ما زالت تركيا تعد قوة قائمة لا يمكن الالتفاف عليها، وسط توازنات إقليمية ودولية. غير أن أنقرة فشلت في أن ترتقي إلى مستوى القوة القائدة الذي كانت تطمح في تجسيده منذ عدة سنوات. تركيا توجد على مفترق مجموعة بؤر من التوتر، وهي تعاني من صعوبات جدية تمنعها من وضع سياستها الخارجية موضع التنفيذ. فبينما أطلقت تركيا في بداية الألفية مجموعة واسعة من المبادرات السياسية - الدبلوماسية، كانت بدايات الانتفاضات العربية في عام 2011 بمثابة مفاجأة لها. وبعد مرحلة من التردد، قررت تركيا الوقوف إلى جانب الحركات الاحتجاجية. وخلال بعض الوقت، بدا أن الدبلوماسية التركية حققت كثيراً من النجاحات، إلى درجة أخذ كثيرون في الحديث عن «نجاح النموذج التركي».
غير أن الانتفاضة التي انطلقت في سوريا أعادت خلط الأوراق. ذلك أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تكون لديه منذ صيف عام 2011 نوع من الهوس الخاص بالسعي لإسقاط رئيس النظام السوري، متوسلاً لذلك دعم جميع مكونات الحركات المعارضة بما فيها الأكثر راديكالية؛ لكن قدرة رئيس النظام السوري على المقاومة وصعوبة إسقاطه عسكرياً، وضعت تركيا في وضع حرج؛ خصوصاً أن سياسة القمع في الداخل التي اتبعتها أنقرة أصابت صورتها، وأصابتها إلى حد كبير بالضعف على المستوى الدولي.
بموازاة ذلك، ساهمت الفوضى التي حلت في سوريا في إعادة طرح المسألة الكردية التي تمثل التحدي الوجودي الأول لتركيا. فحزب الاتحاد الكردي الذي يعد امتداداً لحزب العمال الكردستاني، تعتبره أنقرة تنظيماً إرهابياً، وهي تنظر إليه كأعظم الأخطار. والحال أن حزب الاتحاد عمد إلى إعلان إدارة ذاتية في منطقة واسعة على طول الحدود السورية - التركية. وما زاد من المخاوف التركية أن ميليشياته فرضت نفسها تدريجياً كطرف أساسي في الحرب على «داعش»، وهي تحظى بتمويل أميركي وروسي. وهكذا، وجدت تركيا نفسها في وضع تناقضي رئيسي؛ إذ إنها من جهة تعتبر الحزب المذكور أحد أبرز أعدائها؛ لكنه بالمقابل يحظى بدعم حلفائها وشركائها.
أول انقلاب حصل في سياسة تركيا إزاء سوريا، ظهر في صيف عام 2016؛ حيث استدارت أنقرة استدارة عنيفة، فعمدت إلى تنسيق سياستها مع روسيا، بينما كان هذان الطرفان يتبعان سياستين متعارضتين تماماً، ناهيك عن التوتر الذي نشب بينهما خلال عدة شهور، بعد أن أسقط الطيران الحربي التركي قاذفة روسية في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2015.
كانت للاستدارة التركية مجموعة من النتائج، أولها أنها سمحت لأنقرة بأن تعود إلى قلب المبادرات الدبلوماسية الهادفة إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية؛ ولكن أيضا إظهار أن تركيا ما زالت طرفاً رئيسياً وضرورياً من أجل الاستقرار الإقليمي. لكنه إذا كان صحيحاً أن دورة الاجتماعات التي عقدت في آستانة مع شريكيها الروسي والإيراني وفرت إطلاق عدد من المبادرات الناجحة، وتحديداً إرساء مناطق خفض التوتر، فإنه بالمقابل علينا أن نلزم جانب الحذر، إذ إن ميزان القوى يبين بوضوح أن الأوراق الحقيقية المؤثرة في إدارة الملف السوري موجودة في أيدي روسيا. رغم ذلك، فإن تركيا يبقى لها دور ضروري تلعبه بفضل العلاقات والاتصالات التي نسجتها مع مجموعات المعارضة. وللمرة الثانية خلال 14 شهراً، عمدت تركيا، بموافقة روسيا وإيران، إلى التدخل عسكرياً على الأراضي السورية، وآخرها في إدلب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي الأمر، الذي يسمح لها بمراقبة ميليشيات حزب الاتحاد الكردي عن قرب.
على الصعيد العراقي، نتجت مصادر القلق لتركيا عن قرار حكومة إقليم كردستان «العراق» تنظيم استفتاء على الاستقلال في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. وبمعزل عن أن هذه المبادرة مثلت خطأ سياسياً واضحاً، فإنها جاءت لتبين لأنقرة أن قدرتها على التحكم بمسار الأمور في كردستان العراق كانت في الواقع سطحية، والأمر شكل لها نكسة سياسية.
التقارب مع روسيا والابتعاد عن الغرب
إذا كانت أنقرة قد نجحت في سعيها للتقارب مع روسيا، وتدعيم ذلك بعقد عسكري لشراء أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية المتطورة من طراز «إس – 400»؛ إلا أنها في الوقت عينه أثارت قلق القوى الغربية التي أخذت علاقاتها معها في التدهور. فمع الولايات المتحدة الأميركية أولاً، تكاثرت الملفات الخلافية منذ كثير من الأشهر.
هناك بداية ملف الخلاف بشأن الإمام فتح الله غولن الذي يعيش في منفاه الأميركي منذ عام 1999، والذي يتهمه القادة الأتراك بأنه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب التي حصلت في 15 أغسطس (آب) عام 2015؛ ذلك أن رفض واشنطن تسليمه لتركيا يثير حنق أنقرة التي تذهب إلى حد اتهامها بالتآمر. وما يفاقم الغيظ التركي هو الدعم الذي يوفره الجانب الأميركي لحزب الاتحاد الكردي الذي تعتبره أنقرة تنظيماً إرهابياً.
وحتى تكتمل الصورة تتعين الإشارة إلى ملف رجل الأعمال مزدوج الجنسية التركي - الإيراني رضا زراب، الذي لعب دوراً مركزياً في عمليات غسل الأموال التي كانت تنقل إلى إيران، عندما كانت خاضعة لنظام العقوبات. والحال أن زراب يخضع حالياً للمحاكمة في الولايات المتحدة، وقد يوفر كثيراً من المعلومات حول الفساد الذي يمس المحيط المباشر للرئيس إردوغان. وهذا بالطبع يزيد من حساسية أنقرة.
ليست العلاقات التركية - الأوروبية أحسن حالاً مما هي عليه مع الولايات المتحدة؛ لكن أسباب التوتر معها مختلفة. ويعود المأخذ الرئيسي لأنقرة إلى اعتبارها أن الاتحاد الأوروبي لم يقدم لها الدعم الواضح عند حصول المحاولة الانقلابية في صيف عام 2015. ويتزاوج ذلك مع «حساسية» السلطات التركية إزاء الانتقادات الأوروبية بشأن انتهاكات الحقوق الديمقراطية في تركيا، ناهيك عن المآخذ المترتبة على تجميد المفاوضات الخاصة بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
ومن بين كافة البلدان الأوروبية، كان التوتر على أوجه مع ألمانيا بالدرجة الأولى في عام 2017، حيث إن الرئيس إردوغان لم يتردد في توجيه سهامه لعودة النازية إلى هذا البلد. وبعكس ذلك، تبدو علاقات تركيا مع فرنسا أقل حدة؛ لكن هذا غير كاف، ويبدو أنه أكثر من أي وقت مضى، يتعين إعادة بناء العلاقات التركية -الأوروبية على أسس جديدة تكون كفيلة بإعادة إطلاق الشراكة التي يحتاج إليها الطرفان، من أجل مواجهة التحديات المشتركة، وعلى رأسها الإرهاب وملف اللاجئين.
هكذا، فإن أسباب الشكوى بين تركيا وشركائها الغربيين كثيرة. ورغم ذلك كله، فإن التحالفات التقليدية القائمة بين الطرفين لم تمت. لذا، يتعين الابتعاد عن الصيغ الجاهزة في توصيفها، وعن اعتبار أنها أصبحت نهائية ومحددة لمستقبل العلاقات بينهما. ورؤيتنا هي أن تركيا، في الواقع، عازمة على إعادة النظر في علاقاتها مع العالم الخارجي، وإعادة إرسائها على أسس جديدة وهذا بنظرنا هو الأهم.
من الواضح أن سياسة الرئيس إردوغان الانفعالية غالباً ساهمت، من غير شك، في تبديد الأوراق الرابحة الكثيرة التي كانت بحوزتها. لذا، فإن تركيا اليوم أصيبت بشيء من الضعف وهي تجتاز أوقاتاً عصيبة. رغم ذلك، فإن تموضعها الذي يجعل منها نقطة تلاق لمصالح متباينة، إن لم تكن متضاربة، ما زال يشكل القاعدة التي تبني عليها قدراتها وقوة الاجتذاب التي تتمتع بها.