يوميات الود والخصام (4): حَمَلَة أسرار نظام القذافي في مرمى الخصوم داخلياً وخارجياً

بينهم وزراء سابقون ورؤساء أجهزة أمنية ومصرفيون

سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
TT

يوميات الود والخصام (4): حَمَلَة أسرار نظام القذافي في مرمى الخصوم داخلياً وخارجياً

سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)
سيف الإسلام القذافي وعبد الباسط المقرحي في طرابلس عام 2009 (أ.ف.ب)

عاش حَمَلَة أسرار نظام معمر القذافي، منذ سقوط حكمه، في مرمى نيران الخصوم داخلياً وخارجياً. بين هؤلاء وزراء سابقون، ورؤساء أجهزة أمنية، ومصرفيون كبار. وبعد صمت مضى عليه أكثر من سبع سنوات، بدأ بعض الشهود، من جنسيات مختلفة، ممن ارتبطوا بليبيا وبزعماء عبر العالم، وبعضهم من أنصار القذافي، في الخروج إلى النور، وهو أمر يبدو مقلقاً لأطراف عدة في داخل ليبيا وخارجها، نظراً إلى كمية الأسرار التي تريد هذه الأطراف أن تظل في الظلام.
ويقول زياد تقي الدين، رجل الأعمال اللبناني، الذي شارك في اجتماعات كان فيها بعض كبار المسؤولين القطريين والفرنسيين والليبيين، إن حجم المؤامرات التي كانت تحاك ضد طرابلس لا يمكن تخيلها. وهناك من يخشى من ظهور الحقيقة.
وفي الجانب الآخر بدأ تحرك أنصار القذافي سياسيا وقانونياً، من خلال طرق عدة، منها بحث فرص التقدم لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي يجهّز لها المبعوث الأممي، غسان سلامة، ومنها كذلك التجهيز لمقاضاة من يُعتقد أنهم كانوا وراء مقتل القذافي، ونجله المعتصم، ووزير دفاعه أبو بكر يونس جابر، في مدينة سرت، والتشهير بنجل القذافي الآخر، سيف الإسلام، إضافة إلى التشكك في ملابسات وفاة وزير النفط الليبي السابق شكري غانم في النمسا سنة 2012. ويقول تقي الدين إن «غانم قُتل على نهر الدانوب».

لقد عثرت الشرطة النمساوية على جثة غانم (69 عاماً) في الدانوب في فيينا حيث كان يعيش في المنفى. وجرى التعامل مع القضية على أن الرجل أصيب بأزمة قلبية أثناء التريض، ما أدى إلى سقوطه في النهر وغرقه. لكن مسؤولين في النظام السابق يرجحون، اليوم، اغتياله على يد خصوم أوروبيين، خوفاً من فضح أسرار تخص تعاقدات مالية ضخمة.
وتأتي هذه الشكوك بالتزامن مع تحرك قانوني يقوم به محام لسيف الإسلام، في لندن، هو كريم خان، لتصحيح ما قال إنها معلومات مغلوطة نشرتها وسائل إعلام دولية بشأن موكله أثناء الانتفاضة المسلحة، ما أدى إلى تشويه صورته والإضرار بسمعته، وأنه لم يكن متاحاً له الرد في حينه بسبب ظروف احتجازه وتقييد حريته.
ومثلما يفكر تقي الدين، يرى شخص يُعتبر من المقربين جداً من سيف الإسلام أن الدكتور غانم قُتل، بحسب اعتقاده، على أيدي جهات فرنسية. بينما يقول قائد من المحسوبين على نظام القذافي، خلال لقاء في فيلته الفخمة في شرق القاهرة، إنه «تم البدء في فتح تحقيقات في الكثير من القضايا التي نرى أنها تسببت في إلحاق ضرر كبير بليبيا، وقادتها، وعلى رأسهم، بطبيعة الحال، القذافي ومساعدوه الذين تمت تصفيتهم داخل ليبيا، بالإضافة إلى قضية الوزير غانم».
إن حدة الفواجع التي جرت في 2011 والتي غيَّرت أولويات الكثير ممن تبقوا من زعماء النظام السابق وكهنته وحفظة أسراره، تراجعت كما يتراجع البنج من الجسد... ورغم استمرار الفوضى، إلا أن أنصار القذافي يبدو أنهم بدأوا، أخيراً، في استيعاب ما حدث، وفي التقاط الأنفاس، والتعافي من أجل العودة إلى الواجهة مرة أخرى، محلياً ودولياً. ويقول أحد شيوخ قبيلة العواقير في اجتماع في بنغازي مع ممثلي قبائل من جنوب البلاد إن «الأوان لالتقاط الأنفاس. اليوم... من السهل أن نقول إن ما جرى في السنوات الماضية، كان مؤامرة».
ويبدو أن مرور الوقت كفيل، كذلك، بإعادة تجميع شهادات ووثائق في محاولة لفهم ما حدث. لقد مرت عاصفة 2011 على المدن الليبية الكبرى، وقلبتها رأساً على عقب. ويقول تقي الدين: مهما حاول البعض إخفاء الحقيقة إلا أنها ستطاردهم، إلى أن تظهر واضحة للعيان، كالشمس. توجد محاولات لطمس تلك التفاصيل المدمرة، لكن، أعتقد أن كل شيء سينكشف. إنها مسألة وقت.
لقد اختفت الألوف من وثائق الدولة الليبية، بيد أنه ما زالت هناك ملفات مبعثرة هنا وهناك، وقادرة على إخافة الآخرين، على ما يظهر، كما يقول القيادي المحسوب على النظام السابق والذي يفضل، مثل آخرين، الاستمرار في إدارة الحياة من بين أسوار فيلته، إلى حين. وحتى بالنسبة لرجل المخابرات العسكرية القوي، عبد الله السنوسي، هناك من يخشى من خروجه من محبسه في طرابلس... فهو أحد شهود اجتماعات «كورنثيا» مع الفرنسيين، وأحد المطلعين على تفاصيل مفاوضات القطريين مع القذافي وتداعياتها (التي سيرد ذكرها بالتفصيل في الحلقة التالية). ويعد مثل هؤلاء من بين القيادات التي تملك أسراراً مخيفة لزعماء في داخل ليبيا وخارجها.
وعلى سبيل المثال توجد مكاتبات عدة بين باريس وطرابلس، بشأن قضايا مالية بمئات الملايين من الدولارات، وأخرى فيها خليط قضائي - سياسي، من بينها خطابات من محامية السنوسي، السيدة عزة المقهور، وتيري هيرزوغ، محامي الرئيس نيكولا ساركوزي، وذلك بعد دخوله قصر الإليزيه بنحو 17 شهراً. وتتطرق رسالة منها مؤرخة بيوم 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2008 إلى مفاوضات سابقة، حين كان ساركوزي وزيراً للداخلية، جرت بين الفرنسيين والليبيين، لتسوية قضية إسقاط الطائرة «يو تي إيه»، المتهم فيها السنوسي مع ليبيين آخرين.
وعلى أي حال، وبعد نحو سبع سنوات من الحبس، تمكن السنوسي أخيراً من الخروج من الحوصلة الضيقة والخانقة التي كان محشوراً فيها، في سجن الهضبة، وأصبح يقيم في مكان أكثر لطفاً، في طرابلس، لكن تحت سيطرة الميليشيات أيضاً. ومعه رئيس الوزراء السابق البغدادي المحمودي، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية أبو زيد دوردة، إضافة إلى آخرين. وكان قد حكم عليهم بالإعدام، مثل سيف الإسلام، قبل نحو ثلاث سنوات.
كما أن أسماء شخصيات مثل السنوسي، والمحمودي، ودوردة، أصبحت أكثر حضوراً في جلسات تجري في الخفاء، في فيلات وشقق بالقاهرة، وتونس، بين قادة من النظام السابق وأطراف سياسية بعضها ليبي، وبعضها من دول كبرى، منها من يقوم بالتنقيب عما يمكن أن يزعج به خصومه في مواسم الانتخابات، في هذه العاصمة أو تلك. وأصبح ذِكر سيف الإسلام أمراً عاديا، في مثل هذه اللقاءات، عندما يتعلق الأمر بالمستقبل.
وقد استفاد المحبوسون من زعماء النظام السابق من عفو أصدره البرلمان، إلا أن معظمهم لا يزالون محتجزين في السجون حيث لا تخضع الميليشيات لأي سلطة. وحتى بالنسبة إلى سيف الإسلام فإن إطلاق سراحه، العام الماضي، بناء على قرار العفو، لم يقترن به نشاط سياسي علني بسبب مخاوف أمنية على حياته، بحسب ما يقول قريبون منه. لكن مجرد استمرار احتمال خروج كل هذه القيادات من الأسر ومن العزلة، يمثل كابوساً لأطراف كثيرة.
ويقول الرجل الذي يعيش بين جدران فيلته في شرق العاصمة المصرية إنه، رغم ذلك، يتواصل مع زملاء له من قادة النظام السابق. وكان في الماضي ضابطاً كبيراً في الشرطة العسكرية. بينما كان ضيفه الجديد مسؤولاً عن الحدود البرية في بلاده. ويشير الضابط وقد بدأ أكثر حيوية مما كان عليه قبل سنتين إلى أنه، في عواصم أخرى في منطقة الشرق الأوسط، هناك من ينتظر لكي يدلي بدلوه، ويروي ما يقول إنها «حقائق مروعة عن اختلاط السياسة بغسل الأموال، بشن الحروب، مثل الحرب على ليبيا».
وفي الجانب الشرقي من البحر المتوسط، تأتي شهادة تقي الدين، لتفسر إلى حد كبير سبب الفاجعة التي حلت بليبيا، حيث يتحدث بمرارة عن «تحالف فرنسي - قطري، منذ البداية، لإسقاط نظام القذافي»، وأنه «جرى استخدام كل الوسائل لتحقيق هذا الغرض».
ويبلغ عدد قيادات النظام السابق من المسجونين في مدينة طرابلس حتى الآن، أكثر من عشرين. والمشكلة أن معظم هؤلاء كانوا شهود عيان على تفاصيل جرت في غرف مغلقة مع شخصيات ما زال بعضها في السلطة أو في مجال الأعمال في بلدان حول العالم، سواء في فرنسا، أو قطر، أو الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو غيرها.
والمعضلة بالنسبة لكثيرين ممن كانوا يرغبون في زرع الشقاق والخلافات بين قيادات النظام السابق، حتى وهم في السجون، تكمن في أن معظم هذه المحاولات باءت بالفشل حتى الآن. وفي خطوة أخيرة، تعبّر عن نفاد صبر بعض قادة المجلس الرئاسي الحاكم في طرابلس، جرى استدعاء اثنين من كبار المسؤولين المسجونين، أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى مكتب قيادي في هذا المجلس. وهما المحمودي ودوردة. ويقول مصدر شارك في اللقاء إنه «تم استبعاد السنوسي (عن اللقاء)... أعتقد أنها كانت محاولة لشق الصف بينهم حتى وهم في السجن».
وبحسب المعلومات المتوافرة، تمت النقاش مع المحمودي ودوردة حول مستقبل ليبيا ومستقبل سيف الإسلام، ثم أعيدا إلى محبسهما الذي تشرف عليه ميليشيات موالية للمجلس الرئاسي المدعوم من الأمم المتحدة. ويضيف المصدر: «شربا القهوة، وأجابا عن الأسئلة، وأبديا نوعاً من التحدي». وعلى أي حال لم يكن السنوسي عضواً في مجلس قيادة الثورة التي جاءت بالقذافي كحاكم لليبيا في 1969. ولم يكن من بين رجال الحرس القديم ممن كانوا يرفضون فكرة المصالحة مع خصوم القذافي. ويقول صديق لسيف الإسلام القذافي: «بالعكس، كان السنوسي مع سيف، ومع برنامجه...».
ومن بين الوقائع الطريفة التي يحرص البعض على إبقاء تفاصيلها طي الكتمان، تلك التي تخص الأسباب التي دفعت مسؤولين غربيين إلى زيارة ليبيا منذ شهر أغسطس (آب) عام 2000. رغم أن ليبيا كانت حتى ذلك الوقت متهمة بدعم الإرهاب، وتخضع لعقوبات وحصار دولي. في ذلك الصيف جاء إلى طرابلس وزراء ومسؤولون من فرنسا وألمانيا وفنلندا وغيرها. وتوجد صورة شهيرة لسيف الإسلام مع وزير الخارجية الألماني، يوشكا فيشر، تعود لشهر سبتمبر (أيلول) قبل 17 سنة. لقد بدأت ليبيا حينذاك في التوسط للإفراج عن 21 من الرهائن الغربيين لدى جماعة أبو سياف التي تأسست في مطلع تسعينات القرن الماضي. وكانت الجماعة المتشددة تسعى إلى إنشاء «دولة إسلامية»، بحسب وصفها، في جنوب الفلبين.
هذه الوساطة كانت بمثابة أول ظهور لمؤسسة القذافي. وكان صديق سيف الإسلام طرفاً أساسيا في المفاوضات التي جرت مع جماعة أبو سياف. ويقول: «نعم... هذا كان أول ظهور لمؤسسة القذافي. تفاوضنا نحن نيابة عن الأوروبيين. كان لدينا سفير في مانيلا، هو رجب الزروق. فذهبتُ إليه، وأمضينا ستة أشهر بين مانيلا، ومعقل أبو سياف في غابات هولو في جزيرة مندناو جنوب الفلبين. وأتينا بالرهائن إلى ليبيا، على دفعتين... دفعة تم الاحتفال بها في منطقة السرايا الحمراء في طرابلس، بينما تم الاحتفال بالدفعة الثانية في باب العزيزية بالعاصمة».
وكانت الوفود الغربية التي حضرت للعاصمة الليبية، تخشى حتى عهد قريب من أن يقترن اسمها بليبيا أو القذافي. وقتها اختتم مساعد سيف كلمته أمام تلك الوفود، قائلاً إن سبب الإفراج عن الرهائن من غابات هولو، هو «اسم معمر القذافي». ويضيف: «كانت هذه الواقعة سببا في خروج ليبيا من عزلتها... لقد كانت خطوة مهمة».
حينذاك تولى صالح عبد السلام موقع المدير التنفيذي لمؤسسة القذافي. واستمر حتى عام 2007، حيث كان شاهداً، مع آخرين، على الكثير من الوقائع. وبعد تركه لها، واصل التعاطي مع ملفات كثيرة داخل الدولة الليبية، كان بعضها يدور بعيداً عن الأضواء. وما زال عبد السلام يتحدث عن المؤسسة ككيان قابل للاستمرار في المستقبل. وبعض قادة النظام السابق لديهم رؤية أوسع، بيد أن هذا لا يمحو التصورات المريرة عن الماضي، ففي يوم من أيام أغسطس الحارة عام 2009، قال دبلوماسي أميركي في ليبيا لسيف الإسلام: مستقبلك السياسي انتهى!
وجرى هذا حين أظهر نجل القذافي حفاوة بالغة لدى وصوله إلى طرابلس على متن طائرة خاصة بصحبة عبد الباسط المقرحي، الذي توفي في 2012 كان المقرحي مسجوناً في اسكوتلندا، في قضية لوكربي الشهيرة. وتسلمته ليبيا تحت بند الإفراج الصحي في 2009. وكان صديق سيف الإسلام في ذلك الوقت ضمن الفريق المفاوض لاستعادة المقرحي. ويقول: «كان طلب الأميركيين والإنجليز بأن يكون استقبال المقرحي عاديا دون استقبال رسمي من الدولة الليبية».
ومن جانبه كان سيف يعتبر قضية المقرحي قضيته الشخصية. وكان تدخُّل مؤسسة القذافي في استعادته، من المحطات اللافتة في مسيرة نجل القذافي. ومع ذلك كان يوجد حرص على تنفيذ التعهدات مع واشنطن ولندن، بشأن عدم تنظيم استقبال رسمي للمقرحي. ويقول أحد الشهود، من قبيلة المقارحة، ممن كان في مطار طرابلس: «أذكر أن الاستقبال الذي جرى، لم يكن رسمياً، بل كان شعبيا من أبناء القبيلة». بيد أن صديف سيف يعلّق قائلاً: «المشكلة أن الأميركيين والإنجليز اعتبروا ما جرى من حفل لاستقبال المقرحي عملاً عدائياً ومستفزاً لهم».
وبعد عودة سيف بالمقرحي، وعقب مشهد هبوطهما سوياً من الطائرة، زار دبلوماسي أميركي نجل القذافي في باب العزيزية بطرابلس، وتحدثا أولاً في القضايا الثنائية والتعاون بين البلدين. وكان صديق سيف موجوداً. ويقول: «مع نهاية الاجتماع، طلب الدبلوماسي من مرافقته بالسفارة الأميركية، مغادرة المكان، لأنه يرغب في الحديث مع سيف منفرداً. وطلب مني سيف الإسلام البقاء». ويتابع: «مما قاله هذا الدبلوماسي: هل فقدت عقلك يا سيف؟ كررها مرات عدة. وتابع الدبلوماسي حديثه مجدداً قائلاً: هل من المعقول أن تعود رفقة عبد الباسط المقرحي في نفس الطائرة؟ إنه عمل استفزازي! وهو عمل غير مقبول بالمطلق، ولن نغفره لك... إن مستقبلك السياسي قد انتهى». وهنا رد عليه سيف، بحسب الرواية نفسها، قائلاً: «أنتم ترونه متهماً، ونحن نراه بريئاً».
إن تفاصيل العلاقات المرتبكة بين الغرب وطرابلس، وتداخل بعض الأطراف العربية، وعلى رأسها قطر، كثيرة ومتشعبة، وتتضمن، في بعض الأحيان «أعمالاً لم تكن أبدا مقبولة، ممن كنا نظن أنهم أصدقاء لنا... الأمور برمتها تحتاج إلى إعادة ترتيب»، كما يقول قادة من النظام السابق، في إطار مناقشات جارية لفهم ما حدث في 2011 وما بعدها. لكن حتى لو خرج القادة السابقون من السجون، سوف تنتظرهم ملاحقات في مطارات العالم، فالمحكمة الجنائية الدولية ما زالت تحتفظ بملفات استدعاء لعدد من هؤلاء بمن فيهم سيف الإسلام، ورئيس جهاز الأمن الداخلي، التهامي خالد.
ومع بداية الانتفاضة، وبينما كان العالم يتابع تحركات الدول بشأن الأحداث في ليبيا، كانت الاجتماعات داخل قرية «المغرب العربي (مجمع سكني)» في طرابلس، تمتد حتى الساعات الأولى من الفجر، في محاولة لمعرفة ما سيحدث غداً، بينما كان بعض الدبلوماسيين يقومون بحزم حقائبهم استعداداً للرحيل، وهم يتابعون ما تبثه قناة «الجزيرة» عن تقدم المنتفضين في بنغازي. كانت الأمور بالنسبة إلى كثير من الدبلوماسيين ورؤساء الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا، قد حسمت. وأن كل شيء قد انتهى.
ومن بين الملابسات الأخرى التي يجري جمع معلومات حولها، من جانب كبار قادة النظام السابق، تلك التي تخص ضربة موجعة جاءت من أحد كبار المصرفيين في البنك المركزي الليبي (تتحفظ «الشرق الأوسط» عن نشر اسمه) في مطلع 2011. وكان قد طلب من الحكومة الليبية، وقتها، السفر إلى الخارج بحجة العمل على ترتيب أمر الأرصدة الليبية حول العالم، والبالغة مئات المليارات من الدولارات، إلا أنه، وبمجرد وصوله إلى دول شرق أوسطية، التقى بمسؤول في الخزانة الأميركية، ومنحه جميع الحسابات الخاصة بأرصدة بلاده، ما سهل لدول كبرى عملية تجميد هذه الأرصدة في وقت مبكر.
وتدرس قيادات من النظام السابق احتمال ضلوع أحد زعماء جماعة «الإخوان» المرتبط بقطر، بترتيب هروب هذا المصرفي في أول أيام التمرد على القذافي. وبحسب تحقيقات مبدئية، فقد جرى رصد تقارب سريع له مع الزعيم الإخواني المشار إليه، رغم أن هذا المصرفي لم يكن من جماعة «الإخوان». ويقول أحد المصادر الأمنية: «الغريب أن هذا المصرفي كان ممن دعوا إلى قمع الانتفاضة حين انطلقت يوم 17 فبراير (شباط) في بنغازي... كان معنا في المدينة، وهي تشهد بداية الاضطرابات، واتصل بعبد الله السنوسي في طرابلس، ودعاه إلى استخدام الشدة ضد المتظاهرين قائلاً إنهم لا يأتون إلا بالقوة... ثم فوجئنا بأنه أول من قفز من المركب».
ومن المعروف أن تجميد أي أموال، لأي دولة أو حتى أشخاص، يحتاج إلى وقت طويل من جمع المعلومات والتحريات والوثائق، إلا أن المصرفي الليبي «تطوع واختصر الطريق»، بحسب مصدر من النظام السابق، بعد قراره القفز من السفينة الليبية يوم 19 فبراير 2011. ويضيف هذا المصدر أن المصرفي التقى يوم 20 من الشهر نفسه بالمسؤول الأميركي و«أعطاه كل أرقام الحسابات الليبية والشفرات الخاصة بها». ويبدو أنه بناء على هذه المعلومات، صدر القرار الدولي بتجميد الأرصدة الليبية في الخارج يوم 27 فبراير، أي بعد عشرة أيام من انطلاق الانتفاضة المسلحة من مركزها في بنغازي. وأدى هذا الأمر إلى توجيه ضربة قاصمة لظهر القذافي في طرابلس، مع حلول شهر مارس (آذار) والشهور التالية. ويقول صديق سيف الإسلام والذي كان في طرابلس آنذاك: «بدأت مشكلة في دفع المرتبات، ولم يكن هناك أموال لشراء الوقود، وبدأت التداعيات تؤثر على الجميع».


رسالة من محامية رئيس المخابرات العسكرية الليبي السابق عبد الله السنوسي السيدة عزة المقهور إلى تيري هيرزوغ محامي الرئيس نيكولا ساركوزي في 2008 بشأن تسوية قضية إسقاط طائرة «يو تي إيه» («الشرق الأوسط»)



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».