هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

البازعي في مجموعة مقالات ومحاضرات تتناول قضايا العصر

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات
TT

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

هموم العقل في عصر انفلات اللاعقلانيات

لا يأبه الدكتور سعد البازعي كثيراً لضعف التفاعل مع ما يشارك به من محاضرات وما ينشره من مقالات أو كتب متتالية تحمل طابعاً فكرياً تنويرياً متقدماً، ويصر على المضيّ قدماً في نشر مزيد منها لتضيف رصيداً رصيناً إلى المكتبة العربية، إذ إنه «سيظل هناك مَن يستحق أن يحفّز الاطلاع والاستجابة، مَن يستحق أن يكتب له وإن آثر الصمت وتوارى خلف ستر التردد أو الحيرة أو ضعف القدرة على التعبير»، كما يقول في مقدمة كتابه «هموم العقل»، الصادر عن المركز الثقافي العربي، عام 2016.
وكما جرت العادة مع كثير من كتبه، وهو ما أشار إليه في مقدمة كتابه أيضاً، يضم هذا الكتاب مجموعة من المقالات والمحاضرات التي سبق نشرها، وجُمعت بين دفتي كتاب هو أشبه بالبوتقة متجانسة الأفكار والرؤى والمنطلقات إلى حد كبير، يجمع فيما بينها مناقشة بعض الهموم الفكرية التي تطرق إليها عدد من أهم المفكرين والفلاسفة من ثقافات عالمية مختلفة.
- هموم العقل الأكاديمي
الكتاب مقسم إلى 8 محاور، جاء المحور الأول منها تحت عنوان «هموم العقل الأكاديمي»، ويضم 3 أوراق: الورقة الأولى حملت عنوان «الإنسانيات في عالم استهلاكي» وفيها ينعى الكاتب الحالة البائسة التي وصلت إليها حالة الدراسات الإنسانية في الجامعات التي أصبحت «آلات إنتاج موظفين وموظفات في القطاعين العام والخاص»، متحولة ومتخلية عن دورها المعرفي التثقيفي التنويري لتصبح مجرد ماكينة تفريخ موظفين وموظفات يسعون للحصول على شهادات تمكّنهم من الالتحاق بسوق العمل الطاحنة. ولأنه ليس إنساناً حالماً أو واهماً، فإن البازعي يدعو، للخروج من هذا المأزق، إلى أن تتخذ الإنسانيات موقفاً براغماتياً توفيقياً «لا تفقد فيه وجودها، المهدد أساساً، وذلك بأن تتوازن بين الاستجابة لحاجات سوق العمل وتعميق دورها الأساس وهو تقديم فكر ورؤية أعمق»، ثم يمضي لتأكيد ضرورة أن تتصف تلك الرؤية بالقدرة على إقناع المؤسسة الرسمية والأكاديمية ويراها المجتمع.
وتحت عنوان «الدراسات البينية وتحديات الابتكار»، يوجه صاحب كتاب «استقبال الغرب» مجدداً سهام نقده إلى الطريقة التي انتقلت فيها الدراسات البينية «أي الدراسات التي تلتقي في إطارها علوم مختلفة منها العلوم الإنسانية والاجتماعية» من محاضنها في الغرب إلى العالم العربي كما هي دون تغيير أو تعديل أو حتى تبيئة، فهي ليست نتيجة حاجة علمية معرفية لدينا بقدر ما هي محض استنساخ لما يحدث لديهم، أي في الغرب تحديداً. صحيح أن كثيراً من تلك الدراسات البينية كعلم النفس اللغوي وعلم الاقتصاد السياسي قد انتقلت إلينا، ولكن ما لم ينتقل -كما يرى البازعي- هو الدافع الأساس وراء امتزاج العلوم، ومن ثم فهو يؤكد أن ما تحتاج إليه الدراسات البينية هي «الروح النازعة للتفكير المختلف»، ويعني بذلك «النظر فيما ربط العلوم أو التخصصات المختلفة حسب التجارب العالمية للإفادة منها، مع عدم الوقوف عند تلك الأنماط من الربط، سعياً إلى أنماط جديدة، ليس لأنها جديدة أو مختلفة ولكن لأنها قد تكون الأكثر ملاءمة لاحتياجات علمية وبحثية نابعة من صميم الأوضاع الثقافية والاجتماعية وأكثر كفاءة في التعامل معها».
- في نقد الحضارة
في 3 مقالات متتابعة وتحت عنوان واحد يشكل أحد أقسام الكتاب هو «إدغار موران: في نقد الحضارة»، يقدم البازعي ما يشبه الخلاصة التعريفية بأهم أفكار وأطروحات المفكر الفرنسي إدغار موران الذي يُعد من أبرز المفكرين الغربيين الذين قدموا نقداً صريحاً وقاسياً للحضارة الغربية المتغولة التي لم تكن نعيماً كلها، كما يصر على ذلك كثير من المفتونين بها. ويرتبط موران، كما يشير البازعي، لدى كثيرين بمفهوم الفكر المركب الذي يعني الدعوة إلى «رؤية متزامنة ومتجاوزة للظواهر في المجتمعات الحديثة ولحركة التاريخ»، بمعنى أن موران يرى أن ظواهر مثل التحضر والبربرية تتزامن، «فالمجتمع الذي يُعد متحضراً قد يكون كذلك في جوانب منه وبربرياً في جوانب أخرى، وفي الوقت نفسه». إن التنمية الصناعية التي بشّر بها الغرب وكرس لها كل طاقاته وموارده «وطاقات وموارد مَن خضعوا لاستعماره» باتت -حسب موران- تشكل خطراً يتهدد البشرية على مستويين: خارجي يتمثل في التدهور البيئي، وداخلي يتمثل فيما يسميه «جودة الحياة»، ولا يقصد هنا المعنى المادي، بل المعنوي المتمثل في العلاقات الإنسانية القويمة والتوازن النفسي الفردي.
الفكرة الأساس التي ينقلها البازعي عن موران هي أن الحضارة الغربية قابلة للنقد والتفكيك والمساءلة، وهو ما يكاد يغيب لدينا نحن العرب الذين نواجه الغرب إما بخطاب هجائي لا يرى فيه إلا مصدراً للشرور، أو خطاب تمجيدي لا يرى في الغرب إلا كل ما هو إيجابي، وكلتا النظرتين تجانب الصواب، ومنبعهما ما يسميه البازعي «العمى الثقافي» الذي هو «اسم آخر للتعصب، سواء أكان مع الذات أم ضدها، ومع الآخر أو ضده».
- مَن هم المفكرون؟
بعد قسم-مقالة خُصص لعرض كتاب إدوارد سعيد الأخير «حول الأسلوب المتأخر»، ننتقل إلى قسم يضم 4 مقالات جاءت كلها تحت إطار-عنوان «مَن هم المفكرون؟»، تفتتح بمقالة تمحورت حول عبارة أدلى بها الكاتب خورخي لويس بورخس في حوار أُجري معه عام 1976. وصف بورخس نفسه في ذلك الحوار بأنه «مجرد أديب»، نافياً صفة المفكر التي ألحقها محاوره به. ولا يخفي البازعي بدوره دهشته من نفي بورخس لتلك الصفة عن نفسه، ويرى أن ذلك ينمّ عن تواضع كبير لدى بورخس «والأمر كذلك حقاً»، ولكن ألا تنمّ تلك الدهشة نفسها عن تقليل وحط من صفة ومكانة الأديب بشكل من الأشكال وبزاوية من الزوايا؟
في المقالة التالية «تساؤلات في زحمة المفكرين» يشن البازعي هجوماً على شيء من القسوة المستحقة بشأن التساهل في إطلاق مسمى «المفكر» على مَن لا يستحقه من الكتاب والمثقفين، وهذه الصفة أيضاً، أعني المثقف، غير بعيدة عن صفة المفكر، في التساهل في إطلاقها على من يستحقها ومن لا يستحقها. أما المقالة الثالثة فهي عرض لكتاب المثقف التنويري المعروف أحمد أمين الذي تناول فيه سيرته «حياتي». ويختتم هذا القسم بمقالة يعرض فيها الكاتب كتاب «الاضطهاد وفن الكتابة» لمؤلفه ليو شتراوس.
- حوارات فلسفية
وتحت عنوان «حوارات وتأملات فلسفية»، نقرأ عرضاً لكتاب احتوى حواراً بين اثنين من أهم الأسماء الفلسفية المعاصرة وهما الفرنسي آلان باديو «1937 - » والسلوفيني سلافوي جيجيك «1949 - ». ويخوض الفيلسوفان المتناقضان ليس في مواقفهما فحسب، بل حتى في طريقة حديثهما وهيئتهما، في حديث ممتد حول بعض أهم القضايا التي تشغل الفلاسفة المعاصرين مثل دور الفلسفة في قضايا الحاضر، وطبيعة الدور المنوط بالفيلسوف من مسائل عصره التاريخية والسياسية والاجتماعية، كما يدخلان في نقاش محتدم حول الديمقراطية التي تحولت إلى «صنم»، كما يشير جيجيك، إذ إن ثمة سعياً وحرصاً شديدين على المحافظة على قواعد وضوابط الديمقراطية بغض النظر عن النتائج التي تؤدي إليها حتى حين تكون غير مقنعة أو تنطوي على غش، إذ يجب القبول بها حفاظاً على اللعبة الديمقراطية نفسها.
- إشكاليات إثنية
في أطول أقسام الكتاب، وتحت عنوان «إشكاليات إثنية وعبر ثقافية»، يدرج البازعي 7 موضوعات ذات مساس بتصور الآخر لدى العرب والغربيين، وبمفهوم العدو وارتباطه بالثقافة، واختراع فكرة العدو كما يحللها أمبرتو إيكو، فضلاً عن التعريف بقراءة الفيلسوف الفرنسي آلان باديو للربيع العربي، ومناقشة مفهوم العنصرية في الفكر الأوروبي، بالإضافة إلى مقالتين حملتا عنواني «رسالة أوروبا وطموحات مفكريها»، و«ماركس واليهود».
ولأن الترجمة لا تكاد تغيب عن مؤلفات البازعي النقدية والفكرية، فقد تضمن هذا الكتاب قسماً خاصاً بالترجمة ضم مقالتين مطولتين ناقش فيهما الكاتب كتابين يتناولان بعض أكثر المسائل المرتبطة بالترجمة تعقيداً وإثارة للإشكاليات: الأول هو «مفردات في الفلسفة الأوروبية: معجم لما يقبل الترجمة»، والآخر هو «الترجمة والقوة»، ويضم أبحاثاً لعدد من الاختصاصيين بالترجمة «بوصفها نشاطاً فكرياً وتطبيقياً».
- معايشات الحرية
القسم الثامن والأخير من الكتاب احتوى على قراءة وعرض مطول لكتاب «معايشات الحرية» الصادر قبل 4 أعوام، وهو معنيّ بموضوع الحرية في الآداب والثقافات الما بعد كولونيالية «الما بعد استعمارية»، ويُقصد بها تلك التي عاشت التجربة الاستعمارية ومن ثم مرحلة التحرر من الاستعمار. ويسلط البازعي الضوء على عدد من الأبحاث الثلاثين التي ضمها الكتاب في 6 محاور، منها: الفكر الأسود، وفلسفة المقاومة، وخطابات المقاومة، وثقافة المستعمر في السودان، ومقاومة الكاتبات. أما المقالة الثانية والأخيرة في الكتاب فخُصصت لعرض ومناقشة كتاب «جدل العولمة» للكاتب الكيني نغويي وا ثيونغو، الذي صدر عام 2013. وصدرت ترجمة الدكتور البازعي له عام 2014 عن مشروع «كلمة» في أبوظبي.
* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.