الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

بعد قرار تدريس الأمازيغية... وبسببه

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»
TT

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

الأمازيغية... محور صراع «التعريب» و«التغريب»

فجَر قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، من جديد، الصراع بين أنصار الاستعاضة عن العربية بالأمازيغية لغةَ تداول رسمية وهم في غالبيتهم مُفرنَسون، و«العروبيين» المتحمّسين لـ«العنصر العربي الإسلامي في الهوية الجزائرية». كانت الأمازيغية قد أصبحت لغة رسمية في الجزائر بجنب العربية، بموجب مراجعة للدستور تمت في 7 فبراير (شباط) 2016. ومن ثم، احتدم خلاف كبير، أخذ في أحيان كثيرة طابعاً آيديولوجياً، بين فريقين: الفريق الأول في هذا الخلاف هو مَن يسميهم الإعلام المحلي «بربريست» (نسبة إلى البربر، السكان الأصليين لشمال أفريقيا) يناضلون من أجل تدريس الأمازيغية في كل الأطوار التعليمية، وقطاع من هؤلاء انخرط في تنظيم انفصالي يطالب باستقلال منطقة القبائل (شرق العاصمة الجزائر) التي يتكلم سكانها – البالغ تعدادهم نحو 3 ملايين – اللغة الأمازيغية. أما الفريق الآخر، فيشكّله «العروبيون» الذين يعتبرونها أهم رافد للهوية ولا يرضون بديلاً عن العربية، التي حلّت محل الفرنسية لغةَ تداول في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وهذا خلال سنوات قليلة بعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي عام 1962.
في أعقاب الضجة التي أثارها قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، إطلاق ترتيبات لإنشاء «أكاديمية لتدريس اللغة الأمازيغية»، التقت «الشرق الأوسط» نخبة من أهم الباحثين الذين يتصدّرون واجهة الإعلام الجزائري لمناقشة موضوع الأمازيغية، وقراءة تفاعلات الموضوع، وما إذا كانت «لهجة» أم «لغة» وعلاقتها بالدين.
امحند أرزقي فرَاد، المؤرخ والباحث الآنثروبولوجي، قال شارحاً: «عادت المسألة الأمازيغية في السنوات الأخيرة إلى مسرح الأحداث ببلدان شمال أفريقية بقوة، وهذا لسببين اثنين على الأقل: أولهما يتمثل في تراكم نضالات أجيال كثيرة من أجل إعادة الاعتبار للمكوّن الأمازيغي في الهويّة المغاربية. والسبب الآخر هو «الربيع العربيّ» الذي رفع الحيف والضيم عن الأمازيغ في ليبيا وتونس».
وبحسب فرَاد، الذي يتحدَر من منطقة القبائل: «لا يختلف اثنان عاقلان حول أمازيغية شمال أفريقية، ومن ثم فإن المتحدّثين بها ليسوا أقلية، وهذا رغم انكماش اللسان الأمازيغي وانحساره في المناطق المعزولة كالجبال والواحات وجزيرة جربة بتونس. وعليه – كما يضيف فرّاد – فإن الجدال حول اللغة الأمازيغية هو في الحقيقة جدال بين إخوة في الجنس والعرق، احتفظ بعضهم بلغة الأجداد، وتعرّب بعضهم الآخر بفعل انتشار اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. وعليه، من الخطأ اعتبار انتشار اللسانين حالياً معياراً للتمييز بين الجنسين الأمازيغي والعربي».
- تحدّي كتابة اللغة
وحول الحرف الذي ينبغي أن تكتب به الأمازيغية، يقول فرَاد «التحدي الصعب الذي يواجه الأمازيغية بعد تجاوز العقبة السياسية، هو اختيار طريقة كتابتها. فهي الآن تكتب بالأبجديات الثلاث: (التيفيناغ) في الجنوب، والأبجدية العربية في جبال الأوراس وغرداية، والأبجدية اللاتينية في منطقة القبائل. وسبب ذلك التهميش والإقصاء اللذين عانت منهما اللغة لعقود طويلة؛ لذا سعى أبناؤها إلى الحفاظ عليها بكل الطرق كلّ حسب إمكاناته في الجزائر الواسعة». ويضيف فرّاد: «في الحقيقة، تعايشت الأمازيغية مع العربية لقرون طويلة فاقترضت منها الكثير من الكلمات والمصطلحات، وتأثرت بالثقافة الإسلامية إلى درجة يصعب الآن تصوّر كتابتها بغير الأبجدية العربية. لكن، من جهة أخرى، فإن النخبة المُفرنَسة المهيمنة على (المحافظة السامية للأمازيغية) هي التي تكفلت بالنضال من أجل إحيائها وترقيتها بالأبجدية اللاتينية، وهناك ألوف الكتب منشورة بها. أمّا في الجنوب فمن الصعب إقناع إخواننا الطوارق بالتنازل عن الكتابة التيفيناغية الأصيلة ذات الحمولة الرمزية».
- «الهويّة» ومسؤولية فرنسا
من جهة ثانية، أفاد الدكتور أحمد شنَة، أحد أبرز الباحثين بالمجتمع المدني – وهو مسؤول حكومي سابق – بأن اعتماد اللغة الأمازيغية لغةً رسميةً في البلاد «لا يعني أنه سيتم تلقائياً إبعاد اللغة العربية أو التقليل من شأنها أو إنزالها إلى المرتبة الثانية. ذلك ما لن نقبله مهما كانت الظروف والمسوّغات... كما أننا لن نقبل أيضاً تهميش باقي اللهجات الأمازيغية، كالشاويّة التي تشكل النسبة الأكبر في المشهد الديموغرافي، إلى جانب المزابية (الميزابية) والتارقية والشلحية والشنوية وغيرها من اللهجات المنتشرة في طول البلاد وعرضها». وأردف شنّة: «إن كانت الإرادة صادقة (من جانب السلطات) لإعادة الاعتبار للبعد الأمازيغي في هويتنا وشخصيتنا الوطنية، إلى جانب البعدين الإسلامي والعربي، مثلما هو منصوص عليه في الدستور، يتوجب على الجميع العمل على إشراك كل المكوّنات والعناصر على قدم المساواة، وإتاحة الفرص لجميع اللهجات المحلية في مسار التأسيس العلمي الجاد لهذه اللغة الأمازيغية المنشودة. وهي اللغة التي نرجو، في نهاية المطاف، أن تكون معبّرة عن فكر ووجدان كل الجزائريين والجزائريات، في إطار احترام الخصوصيات ومراعاة الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين منطقة وأخرى؛ ما يحقق الثراء الوطني المرتقب من دون إقصاء أو احتكار أو تطرّف في الرأي».
ويتابع شنّة: «في ظل ما يدور في الساحة الوطنية من جدل وتجاذب حول المسألة الأمازيغي، وبخاصة ما تشهده مواقع التواصل الاجتماعي من نقاشات حادة حول هذا الموضوع، وتطور التجاذبات في القضية إلى حد التجريم والتخوين والتراشق بالتهم بين بعض الفعاليات في المؤسسات البرلمانية والحزبية والإعلامية، فإنه بات من الضروري أن نؤكد مرة أخرى، بأن (مسألة الهوية) لم تكن في أي يوم من الأيام مشكلاً في الجزائر، إلا مع دخول المستعمر الفرنسي إلى بلادنا... المستعمر الذي أقدم على تمزيق اللحمة الوطنية وتطبيق سياسة (فرّق تَسُد) انطلاقاً من كراهية فرنسا الاستعمارية للإسلام والعربية باعتبارهما الإسمنت المسلح الذي يوحّد الجزائريين والجزائريات باختلاف أعراقهم وثقافاتهم المحلية، ويدفعهم بقوة وثبات إلى التطلع نحو المستقبل، وإعادة بناء الدولة الجزائرية التي دمّرها الفرنسيون على امتداد قرن و32 سنة، بأبشع ما في التدمير من وسائل وأساليب».
ويضيف شنّة، المتحدر من منطقة الأوراس التي يتكلّم سكانها الشاويّة، إحدى لهجات الأمازيغية: «لم نسمع في تاريخ الأولين من الآباء والأجداد، منذ الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، عن أي خروج للسكان المحليين عن سلطة الإسلام أو رفضهم اللسان العربي... بل على العكس تماماً من كل تلك المزاعم والأباطيل التي روّجها المؤرخون الاستعماريون، ويردّدها اليوم ببلاهة كثرة من أشباه المثقفين من أبناء هذه المدرسة الاستعمارية المغشوشة. الأمازيغ، الذين استقبلوا الإسلام والعربية في الجزائر وفي كل بلدان الشمال الأفريقي، استقبالاً كريماً مباركاً، عملوا كل ما في وسعهم خلال قرون من الإشعاع الحضاري والعلمي والثقافي، على بناء دول ومجتمعات قوية متقدمة وصل صداها إلى كل أوروبا، واستفاد من خيراتها جياع فرنسا ومشرّدو إسبانيا والبرتغال».
- مؤامرة للتمكين للفرنسية
ويذهب عبد الرزاق مقري، رئيس الحزب الإسلامي «حركة مجتمع السلم»، في الاتجاه نفسه تقريباً؛ إذ يقول: «أنا أتعجب من الحرب التي يريد بعض المغفلين والمتعصّبين والسذَّج أن يشعلوها بين العربية والأمازيغية، وهم لا يدرون أنهم وقود فتنة كان ولا يزال الاستعمار القديم والجديد يشعلها بيننا ضمن قاعدة (فرّق تَسُد). الأمازيغية والعربية كلاهما مهمشتان في هذا البلد لصالح الفرنسية. المؤامرة القائمة في الجزائر هي للتمكين للغة الفرنسية والثقافة الغربية الفرنسية، وليس للعربية أو الأمازيغية. العربية والأمازيغية شقيقتان... شقيقتان شقيقتان. كما هي الفارسية والعربية، والتركية والعربية والأردية وغير ذلك من اللغات التي انصهرت معاً ضمن الأخوة الإسلامية التي لا تفرّق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. لقد كان صهيب الرومي وسلمان الفارسي أقرب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عمّه أبي لهب. إن المطلوب هو أن تتحالف العربية والأمازيغية ضد الاستعمار والثقافة الاستعمارية، كما كانتا إبان الاحتلال الفرنسي».
وبرأي مقري «ما شهدناه في المدة الأخيرة، من سبّ وشتم متبادل بين الجزائريين على أساس الهويّة اللغوية أمر خطير. فلو وجد الجزائريون راحتهم وأنسهم وكرامتهم ورخاءهم، تحت العلم الوطني لما تعالى بعضهم على بعض بانتمائهم اللغوي، ولما تدخل الأجنبي في شأن خصوصياتهم يعبث باستقرارهم ووحدتهم، كما هو ديدنه دائماً، لتحقيق مصالحه وفرض حضارته الاستعمارية الظالمة».
وبخصوص الحرف الذي تكتب به الأمازيغية، يوضح مقري أن الأمازيغية «لغة موجودة من خلال لهجات متعدّدة منها الشاويّة والقبائلية والمزابية والترقية والشلحية... ولا يمكن تعليمها بفاعلية إلا ببناء هذه اللغة بناءً أكاديمياً يجعل لها (فصحى) تتيح للأمازيغ، بمختلف لهجاتهم، أن يفهموا بعضهم بعضاً. ومن ثم، مَن يرد أن يتعلم هذه اللغة من غير المتحدثين يسهل عليهم ذلك... تماماً مثل أي لغة أخرى. فلولا وجود العربية الفصحى مثلاً، لما استطاع العرب أن يفهموا بعضهم بعضاً... سواءً بخصوص تنوع لهجات الجزائر في مختلف جهات الوطن، وبشكل أوضح على مستوى العالم العربي، لولا الفصحى لما استطاع المغاربة أن يتواصلوا مع المصريين والخليجيين والعراقيين والسوريين، والعكس صحيح».
ويتابع مقري: «حينما نصل إلى المرحلة الأكاديمية، يتدخل الجانب الثقافي والحضاري في اختيار الحرف الذي تبنى به اللغة الأمازيغية الفصحى. وإذا اعتبرنا أن القضية الأمازيغية هي قضية كل الجزائريين، فمن حقنا في (حركة مجتمع السلم) كجزائريين أن نناصر رأي الأكاديميين، الذين يعتبرون أن اختيار الحرف العربي هو الاختيار الطبيعي؛ لأن البعد الحضاري للأمازيغ ارتبط بالبعد الحضاري العربي الإسلامي. إن الجامع بين اللغتين تاريخي وجغرافي وثقافي وسياسي واجتماعي، مثل البعد الحضاري للفرس الذي ارتبط بالإسلام بعد الفتح... واليوم تُكتب الفارسية بالحرف العربي. الشيء نفسه بالنسبة للأتراك، فاللغة التركية كانت تكتب بالعربية أيام مجد الأتراك (العثمانيين)، ثم غيّرها كمال أتاتورك للاتينية فمزّق الشعب التركي وأدخله في الصراع والتخلف».
- أخطاء الفاتحين مع الأمازيغ
أما محمد صالحي، الباحث في علوم اللسان (الألسنية)، فيقول: إن كل اللغات المستخدمة في العالم الإسلامي «تأثرت باللغة العربية معجماً ونحواً وصرفاً وصوتاً وكتابة، ولا يمكن إنكار هذا الأمر الواضح والراسخ. لقد وجد من مائة لغة تكتب بالحرف العربي، إلا أن الاستعمارين الغربي والسوفياتي سابقاً، غيَرا حروف لغات القوقاز والقرم وآسيا الوسطى. ولم تسلم الأمازيغية من هذه المحاولة؛ إذ سعى الفرنسيون بطرق عدة لتغيير حرفها العربي الذي كتبت به منذ بداية التدوين بها لفائدة كتب التفسير والفقه وخطب الجمعة والمناسبات. ولقد أوعز لأتباعه من الجزائريين أنه من مصلحة الأمازيغية كتابتها بالحرف الفرنسي (اللاتيني)، لكن في حقيقة الأمر الهدف هو إحداث شرخ بين العربية والأمازيغية، وتفريق الشعب الجزائري وتعميق صراع الهوية».
أما عدَة فلاحي، مستشار وزير الشؤون الدينية وعضو البرلمان سابقاً، فيقول: إن الأمازيغ اعتنقوا أغلب الديانات والملل والنحل التي وفدت إليهم، من مجوسية إلى وثنية إلى يهودية إلى مسيحية... وأخيراً الإسلام الذي قبلوه وارتضوه واعتنقوه طواعية بعد مقاومته في البداية. استمرت هذه المقاومة لعشرات السنين بسبب طبيعة الأمازيغي المتمرد الرافض لكل من يريد أن يهيمن عليه، إلا أن المسلمين الفاتحين حينها فقدوا الكثير من خصائصهم الروحانية الأولى التي تربى عليه الجيل الأول من الصحابة، وتصرفوا مع الأمازيغ في البداية بصفتهم عرباً، وهذا ما جعل الفتح الإسلامي عصيّاً وصعباً ومُكلفاً في البداية. ولكن يبدو أن هذه العقيدة العسكرية القديمة للمسلمين القادمين من المشرق، باستعلاء، والتي استبعدت القاعدة القرآنية (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والقاعدة السنية المحمدية «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، خلّفت عقدة ما زالت تتحكم في أمزجتنا إلى اليوم، حتى على مستوى النخبة، سواءً المعرّبة أو الأمازيغية».
ويتابع فلاحي «بعض المعرّبين البعثيين في بلادنا، أساؤوا التعامل مع المطالبين بإحياء الأمازيغية، ولذا شاهدنا ردات فعل متطرفة طالب أصحابها بكتابة الأمازيغية بـ«التيفيناغ» أو بالأحرف الفرنسية بدلاً عن العربية. وكان هناك طرف آخر كان له رد فعل عقائدي بسبب سوء تصرّف بعض المنتسبين للتيار الديني، أو ما يسمى بأصحاب الإسلام السياسي الذين قدّسوا اللغة العربية من باب تقديسهم للقران، وعلى حساب أي لهجة أو لغة أخرى، لدرجة أن بعض الأمازيغيين انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن الإسلام واعتنقوا المسيحية. بل، وذهب البعض منهم إلى الدعوة لانفصال منطقة القبائل عن الجزائر وتأسيس دولة مستقلة خاصة بهم تحمل هويتهم. وهذا للأسف، بمباركة وتشجيع ودعم الكولونيالية الفرنسية القديمة التي تستثمر في خلافاتنا».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.