقط، واضح فيه تطوره النظري والفكري الباهر.
وقد تناول فيه تاريخ مفهوم الاغتراب، ودلالاته ومعايناته عند هوبز، ولوك، وروسو، وهيغل، وفويرباخ، وماركس. ومن المعروف، أن هذا المفهوم ارتبط بهيغل وأكثر بماركس، لكن عبد الجبار أعاد بداياته إلى اللاهوت البروتستانتي، أي بدايات القرن السادس عشر (من لوثر إلى كالفن). وبين كيف أن استخداماته تشعبت وتنوعت على مدى قرنين من تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي والأوروبي، ابتداء من توماس هوبز وجون لوك، مروراً بجان جاك روسو، ويوهان فيخته وفريدريك شيلنغ، وصولاً إلى هيغل وماركس. وبين لنا الراحل كيف تبلور هذا المفهوم بروح احتجاج ونقد للإنسان في إطار الدين - اللاهوت دفاعاً عن الإيمان، ثم خرج من جبتهما، لا لشيء إلا ليعود هذه المرة في زمننا المعاصر بروح احتجاج ونقد للدين واللاهوت دفاعاً عن الجوهر الإنساني المستلب.
وانشغل في الفترة الأخيرة بدراسة «أنثروبولوجية» موسعة ترصد منظومة العشائر في العراق ومدى تأثيرها على المشهدين الاجتماعي والسياسي في العراق.
ما كان لفالح عبد الجبار أن يحقق كل ذلك، لولا تكريس نفسه شبه الكامل للعمل منذ وقت مبكر جداً في حياته. وكان معروفاً بجديته منذ عمله في جريدة «طريق الشعب» عام 1974، حيث عمل سكرتيراً للقسم السياسي فيها، واشتهر بتحليلاته السياسية العميقة، المحلية والأجنبية، التي كان يوقعها باسم «أبو خالد»، تيمناً بابنه الكبير. وهناك تزاملنا وتصادقنا، وتقاسمنا الانتماء والقلق والخيبات ثم المنفى الذي اختتمه فالح صباح أمس بالموت. كان قد بدأ بكتابة القصة القصيرة مبكراً في الستينات، وهي قصص لم ينشرها ربما لعدم قناعته بها، وكان مثابراً على حضور اللقاءات المسائية لتلك الحلقة الذهبية، قارضة الكتب، المهووسة بالقراءة العميقة، أدباً وفلسفة، وبالسياسة أيضاً، التي لم تترك أحداً إلا ومسته في تلك السنوات المضطربة من تاريخ العراق الدامي.
ثم حسم فالح أمره مبكراً. وجد نفسه في البحث الاجتماعي والنظري، وخصوصاً الماركسي، وانتمى للحزب الشيوعي العراقي. ومع اشتداد القمع البعثي الرهيب لليسار العراقي، غادرنا كما المئات من المثقفين اليساريين، أو المحسوبين على اليسار، في أكبر موجة هجرة ثقافية، ربما بعد هجرة المثقفين الألمان أثناء الفترة النازية.
استقر الفقيد أولاً في بيروت حيث عمل في بعض الصحف الفلسطينية، وأسهم هناك في تأسيس رابطة الكتاب والصحافيين العراقية، التي أصدرت مجلتها المركزية «البديل»، التي أصبح عضواً في هيئة تحريرها. ولعبت هذه المجلة دوراً مهماً في فضح النظام العراقي آنذاك، وتوثيق الصلة مع المثقفين العرب الذين أسهموا في الكتابة فيها كأدونيس وغالب هلسا وفيصل دراج وغيرهم.
ثم جاءت هجرة أخرى، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، إلى دمشق، حيث التقينا بعد مغادرة منفاي الجزائري إلى العاصمة السورية، لتوالي المنافي المشتركة... ثم إلى لندن، حيث تزاملنا من جديد أثناء عملنا في جريدة «الشرق الأوسط». ومرة أخرى عاد الفقيد إلى لبنان، ليؤسس مركزاً للبحث، الذي أحبه وكرس حياته له.
في كل ظروف ذلك الوطن المستحيل والمنفى، التي عطلت وأعاقت كثيرين عن متابعة وتطوير نتاجاتهم الأدبية أو الفكرية، ظل فالح يعمل وينتج ويطور نفسه، منتصراً بذلك على المنفى... والموت.
سيرة
> ولد د.فالح عبد الجبار في محلة باب الشيخ، بغداد.
> عمل في صحيفة «طريق الشعب» العراقية.
> اضطر لمغادرة العراق عام 1978.
> انتقل إلى دمشق بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982.
> غادر إلى لندن عام 1992.
> عمل في «قسم الترجمة»، جريدة «الشرق الأوسط».
> عمل أستاذاً وباحثاً في علم الاجتماع في جامعة لندن، ثم إلى مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية بيركبيك، التي حاز فيها شهادة الدكتوراه.
> عمل محاضراً في جامعة ميتروبوليتان بلندن.
> عمل مديراً للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي، التي توجد مقراتها في نيقوسيا وبيروت خلال الفترة من 1983 وحتى 1990.
من أعماله
> «الدولة والمجتمع المدني في العراق».
> «معالم العقلانية والخرافة في الفكر العربي».
> «المادية والفكر الديني المعاصر».
> «العراق - الديمقراطية المستحيلة».
> «فرضيات حول الاشتراكية».
> «دولة الخلافة - التقدم إلى الماضي».
> «العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني».
> «اللوثيان الجديد».
> «الاستلاب».
من ترجماته
> «رأس المال» لكارل ماركس.
> «الاقتصاد السياسي للتخلف».
> «نتائج عملية الإنتاج المباشرة».