الصحف الورقية في العالم العربي... إما التجدد أو الاندثار

خسرت معركة السرعة أمام الوسائط الإلكترونية وحظوظها تكمن بالتخصص والتعمق

رغم معاناة الصحف الورقية إلا أن الجرائد اليومية لا تزال جزءاً لا يتجزأ من يوميات شريحة كبيرة من العرب
رغم معاناة الصحف الورقية إلا أن الجرائد اليومية لا تزال جزءاً لا يتجزأ من يوميات شريحة كبيرة من العرب
TT

الصحف الورقية في العالم العربي... إما التجدد أو الاندثار

رغم معاناة الصحف الورقية إلا أن الجرائد اليومية لا تزال جزءاً لا يتجزأ من يوميات شريحة كبيرة من العرب
رغم معاناة الصحف الورقية إلا أن الجرائد اليومية لا تزال جزءاً لا يتجزأ من يوميات شريحة كبيرة من العرب

«نيويورك تايمز» واكبت التقدم التكنولوجي بموقعها، لكنها اختارت الحفاظ على نسختها الورقية التي لا يزال يقرأها الملايين حول العالم. «لن نتخلى عن طبعتنا الورقية في المستقبل القريب، إلا أنني أستطيع تخيل (نيويورك تايمز) إلكترونية يوماً ما» كلمات هادئة وواثقة قالها رونالد كابوتو نائب رئيس قسم الخدمات الورقية لدى الصحيفة لـ«الشرق الأوسط» في يوليو (تموز) الماضي. لم يقلق كابوتو على «التايمز» الورقية، فهي صحيفة دولية يتسابق المارة على شرائها من الأكشاك أينما كانوا. إلا أنه حذر من انقراض الصحف المحلية في أميركا. أكد لنا خلال حديثه أن العديد منها تصارع البقاء والآخر أسدلت الستار على نسخها. ظاهرة دفعتنا لدراسة الوضع في العالم العربي والتركيز على السعودية، ومصر، ولبنان. دول عربية بتاريخ صحافي عريق ومهد لأبرز المطبوعات الورقية التي لا تزال أهمها مستمرة رغم المصاعب.
تحديات اختلفت من دولة إلى أخرى، لكن يبدو أن ثمة اتفاقاً على أن الصحافة المطبوعة لن تختفي في المستقبل القريب رغم التحديات، لكن لكي تبقى حظوظها المحدودة، عليها أن تطور أداءها ليصبح أكثر ميلاً للعمق والتخصص بعدما خسرت في معركة السرعة أمام الوسائط الإلكترونية.
صحف مصر تصارع كابوس الاختفاء
لم يشفع تاريخ الصحافة الورقية المصرية العريق، الذي يزيد على مائتي عام، في وقف تراجع التأثير ونسب التوزيع والإعلانات. وفي أحدث دلالة على التراجع المطرد للصحافة الورقية، أفاد جهاز الإحصاء الحكومي بأنه تم إغلاق نحو 50 في المائة من الصحف المحافظة على الصدور خلال 5 سنوات فقط، بالإضافة إلى تراجع توزيع الصحف من 2.5 مليون نسخة يومياً، إلى 400 ألف نسخة في 2017، وفقاً لتقديرات خبراء التوزيع. ورغم مناشدات الخبراء والمراقبين المتكررة لبحث أسباب الأزمة ومعالجتها لعدم تكرار سيناريو إغلاق صحف «البديل»، و«التحرير»، و«الأحرار»، و«الطريق»، و«الكرامة»، و«الجيل»، وغيرها من الصحف اليومية والأسبوعية، فإن الهيئات الحكومية المسؤولة عن مستقبل الصحافة في مصر، لا تبدي اهتماماً بالأزمة حتى الآن، بحسب وصف المراقبين.
ويبدو أن ثمة اتفاقاً بين الخبراء المتخصصين على أن الصحافة المطبوعة في مصر ستحافظ على وجود محدود ورمزي، وستواصل التراجع كمياً مع زيادة التعرض للوسائط الإلكترونية، ولكي تبقى حظوظها المحدودة، عليها أن تطور أداءها ليصبح أكثر ميلاً للعمق والتخصص.
يقدر مجدي الحفناوي، مدير توزيع جريدة «المصري اليوم»، توزيع جميع الصحف المصرية (اليومية والأسبوعية) حالياً، بـ400 ألف نسخة فقط، رغم تخطي صحيفته وحدها هذا الرقم إبان انتفاضة 25 يناير (كانون الثاني) 2011.
وأضاف الحفناوي لـ«الشرق الأوسط»: «توقعت في العام الماضي أن ينخفض توزيع الصحف اليومية التي قامت برفع أسعارها إلى 3 جنيهات بنسبة 30 في المائة، لكن توزيعها انخفض بنسبة 50 في المائة، وهذه حقيقة مفزعة جداً، وكابوس يُداهم الصحافة المصرية الورقية العريقة التي تنهار لصالح الصحافة الرقمية».
ولفت الحفناوي إلى أن «الصحافة الرقمية في مصر ليست مستعدة حالياً لتعويض الصحافة الورقية بسبب ضعف العائد المادي، وعدم قدرتها على استيعاب كل العاملين في الصحافة الورقية بداية من عمال المطابع وحتى رؤساء التحرير». وقدر الحفناوي عدد العاملين في مجال الصحافة في مصر بنحو 75 ألف فرد.
وأدت الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر منذ ثورة 25 يناير 2011، إلى إغلاق صحف يومية وأسبوعية، وتسريح عدد كبير من الصحافيين، بعد عزوف آلاف المواطنين عن شراء الصحف لارتفاع أسعارها بنسبة 100 في المائة خلال 5 سنوات، بالتوازي مع زيادة أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، خصوصاً بعد تحرير سعر صرف الجنيه المصري.
وكانت صحيفة «البديل» (يومية خاصة)، أعلنت في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، التوقف عن الصدور نهائياً، بسبب الأزمات المالية. وفي العام نفسه، أعلنت صحيفة «التحرير»، التوقف عن الصدور اليومي والاكتفاء بعدد أسبوعي يصدر كل يوم ثلاثاء. وأرجعت سبب الإغلاق في بيان إلى انصراف أغلب قطاعات المجتمع عن قراءة الصحف المطبوعة، خصوصاً الشباب، واتجاههم إلى الحصول على معلوماتهم من الصحافة الإلكترونية. وفي نهاية عام 2013، تحولت صحيفة «المصريون» من النسخة اليومية إلى الأسبوعية.
واعتبر صلاح عيسى الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة سابقاً، أن «أزمات الصحف المصرية حالياً مرتبطة بالركود الاقتصادي». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «طلبنا من ملاك الصحف اليومية معالجة الأزمة من خلال تخفيض عدد الصفحات وتقليل الألوان، دون اللجوء إلى تسريح العاملين أو رفع سعر الصحف، وبالفعل استجابت بعض الصحف اليومية لذلك، مثل (الوطن)، و(الشروق)، و(المصري اليوم)، وحتى المؤسسات القومية استجابت لهذه النصائح وخفضت عدد الصفحات والألوان».
وتابع عيسى: «سجلات المجلس الأعلى للصحافة يوجد بها عدد كبير من الصحف الحاصلة على تراخيص بالصدور، لكنها تعتبر أرقاماً وهمية، فهي لا تصدر بانتظام لعدم وجود تمويل أو إعلانات، فعدد تراخيص الصحف الحزبية في مصر 8 صحف، لا يصدر منها إلا صحيفتان فقط».
وأشار عيسى إلى قرار المجلس في مارس (آذار) الماضي بإيقاف ترخيص جريدة «البديل» الورقية وعدد من الصحف غير المعروفة التابعة لأندية وجمعيات، لتوقفها عن الصدور بانتظام بسبب الأزمات المادية، موضحاً أن «الأزمات التي تعاني منها الصحف المصرية لا تنطبق على الصحف الخليجية، لأن مستوى المعيشة بالدول التي تصدر منها مرتفع ولا تعاني من أزمات اقتصادية».
ويبلغ عدد الصحف اليومية المصرية حالياً 23 صحيفة؛ منها 9 صحف قومية، و13 خاصة، وواحدة حزبية هي جريدة «الوفد»، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الذي أفاد في شهر مايو (أيار) الماضي، في تقرير أصدره لمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، بأن عدد الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية في مصر كان قد بلغ 75 صحيفة، منها 3 صحف حزبية عام 2015، مقابل 80 صحيفة عامة منها 8 صحف حزبية عام 2014، بانخفاض بلغت نسبته 6 في المائة.
الأرقام السابقة تعطي مؤشراً سلبياً عن حالة الصحافة المطبوعة في مصر، إذا قورنت ببيان الجهاز الحكومي نفسه عام 2012، حيث أفاد بأن عدد الصحف المصرية آنذاك بلغ 142 صحيفة في عام 2010، فيما بلغ عدد الصحف الحزبية في العام نفسه أيضاً 23 صحيفة، لا يصدر منها الآن سوى صحيفتين «الوفد» و«الأهالي»، وفقاً لرئيس المجلس الأعلى للصحافة سابقاً.
وأفاد بيان «الإحصاء» لعام 2012 أيضاً، بأن عدد النسخ الموزعة محلياً بلغ 917.9 مليون نسخة عام 2010 بمتوسط 2.5 مليون نسخة يومياً، لكنها هبطت إلى 560.7 مليون نسخة في عام 2015. بمتوسط نحو مليون ونصف المليون نسخة، ويقدر الخبراء نسب التوزيع الحالية بـ400 ألف نسخة فقط لكل الصحف المصرية يومياً.
الأرقام الحكومية السابقة التي تؤكد تراجع نسب التوزيع حالياً، وارتفاع نسب إغلاق الصحف تعضدها أرقام رسمية أخرى سلبية صادرة من «الهيئة الوطنية للصحافة»، (المسؤولة عن إدارة المؤسسات الصحافية القومية) على لسان رئيسها كرم جبر، الذي أكد في تصريحات تلفزيونية أن ديون الصحف القومية وصلت إلى 19 مليار جنيه (الدولار الأميركي يعادل 17.7 جنيه مصري) في مؤشر غير مبشر للخروج من الأزمة.
وقال الكاتب الصحافي والمدرب الإعلامي خالد البرماوي لـ«الشرق الأوسط»: «صناعة الصحف في مصر، كانت تحقق عائدات سنوية تبلغ قيمتها نحو نصف مليار جنيه من التوزيع فقط قبل 5 سنوات، لكن انخفاض حجم التوزيع والإعلانات حالياً بنسبة 50 في المائة يعطي مؤشراً على اقتراب نهاية أجل الصحافة الورقية في مصر».
وأضاف البرماوي: «بالهند توجد تجربة ناجحة في زيادة توزيع الصحف بنسبة 8 في المائة سنوياً، واعتمدت تلك التجربة الفريدة على التعاون والشراكة بين المؤسسات الصحافية تحت شعار المصلحة».
وقال الناشر هشام قاسم لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعتقد أن الصحف المصرية الحالية ستستمر طويلاً، سنرى بلا شك كيانات جديدة مدمجة ومنفردة، فالمؤسسات القومية ليس لها مستقبل بوضعها المالي الحالي في ظل توجهات الحكومة الحالية برفع الدعم عن المؤسسات العامة».
وأضاف قاسم: «من علامات تراجع الصحف الورقية في مصر الآن تشابه أو تطابق المانشيتات اليومية»، مشيراً إلى أن «تدخلات بعض أجهزة الدولة في المحتوى الصحافي وفرض مانشيت معين، تسبب ذلك في تراجع دور الصحافة المطبوعة في مصر».
وعن غياب تأثير الصحف يقول قاسم: «معظم مانشيتات الصحف أصبحت موحدة، ولا تتسم بالجرأة، وموضوعاتها الداخلية ليست طازجة وتعاني السطحية، ولا تقدم للقارئ خدمات أو معلومات جديدة، وإن أرادت الحفاظ على ما تبقى لها من تأثير محدود يجب أن تتجه إلى العمق والتجديد».
إجراءات محدودة لإطالة أمد بقاء الورق في السعودية
رغم كثرة التكهنات بأن الصحافة الورقية في السعودية تلفظ أنفاسها الأخيرة، فإن المتابع للمشهد الإعلامي السعودي يلمس انتعاش الحراك المهني للصحافة ومواكبة عدة صحف لمعطيات العصر الإعلامي الجديد، وهو ما مثل طوق نجاة لبعض الصحف التي عمدت إلى تطوير نهجها بما ينسجم مع متطلبات المتلقي المعاصر.
إلى ذلك، ذكر الدكتور فهد آل عقران رئيس تحرير صحيفة «المدينة» السعودية، أن الصحافة الورقية في السعودية صامدة، لكنها تعاني. وقال: «لدينا نحو 10 مؤسسات، والصحف الورقية تمثل جزءاً منها، لكن لهذه المؤسسات منصات إعلامية أخرى»، مشيراً إلى أن الصحافة السعودية بحاجة إلى دعم حقيقي وإعادة النظر فيها.
وأضاف آل عقران لـ«الشرق الأوسط»، أن الصحافة الورقية هي منبع الإعلاميين، والصحافيون هم المتسيدون للمشهد الإعلامي، إن كان في شبكات التواصل الاجتماعي أو التلفزيون أو غير ذلك، لافتاً إلى أن رأسمال الصحف السعودية يقارب مليار ريال (260 مليون دولار)، وتضم بين 3.5 آلاف و4 آلاف عامل، ما بين صحافي ومصور وعمال مطابع وغيرهم، وهذه الصناعة بحاجة إلى تطوير ودعم لأنها القوة الحقيقية.
أما الدكتور فهد العسكر أستاذ الإعلام والصحافة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، فاعتبر أن الصحف السعودية ليست بمنأى عما يحدث في الصحافة عالمياً، وعليها أن توجد حلولاً جذرية كي لا تواجه المصير القاسي الذي عصف بالصحافة الورقية عالمياً، سواء كانت هذه الحلول من قبل المؤسسات نفسها أو من الدولة.
واعتبر العسكر أن كل الذي تعمله الصحف السعودية الآن إجراءات محدودة، تسعى من خلالها إلى إطالة أمد البقاء وليس استدامته.
وأشار إلى أن الصحف تتباين في قدرتها على الصمود تبعاً لقوة بنيتها، سواء المهنية أو الاقتصادية، بمعنى أن الصحف التي لديها قاعدة اقتصادية جيدة ووفرت من أرباح سابقة، فهذه هي الأكثر قدرة على الصمود، على الأقل حتى يمكنها تدبير حلول جذرية تساعدها في تعزيز استدامتها، وذلك بعكس الصحف التي كانت طوال تاريخها تعاني من ضائقة مالية.
من جهته، يعتقد الدكتور خالد الحلوة أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود، أن الصحف السعودية صامدة الآن، لكن إن لم يكن لديها بديل رقمي واشتراكات رقمية ولم توجد حلولاً مستقبلية، فسيقل مدخولها من الإعلان ولن تصمد طويلاً. وتابع: «الصحف السعودية تحاول الآن تغطية هذا النقص، وبعضها قلل حجم الورق، فإحدى الصحف كانت تضم 50 صفحة والآن تصدر 28 صفحة باليوم فقط، وهذه تغطية مؤقتة للنقص، لكن ماذا سيحدث على المدى الطويل؟».
لبنان يخطط لإعادة ابتكار جرائده
البعض اعتبرها «مغامرة» وبعض آخر رأى فيها تهورا، ووصف الصحافي وناشر جريدة «السفير» طلال سلمان المشروع بـ«الشجاع» قائلاً إن إصدار جريدة ورقية جديدة، في هذا الوقت، يكاد يكون «مهمة انتحارية».
الكلام هو عن صحيفة «الاتحاد» اللبنانية، اليومية، التي تصدر في وقت حرج، تعاني فيه كل الصحف الورقية الموجودة، وبعضها له تاريخ عريق، من عجز في التمويل وتعيش غالبيتها نزعها الأخير وهي تسرّح عشرات الصحافيين المحترفين.
لبنان الذي كان رائد الصحافة في المنطقة منذ القرن التاسع عشر، حيث أصدر في عام 1870 وحده سبع جرائد ومجلات، يكاد يودع اليوم عهد الصحافة الورقية.
ويقول رئيس تحرير الاتحاد مصطفى ناصر إن الإعلانات لم تنخفض كما يشاع وإن الأمل لا يزال ممكناً، بترشيد المصاريف.
وصفة يعتبر خبير في مجال الإعلان أنها تستحق الاهتمام «لأن المشكلة في المضمون، وليس في غياب القارئ، وما يموت اليوم هي الصحافة الورقية وليست الصحافة المكتوبة، لأن المواقع أمامها فرصة كبيرة. أما القول إن الإعلانات لم تنخفض؛ فهذا كلام لا يصمد أمام الوقائع. يكفي أن نفتح أي جريدة ورقية في لبنان لنتأكد من قلة الإعلانات، لا بل وندرتها أحيانا».
ويقول جورج جبور رئيس «نقابة الإعلان» في لبنان: «الإعلانات في الصحف انخفضت في السنتين الأخيرتين بنسبة 30 في المائة. وفي شركتي (إم سي إن) مثلاً انخفضت النسبة إلى 38 في المائة».
يعزو جبور الأمر إلى أسباب عدة، منها الوضع الاقتصادي السيئ الذي يجعل الميزانيات المخصصة للإعلانات أقل من السابق، ثم تعدد الوسائط التي تتوزع عليها الميزانيات، حيث هناك الإعلانات على الطرقات، المواقع الاجتماعية التي باتت تنتزع حصة كبرى، والمواقع الصحافية الإخبارية، وهذه تعيش بتمويلات صغيرة، وغالبيتها لا تفعل سوى نقل الخبر الذي يصل إلينا بالرسائل النصية أو نسمعها في نشرات الأخبار، كما أن كثيراً منها تنقل عن الورقي.
فيما لم يكن ممكناً لجريدة «النهار» مثلاً أن تنقل مقالة أو موضوعاً سياسياً عن «السفير»، ويتقبل القارئ الأمر.
هناك اليوم ما يقارب 11 صحيفة يومية لبنانية، بعد أن أغلقت «السفير» أبوابها، بينها صحيفة فرنسية وأخرى إنجليزية والباقي باللغة العربية، وغالبيتها موظفوها مهددون بالتسريح أو هم لا يتقاضون رواتبهم بانتظام، وهناك من خُفّضت أجورهم.
تتضارب الأرقام حول عدد النسخ التي تطبعها الصحف اللبنانية مجتمعة، لكنها تتراوح بحسب التقديرات بين 35 ألف نسخة و50 ألف نسخة في أحسن الأحوال، لا يُباع منها مع الاشتراكات والمسايرات، والمساعدات غير المباشرة أكثر من 10 آلاف نسخة. هذا لا يكفي لإعالة المطبوعات، التي تحتاج في هذه الحالة إلى الإعلان أكثر من أي وقت مضى. لكن الصحف ليست مغرية للمعلنين، إذ إن الحصة الكبرى من إعلاناتهم تذهب في الدرجة الأولى إلى التلفزيون، ومن ثم الإعلانات على الطرقات، ويتلوها في الدرجة الثالثة الإعلام الرقمي وتحل الصحف في المرتبة الرابعة لتتبعها خامسة الإذاعات وسادسة السينما.
أما والحالة مزرية إلى هذا الحد، فإن عدداً كبيراً جداً من الصحافيين المخضرمين في لبنان باتوا بلا عمل كلياً، أو ذهبوا إلى مهن موازية. وهو ما استفادت منه صحيفة «الاتحاد» التي قامت بتوظيف عدد من الطاقم المحترف لجريدة «السفير» وبه تعتبر أن نجاحها شبه مؤكد.
ولمزيد من التحدي، فإن الصحيفة بدأت بالنسخة الورقية، وتستمر هكذا شهراً كاملاً قبل أن تطلق موقعها الإلكتروني. لكن إلى حينه بمقدور قارئ الشبكة العنكبوتية أن يطلع على نسخة «بي دي إف»، وتراهن الصحيفة كما كتب رئيس تحريرها على أن الطلب على المكتوب موجود، معبراً عن ذلك بقوله في افتتاحية العدد الأول مخاطباً الناس: «نحن نكتب لأنكم تقرأون».
أما وقد غاب التمويل السياسي أو يكاد، وهو الذي عاشت الصحافة اللبنانية عصرها الذهبي في ظله، خصوصاً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك تشتت أموال الإعلانات في وسائط مختلفة، فكيف لحياة سياسية أن تستقيم دون صحافة؟ وما المخارج، ما دام الفريق المهني موجوداً، ومع ذلك الجميع عالق في عنق الزجاجة.
ثلاثة عناصر يعتبر جورج جبور أنها باتت أساسية: علينا أن ندرك بأن «من هم تحت سنة 45 سنة، لن يقرأوا صحفاً ورقية أبداً، لذلك فإن فوضى الـ(ويب سايت) يجب أن تنتهي وأن يُصار إلى تنظيم عملها. فلا الصحف تقدم للشباب ما يهمهم، ولا التلفزيون ولا حتى المواقع؛ لذلك هم يذهبون لقراءة المواقع الأجنبية ومشاهدة محطات غير لبنانية».
أما الأمر الثاني هو أن المشروع الذي قدمه وزير الإعلام ملحم رياشي، لإنقاذ الصحافة اللبنانية المكتوبة ودعمها مالياً للانتقال إلى الإلكتروني، خلال سنتين، هو هدر للأموال و«كمن يرمي الماء في البحر. وهو يشبه ما تفعله الأنظمة الشيوعية حين تمنع دخول البضاعة الأجنبية، لكن المحلي مضروب وفاسد وغير صالح للتسويق»، يقول جبور: «أنا ضد الدعم لأنه تغطية لأخطاء؛ فمشروع الوزارة يدعم صاحب الجريدة الذي كان مدعوماً أصلاً، فماذا فعل وأين ذهب بالأموال؟ وأين سيذهب بالأموال التي ستُعطى له؟ نحن بحاجة لدعم محررين مهرة، بمقدورهم الإتيان بمضمون يجذب القارئ. وهو ما لن يتحقق».
أما الأمر الثالث الذي يلفت له جبور فهو الفشل الذريع الذي مُنيَت به باستمرار كل الوسائل الإعلامية الحزبية في لبنان، وهي التي حظيت دائماً بأموال سخية ومع ذلك لم تُقرَأ، والمحطات التلفزيونية المؤدلجة لم تُشاهَد، ولا يزال ما يعمل منها عالة على أصحابه. ويسوق مثلاً على ذلك، مطبوعات مثل «العمل»، و«المحرر»، و«الأنباء»، و«صوت الأحرار»، و«البناء».
ويستطرد بالقول: «اللبناني ذكي، ويريد إعلاماً موضوعياً، وهو ليس معتاداً على الإعلام الموجَّه». ويضيف: «على الصحافة المكتوبة أن تعيد اختراع نفسها بالشكل والمضمون، كما يحاول التلفزيون أن يعيد اختراع نفسه، وها هو ينجح في بعض الأحيان».
مشروع قانون لنقابة المحررين لدعم الصحف
عاملان أساسيان ساهما في تنشيط خطة تطوير قطاع الصحافة والإعلام في لبنان، يتمثلان في وصول وزير الإعلام ملحم الرياشي إلى الوزارة، ووجود نقابة محررين فاعلة، حققت، خلال نحو عام من انتخاب المجلس النقابي، كثيرا من الإنجازات؛ أبرزها المساهمة، مع وزارة الإعلام، في بلورة قانون جديد لنقابة المحررين، رفعته الحكومة اللبنانية في الصيف الماضي إلى البرلمان تمهيدا لإقراره.
القانون الجديد، في حال إقراره في البرلمان، يتيح للنقابة فتح باب الانتساب لكل العاملين في الحقل الإعلامي إليها؛ سواء العاملون في المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام المرئي والمسموع، أو الملحقون الإعلاميون في السفارات في حال توفرت شروط الانتساب لديهم، فضلاً عن أنه يوفر حصانة للإعلاميين، ويعزز التقديمات لهم.
ورغم أن إقرار هذا القانون يعد «إنجازا» لوزير الإعلام، إذا ما أضيف إلى سلسلة ورشات العمل لتطوير القطاع، فإن الوزير الرياشي يبدو متواضعاً في توصيف ما حققه، مكتفياً بالقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك ورشة عمل كبيرة في الوزارة»، لكنه لم ينفِ «التعرض لمحاربات من أماكن متعددة لن أتحدث عنها إلا إذا أقفلت الأبواب بوجهي، وهي جزء من البيروقراطية والصراع السياسي في البلد».
ولعل «قانون المطبوعات»، أو ما عرف بـ«قانون نقابة المحررين»، من أبرز الإنجازات التي أريد لها أن تتطور لتصبح «نقابة معاصرة تشبه لبنان في 2020 و2030». ويوضح الرياشي: «هذا القانون معد ليشبه لبنان بشكله المعاصر. (نقابة المحررين) بالشكل القديم كانت محصورة بمحرري الصحف المطبوعة. اليوم ستضم جميع المحررين وكل الناشطين بالحقل الإعلامي كإعلاميين لأي وسيلة إعلامية»، لافتاً إلى أن دور النقابة «تأمين حقوق الإعلاميين وتوفير الحصانة النقابية لهم حماية لحقوقهم».
والقانون الجديد، يوفر تقديمات اجتماعية جديدة للمحررين، عبر صندوق تعاضد صحي ومهني، إلى جانب دور النقابة في الوقوف إلى جانب الصحافيين الذين يتعرضون للصرف التعسفي، حيث ستؤمن النقابة لهؤلاء مخصصات مالية لفترة معينة تكفي حاجتهم، بانتظار أن يجدوا فرصة عمل.
يتضمن القانون شقاً متعلقاً بمجلس تأديبي مثل نقابة الأطباء، وعليه؛ فلن يحاكم الصحافي في المحاكم المدنية، بل في محكمة النقابة في حال مخالفة المبادئ الأساسية للمهنة وشروط الانتساب. ويؤكد الرياشي أنه «في حال كان الصحافي محقاً في اختبار قانوني يتعرض له، فستقف النقابة إلى جانبه، أما إذا كان مخطئاً، فستأذن النقابة لملاحقته، مثل أي نقابة أخرى للمهن الحرة في لبنان مثل المحامين والمهندسين». ويشدد الرياشي على أنه «انتهى زمن يكون فيه نقيب المحررين نقيباً أبدياً. في القانون الجديد سيكون نقيباً لمدة ثلاث سنوات، ويجدد له لمرة واحدة فقط».
وإعداد القانون، ورفعه إلى البرلمان، يمثل جانبا أساسيا من خطة تطوير العمل الإعلامي التي لا يحبطها تراجع مبيعات الصحف الورقية ومشكلاتها الاقتصادية. ويُضاف إلى خطط أخرى لنقل لبنان إلى «خطة النشر الرقمي».
وهناك عدة اقتراحات على طاولة مجلس الوزراء لها علاقة بدعم الصحف ووسائل الإعلام عبر إعفائها من رسوم وضرائب جمركية حتى تستطيع الصمود بوجه الأزمة الاقتصادية. ويشير الرياشي إلى أن أبرز الاقتراحات لدعم الصحف، يتمثل في تقديم دعم حكومي لمدة سنتين، تستطيع خلالهما الانتقال إلى البث الرقمي، وبعدها، إذا قررت الصحف الورقية أن تواظب على النشر ورقياً، فإنها ستتكفل بتلك التكلفة، مشيراً إلى أنه من بين المساعدات المقترحة، تقديم 500 ليرة على كل عدد مبيع. لكن الرياشي لا ينفي أن هذه الاقتراحات «لا تزال محل تباين وانقسام في مجلس الوزراء»، وهو ما لا يعد مهمة سهلة حتى الآن.
هذه الإنجازات تُضاف إلى خطة الرياشي لتحويل وزارة الإعلام إلى وزارة للحوار والتواصل، ليقينه بأن «وزارة الإعلام لم تعد وزارة معاصرة تشبه حركة الإعلام والتكنولوجيا والعصر». ويرى أن «الدولة حتى تكون حاضرة في الإعلام، يجب أن يكون هناك إعلام حر لشعب حر ضمن مجلس وطني للإعلام يرعى شؤون هذه المؤسسات والقطاع الخاص»، لافتاً إلى أن مهمة التعاطي اليومي مع وسائل الإعلام بالشكل الذي كان سائداً، يجب أن توكل لمجلس وطني أعلى للإعلام.
ولا يعارض الرياشي بقاء القطاع الرسمي؛ «لكن يجب أن يكون للشعب اللبناني، وليس للرسميين فقط، وينقل صورة الدولة للمواطن، وينقل حاجة المواطن للدولة»، مؤكداً أن «هذا الدور أعتبره استراتيجيا عبر وزارة التواصل والحوار».


مقالات ذات صلة

المعلمي: «الأبحاث والإعلام» مزجت قوة المحتوى بكفاءة الكادر

يوميات الشرق باسل المعلمي استعرض رحلة «SRMG» في التحول نحو مواكبة المتغيرات (تصوير: سعد الدوسري)

المعلمي: «الأبحاث والإعلام» مزجت قوة المحتوى بكفاءة الكادر

أكد باسل المعلمي الرئيس التنفيذي للاستراتيجية وقطاع الأعمال في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG) أن الإعلام يمرّ بمتغيرات تتطلب بناء نموذج عمل ناجح.

عمر البدوي (الرياض)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث خلال خطاب العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض (أ.ف.ب)

بايدن منتقداً ترمب: أنا رجل ناضج أنافس مَن هو في السادسة من عمره

ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض انتقد فيه منافسه الجمهوري بينما نُظمت احتجاجات في الخارج على دعمه لإسرائيل في حربها بقطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي قرار وقف شركة «آفاق» الذي أصدرته وزارة الإعلام السورية (موقع وزارة الإعلام)

دمشق تحقق في ظهور محلل سوري مع آخر إسرائيلي

أوقفت وزارة الإعلام السورية، السبت، عمل شركة «آفاق للخدمات الإعلامية»، على خلفية تقديمها تسهيلات لاستضافة محلل سياسي من دمشق على قناة عربية، مع آخر إسرائيلي.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
تكنولوجيا على الصحافة أن تنظم نفسها حول الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي... خطر على الصحافة أم فرصة للتطوير؟

يرى المستشار ديفيد كاسويل أنّ الذكاء الاصطناعي يغيّر بصورة جذرية عمل الصحافيين وسيؤدي قريباً إلى «تغيير جوهري في نظام المعلومات».

«الشرق الأوسط» (روما)
الولايات المتحدة​ نظام مضاد للصواريخ يعمل بعد أن أطلقت إيران طائرات مسيرة وصواريخ باتجاه إسرائيل كما يظهر من عسقلان 14 أبريل 2024 (رويترز)

إعلام أميركي: إسرائيل حذّرت واشنطن مسبقاً بأنها ستشن هجوماً على إيران

ذكرت وسائل إعلام أميركية أن الولايات المتحدة تلقّت معلومات مسبقة عن الهجوم الإسرائيلي المفترض على إيران، لكنها لم توافق عليه، ولم تشارك في تنفيذه.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هل يصبح صنّاع المحتوى صحافيي الغد؟

هوغو ترافرس "هوغو ديكريبت" (يو تيوب)
هوغو ترافرس "هوغو ديكريبت" (يو تيوب)
TT

هل يصبح صنّاع المحتوى صحافيي الغد؟

هوغو ترافرس "هوغو ديكريبت" (يو تيوب)
هوغو ترافرس "هوغو ديكريبت" (يو تيوب)

قبل 10 سنوات ما كان أحد يتصور أن يقبل رئيس دولة كبيرة كفرنسا بإجراء مقابلة خاصة مع صانع محتوى شاب لا يتعدى 24 سنة، لم يتخصّص في الصحافة ولا يعمل في أي مؤسسة إعلامية. إلا أن هذا ما حدث فعلاً في 2019 حين حاور هوغو ترافرس (قناة هوغو ديكريبت) الرئيس إيمانويل ماكرون لمدة ناهزت الساعتين حول مواضيع سياسية تهم الشباب والفرنسيين بصفة عامة. كذلك، حاور صانع المحتوى الشاب أكثر من 30 سياسياً فرنسياً من اليسار واليمين، وشخصيات مهمة مثل بيل غيتس ورئيس وكالة الاستخبارات الأميركية جون برينان، كما يقدم أسبوعياً تحليلاً لأهم الأحداث السياسية والاقتصادية، يتابعها ويعلّق عليها الملايين على منصّة «يوتيوب».

لينا محفوف "لينا سيتواسيون" (غيتي)

هذه الأمثلة المختارة ما عادت ظاهرة منعزلة، فـ«صنّاع المحتوى» الذين يقتحمون المجال الإعلامي ويقلبون الموازين باتوا ظاهرة آخذة في التطور... وكل في مجاله. إذ إن منهم من يتخصّص في السياسة، ومنهم في الاقتصاد والمال أو في الثقافة والرياضة، بعيداً عن الصورة التقليدية أو النمطية لصانع المحتوى الذي لا يتناول إلا المواضيع الترفيهية بسطحية وابتذال. واللافت أن الظاهرة أخذت أبعاداً كبيرة، خصوصاً في أوساط الشباب، لدرجة أنها صارت تثير قلق الإعلاميين وخوفهم من منافسة قد لا تنتهي حتماً لصالحهم.

انقلاب الموازين يعدّ البعض النفوذ المستجد لصانعي المحتوى بمثابة طبق الانتقام الذي يؤكل بارداً، فلطالما عانى هؤلاء من ازدراء شخصيات من عالم الصحافة والإعلام عدّتهم «متطفلين» يفتقدون الشرعية والمؤهلات. وفي حوار نُشر بالمجلة الثقافية «تيلي راما»، عاد المؤثّر الفرنسي لوكاس هوشار الملقب بـ«سكويزي» سنوات إلى الوراء ليعلّق على الحوار التلفزيوني الذي جمعه بالإعلامي المعروف تيري أرديسون، وهو الحوار الذي أثار كثيراً من الجدل بسبب لهجة السخرية والازدراء التي خاطب بها أرديسون المؤثر الشاب، وبالذات عندما توجّه إليه بلهجة ساخرة قائلاً: «دعني أقول لك إنك عبقري... فعملك يقتصر على اللعب والدردشة مع متابعيك، وبفضل الإعلانات تتلقى أجوراً خرافية، هذا أمر رائع...».«سكويزي» علّق على تلك الحادثة بقوله: «لقد تلقوا صفعة على وجوههم ولم يفهموا أننا على أبواب ثورة ترفيهية وتكنولوجية... مَن أكون حتى أقول إن تعامله معي لم يكن لائقاً؟... لكن ما أستطيع قوله هو أن الازدراء كان فعلاً مبالغاً فيه... اليوم نضجنا من حيث المضمون والمعالجة وهذه لغة يفهمونها أكثر...». وحقاً، بمرور الوقت، انقلبت الموازين واختلطت الأوراق، وصار صانعو المحتوى يتمتعون بنفوذ كبير.

سيبريان (آ ف ب)

المؤثر الشاب الذي كان موضع استهزاء من طرف الإعلامي أصبح اليوم «الرجل الأكثر مشاهدة في فرنسا»، وفق مجلة «تيلي راما» بأكثر من 40 مليون متابع في مجمل المنّصات، ويتربع على رأس شركة إنتاج تزن أكثر من 14 مليون يورو، وهو الذي يقرر مَن يحاوره من الصحافيين وبأي الشروط.

ملاحقة وشروط

في الموقع الإخباري «أري سو ايماج»، الذي يديره الصحافي المستقل دانيال شنيديرمان، شرح عدد من الصحافيين كيف أنهم ركضوا لأشهر طويلة وراء صانع المحتوى «سكويزي» أملاً في الظفر بحوار معه، وحين قبل، اشترط موافقته على النسخة النهائية وحذف المقاطع التي لا يراها مناسبة قبل النشر، وهو أمر قبل به الصحافيون، بحسب شهادة أحدهم وهو فيكتور لو غران الصحافي من مجلة «سوسايتي» الثقافية.

ما يأخذه صنّاع المحتوى على الإعلاميين التقليديين هي لهجة «التعالي» التي تُستخدم تجاههم، ذلك أنه على الرغم من كل الجهود التي يبذلونها فإن تُهم السطحية ونقص المهنية لا تزال تلاحقهم في كل مناسبة.

وفي شهادات حصرية لمجلة «لا روفو دي ميديا»، التي خصّصت مقالاً طويلاً حول هذا الموضوع بعنوان: «بين المؤثرين والصحافيين، غياب دائم للثقة»، يستحضر كثير من صنّاع المحتوى الفرنسيين العبارة التي غالباً ما يستعملها الإعلاميون لتقديمهم. وهي تبدأ بالجملة التالية: «أنتم لا تعرفونهم، لكنهم الشخصيات الأكثر شعبية في ساحات المدارس...».

لوكاس هوشار "سكويزي" (آ فب ب)

من جانب آخر، «سيبريان»، وهو صانع محتوى آخر معروف، يتذكّر على صفحات المجلة ذاتها كيف أنه فوجئ بالصحافية في قناة «كنال بلوس» مايتينا بيرابان، التي من المفروض أن تحاوره، وقد كلّفت طفلة صغيرة بتوجيه الأسئلة بدلاً منها... في تلميح منها إلى أن الجمهور الذي يهتم بمضامين المؤثر الشاب هم فقط من الأطفال.الغيرة والخوف من المنافسةالمنافسة التي بات يشكلها صنّاع المحتوى على الصحافيين، وبخاصة الناشطين في القطاع السمعي البصري، أدّت إلى تطور علاقات سيئة بين الفريقين. بل ازدادت الوضعية تدهوراً مع الوقت بسبب الهوّة التي شكلها نقص الثقة المزداد بين الجمهور والإعلام التقليدي المُقيم، وحسب آخر مسح أجري في فرنسا، بنحو لا تزيد الثقة على 30 بالمائة فقط.

وفي موضوع الهجوم الذي شنّه بعض الصحافيين المتخصصّين في الأخبار الفنية، حين اكتشفوا أن مجموعة من المؤثرين قد حصلوا على تصاريح صحافية في حفل افتتاح الفيلم السنيمائي «بابيلون»، نقلت مجلة «ليبيراسيون» عن واحدة منهم؛ وهي الصحافية بالوما بيكوس من مجلة «باري ماتش» في تغريدة عبر منصّة «إكس»، قولها: «أنا حزينة لأنني اكتشفت اليوم أن التصاريح الصحافية النادرة جداً باتت اليوم متاحة للمؤثرين، كأن الأماكن ليست غالية بما فيه الكفاية، بل كأن المعركة التي نخوضها (نحن الصحافيين التقليديين) يومياً من أجل الفوز بالمصداقية ليست صعبة بما فيه الكفاية... هل أنا الوحيدة التي تجد أن هذه الوضعية ما عادت تطاق؟».

بيكوس نشرت التغريدة مع صورة لمؤثرة شابة تدعى لينا محفوف (قناة لينا سيتواسيون) وهي تحمل التصريح الصحافي، مع العلم أن المؤثرة التي وجهت لها شركة الإنتاج الدعوة لا تنتمي لأي مؤسسة إعلامية ولا تتمتع بأي خبرة في الحوارات الصحافية. إلا أنها في المقابل، تملك أعداداً غفيرة من المتابعين (3 ملايين). ولقد ذكّرت «ليبيراسيون» قراءها بأن صانعة المحتوى الشابة وزملاءها الأربعة الذين حضروا حفل الافتتاح يتربّعون على مملكة من المتابعين تصل إلى 6 ملايين شخص يثقون في آرائهم ويتأثرون باختياراتهم، وهو ما تفتقده الصحافية بيكوس.

لسنا بحاجة إلى الإعلام التقليديهذه العلاقات المتوترة بين «الإخوة الأعداء» أكدتها دراسات كثيرة، منها واحدة لوكالة «ريتش» المتخصّصة في التسويق الرقمي، نُشرت في صحيفة «لاروفو دي ميديا» وشارك فيها أكثر من 1300 صانع محتوى فرنسي. وفي حين بينت الدراسة أن 42 بالمائة منهم يعدّون «وسائل الإعلام تمثلهم بصورة سلبية»، ذهبت صانعة المحتوى الفرنسية آفا ميند إلى حد اتهام الصحافيين «بتشويه الحقيقة ومحاولة الإيقاع بهم في الحوارات». ذلك أن معظم الأسئلة، حسب الشابة الفرنسية، تدور حول مواضيع تافهة «كالمدخول، والمشروعات بعد فقدان المتابعين، والعلاقة بالزملاء من الرجال (؟) ولذا فهي نادراً جداً ما تقبل حوارات صحافية». وأردفت: «مهنة صانع المحتوى مهنة قائمة بحد ذاتها، فيها جوانب إيجابية وكذلك سلبية... والمهم التوقف عن النظر إلينا باحتقار لأنني فخورة بعملي...».

صانع المحتوى المعروف «سكويزي» ذهب، من جهته، إلى وصف قطاع التلفزيون «بالعتيق الذي عفّى عليه الزمن» خلال حوار مع مجلة «تيلي راما». وتابع أنه «لا يفكر بالعمل فيه، لأن طريقة العمل فيه تخلو من الإبداع والتجديد». وحقاً، على طريق الاستغناء عن الإعلام التقليدي يلجأ صنّاع المحتوى اليوم إلى إنشاء «دائرة إعلامية بديلة». وعبرها يقوم هؤلاء باستجواب بعضهم، والأسباب شرحها أحدهم على صفحات مجلة الدراسات الإعلامية «لا روفو دي ميديا»، فقال: «حين يحاورني زميل، فأنا أتعامل مع شخص من الوسط نفسه الذي أنشط فيه، ولذا سيكون وديّاً معي ومتفهّماً للمواضيع التي لا أود التطرق إليها». هل هم صحافيو الغد؟أمام المعطّيات الجديدة، فقد اهتمت عدة جهات برصد تطورات المشهد والتوقعات المستقبلية. إذ ظهرت عدة دراسات تتوقع مستقبلاً زاهراً لصناع المحتوى، أولاها دراسة نشرت في صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية، كبرى الصحف المالية والاقتصادية العالمية، في أواخر مارس (آذار) الماضي 2024، تحت عنوان «الطّرق التي سنلجأ لها للتزود بالأخبار مع مطلع 2030»، وهي تبين أن أهم تغيير سيتعلق بمستقبل النشاط الصحافي.

هذه الدراسة تتوقع نفوذاً أكبر لصنّاع المحتوى في قطاع الإعلام مقابل «أفول نجم الصحافيين بالمعنى التقليدي... تحت وطأة المنافسة الشرسة». ثم إنها تشير إلى مشكلة «انعدام الثقة» التي أضحت تجسّد العلاقة بين جمهور الشباب ووسائل الإعلام التقليدية، التي من المتوقع أن تمتد إلى شرائح أخرى في المستقبل.

وبالتالي، فإن الدراسة وإن لم تعلن عن «موت الصحافة التقليدية» وصحافييها، فإنها دقّت ناقوس الخطر بالقول إن «على الصحافيين العمل على تغيير علاقتهم بالجمهور إذا أرادوا الاحتفاظ بشيء من النفوذ، لأن أكبر مشكلة تواجههم الآن هي «غياب المصداقية». ثم شرحت أن كثيرين «ما عادوا يثقون في وسائل الإعلام التقليدية ومصادرها الإخبارية»، بل يشككون في كل معلومة أو خبر. وفي المقابل، تنصبّ الأنظار والاهتمامات نحو المضامين التي تقدّمها شخصيات من وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، فإن صانع المحتوى الذي يسجل أحداث المظاهرات وينقل حيثياتها يومياً قد يبدو أكثر صدقية من الصحافي الذي يغطي الحدث، ثم ينتقل إلى موضوع آخر في اليوم الذي يليه، لكون التقارب والشعور بالارتباط بمصدر المعلومات مسألة مهمة للغاية.

دراسة «فايننشيال تايمز» ركزت أيضاً على تقدم صانعي المحتوى على الإعلاميين فيما يتعلق بالعلاقات «شبه الاجتماعية» أو التفاعلات الافتراضية التي تربطهم بالجمهور الذي يستهلك هذه المواد الإخبارية.

في حين يعزل الصحافيون التقليديون أنفسهم داخل قلاع المؤسسات الإعلامية التي ينتمون إليها.

ولعل هذا ما قصدته الصحافية الأميركية تايلور لورنز في مقال بصحيفة «واشنطن بوست» تحت عنوان «صانعو المحتوى: الفائز الأول في محاكمة (جوني) ديب وأمبر (هيرد)»، عندما كتبت: «انطلاقاً من هذا الحدث الذي أثار اهتمام الجمهور، أدرك كثير من صناع المحتوى أنهم باتوا قادرين على إثارة الاهتمام وجني الأرباح من خلال تغطية الأخبار...». وأضافت: «في سياق يشهد تلاشي الصلة الضعيفة التي كانت تربط الجمهور بالصحافيين، وسواءً أرادت وسائل الإعلام والسّاسة الاعتراف بذلك أم لا، فإن صنّاع المحتوى صاروا شخصيات ريادية تقدم مضامين إخبارية لعدد مزداد من الأشخاص، وأيضاً هم الذين صاروا يحددون السّرد الإلكتروني للأحداث الكبرى».

دراسة أخرى، في الاتجاه نفسه، أعدتها وكالة «رويترز» عن الإعلام الرقمي تتوقع منعطفاً خطيراً في طرق استهلاك الأخبار بالمستقبل. فقد كشفت الدراسة أن «توزيع الأخبار الآن بصدد الانتقال من أيدي الصحافيين إلى أيدي صنّاع المحتوى، وأن البحث عن المضامين الإخبارية سيكون في المستقبل مدفوعاً بغرض التواصل بين أفراد المجتمع، أما البحث عن الأخبار ذاتها فسيغدو مهمة جماعية نسعى من خلالها إلى تحقيق الترابط والوصول إلى مصادقة الآخرين».

كذلك، تتوقع دراسة «رويترز» نهاية «الفجوة» بين المضامين الإخبارية «الجادة»، كمواضيع السياسة والاقتصاد، والمواضيع الخفيفة كأخبار المشاهير والرياضة، ومن ثم، ظهور مزيج بين الاثنين أطلقت عليه اسم «إنفوتاينمنت» المكوّنة من كلمتي «إنفورمايشن» (معلومات) و«إنترتاينمنت» (ترفيه). وبالتالي، «على قاعات التحرير - حسب الدراسة - تقديم ما يريده الصحافيون وما يريده الجمهور»، وأهم ما بينته هذه الدراسة «الرغبة المُلحة في التفاعل ونبذ مشاعر العجز»، وهو الجانب الذي يتفوق فيه صناع المحتوى ويتألقون مقارنة بالصحافيين.


تفعيل «ميتا» خدمة الذكاء الاصطناعي يثير مخاوف الناشرين

شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
TT

تفعيل «ميتا» خدمة الذكاء الاصطناعي يثير مخاوف الناشرين

شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)
شعار مجموعة «ميتا» (رويترز)

أثار إعلان شركة «ميتا» الأميركية العملاقة الإطلاق الفعلي لأداة الذكاء الاصطناعي التوليدي الخاصة بها عبر جميع تطبيقاتها؛ أي «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» و«واتساب»، مخاوف الناشرين بشأن تقليل وصول المستخدمين للأخبار، لا سيما مع توفير خدمة اختصار الخبر من دون الحاجة للضغط على الرابط. وفي حين اعتبر بعض الخبراء أن «ميتا» عازمة في مسار التراجع عن دعم الأخبار، عدّ آخرون الأداة الجديدة «فرصة إيجابية لصناع الإعلام والصحافة إذا تم تطويعها في خدمة تطوير وتحسين المحتوى».

«ميتا» كانت قد أعلنت يوم 18 أبريل (نيسان) الحالي عن إطلاق أحد «مساعدي الذكاء الاصطناعي التوليدي» من خلال تزويد «زر» على جميع تطبيقاتها يسمح للمستخدمين بالتواصل مع روبوت للدردشة، وطرح الأسئلة والاستفسارات وكذلك توجيه الأوامر. ومن بين هذه الخدمات «تلخيص الأخبار من دون الحاجة للضغط على رابط الناشر الأصيل»، كما بإمكان مساعد الذكاء الاصطناعي الخاص بـ«ميتا» توليد صورة من العدم. وكل هذه خدمات أثارت مخاوف ليس فيما يخص حاجة المستخدمين إلى منتجات إعلامية وصحافية فحسب، بل أيضاً فيما يتعلق بـ«ضوابط الاستخدام والحد من التضليل ونشر المعلومات غير الموثوقة».أداة «ميتا» الجديدة جاءت وسط منافسة محتدمة بين كبريات شركات التكنولوجيا؛ إذ سبقها «تشات جي بي تي» الذي طرق سوق التكنولوجيا منذ 2022 ثم «جيميني» ذراع «غوغل» للذكاء الاصطناعي التوليدي، وكذلك «بينغ» مساعد «مايكروسوفت»، وهي جميعاً تتنافس بهدف جذب المستخدم والاستحواذ على أكبر قدر من البيانات.

من جهة ثانية، على مدار العامين الماضيين توالت سقطات الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكن يبدو أن عمالقة التكنولوجيا ماضون قدماً في إطلاق مزيد من الأدوات الجديدة وتوفيرها للمستخدمين مع تخفيف القيود أو إزاحتها تماماً كما فعلت «ميتا»، التي طرحت مساعد الذكاء الاصطناعي التوليدي مجاناً ومن دون ضوابط... وهذا بعكس منافسيها الذين طرحوا جزءاً من أدوات الذكاء الاصطناعي بمقابل مدفوع وفي دول بعينها. ويرى مراقبون، اليوم، أن عنصري المجانية والإتاحة فاقما من المخاوف بشأن معايير الاستخدام الآمن، لا سيما أنه لا توجد حالياً طريقة لإيقاف تشغيل مساعد «ميتا» للذكاء الاصطناعي داخل التطبيقات.

الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا»، مارك زوكربيرغ، كتب أخيراً عبر «إنستغرام» شارحاً: «نعتقد أن مساعد ميتا للذكاء الاصطناعي، هو الأداة الأكثر ذكاءً التي يمكنك استخدامها بحرية»، وذلك في إشارة إلى مجانية الخدمة وإتاحتها لجميع المستخدمين. غير أن زوكربيرغ وجه تحذيرات بشأن دقة الأداة، قائلاً: «بعد اختباره لمدة ستة أيام، نصيحتي هي التعامل معه بحذر، لأنه يرتكب الكثير من الأخطاء عند التعامل معه بوصفه محرك بحث». ومن ثم، وجّه المستخدمين إلى الاعتماد على مساعد «ميتا» بغرض الترفيه والمرح لا جمع البيانات أو البحث عن معلومات دقيقة. وهذا ما أكدته ناطقة باسم «ميتا» بالقول لـ«نيويورك تايمز»، إن «التكنولوجيا الجديدة لا تقدم دائماً استجابات دقيقة على غرار تقنيات الذكاء الاصطناعي الأخرى».

خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال أمير جمعة، منتج وسائل التواصل الاجتماعي في «اقتصاد الشرق مع بلومبرغ»، إن مساعد «ميتا» للذكاء الاصطناعي التوليدي بمثابة «تسريع لوتيرة تضمين هذه التكنولوجيا ضمن سلوك المُستخدم». وأردف: «تعود خطورة وأهمية أداة (ميتا)، تحديداً، إلى حجم مستخدمي تطبيقات الشركة... الذين بات بإمكانهم تفعيل الذكاء الاصطناعي من دون محاذير أو قيود». وتابع: «ما قدمته (ميتا) هو تجربة شاملة تضم جميع مزايا أدوات الذكاء الاصطناعي تقريباً، مثل توليد صورة أو نص من العدم، والبحث، واختصار نص وغيرها من الخدمات، وجميع هذه الخدمات تتوفر لمليارات المستخدمين».

كذلك لفت جمعة إلى أن «ميتا» هي الشركة الأضخم في سوق تطبيقات التواصل الاجتماعي من حيث عدد المستخدمين النشطين، وتطبيق «فيسبوك» وحده لديه أكثر من 3 مليارات مُستخدم نشط على مستوى العالم، ما يعادل نحو 55 في المائة من مستخدمي الإنترنت، وتعد الإعلانات المصدر المالي الرئيسي للشركة، و«هنا تكمن أهمية بيانات المستخدمين للشركة».

في سياق موازٍ، أشار جمعة إلى أحدث بيان مالي صادر عن شركة «ميتا»، في 24 أبريل (نيسان) الحالي، فقال: «تُقدر إيرادات (ميتا) في الربع الأول من العام الحالي بنحو 36.46 مليار دولار، وتمثل الإعلانات وحدها نحو 98 في المائة من إجمالي الإيرادات، بزيادة قدرها 27 في المائة مقارنة بالعام الماضي... وبناءً عليه، لضمان جذب المعلنين كان على الشركة أولاً تقديم ضمانات تقضي باستمرارية بقاء المستخدمين ومواجهة عزوفهم إلى تطبيقات أخرى منافسة على شاكلة (تيك توك). وقد توفّر أداة الذكاء الاصطناعي الجديدة جميع الأغراض هذه، وفي الوقت عينه تجعل مزيداً من بيانات المستخدمين متاحة لدى الشركة من دون ميثاق واضح حول طريقة استخدامها أو مشاركتها».

ما يُذكر، أنه وفقاً للبيان المالي الصادر عن «ميتا»، فإن «الذين ينشطون يومياً عبر منصات (ميتا) بلغ عددهم 3.24 مليار في المتوسط خلال مارس (آذار) الماضي، بزيادة قدرها 7 في المائة على أساس سنوي». كذلك ازدادت مرات ظهور الإعلانات المقدمة عبر مجموعة تطبيقات «ميتا» بنسبة 20 في المائة مقارنة بالعام الماضي. وارتفع أيضاً متوسط سعر الإعلان بنسبة 6 في المائة على أساس سنوي. وتوقّع البيان المالي للشركة «ارتفاع الإيرادات بعد إطلاق أداة الذكاء الاصطناعي»، وذكر أنه «يتوقع أن يتراوح إجمالي إيرادات الربع الثاني من عام 2024 بين 36.5 و39 مليار دولار».

في هذا الشأن، قال جمعة إنه «لا يمكن اختصار دور الصحافة في تلخيص المعلومات كونها المصدر الأصيل والموثوق لدى المُستخدم، بينما تقتصر أداة الذكاء الاصطناعي على نقل المعلومة ربما على نحو مُكثف كطريقة للتسهيل على القارئ»، ولفت إلى أن «المُستخدم المعني بتفاصيل الأخبار لن يكتفي بهذه الخدمة بل سيذهب إلى المصدر وينقر على الرابط». لكنه، في المقابل، لم ينفِ تضرر الإعلام من إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي في العموم، موضحاً أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي سيرمي بظلاله على مجال الإعلام بلا شك... وأن الناشرين بحاجة إلى تطويع أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة لتمكين الصحافيين من تحسين جودة الأخبار وليس العكس».

ثم قال: «يمكن لأداة الذكاء الاصطناعي الخاصة بـ(ميتا) أو بأي شركة أخرى أن تسهل مهمة الصحافي من خلال جمع المعلومات في وقت أقل، بينما المعالجة هي الرهان، كما أن صناعة المحتوى التفاعلي الجذاب لا يمكن اقتصارها على الآلة، فالإبداع وتحقيق معايير المهنية مُرتكزان لا يمكن غض الطرف عن أهميتهما».

من ناحية أخرى، تراجعت أسهم شركة «ميتا» بشكل حاد - أكثر من 15 في المائة – بعدما أعلنت عن إنفاق أعلى من المتوقع على مشروع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وفق بيانات نُشرت في 25 أبريل الحالي، على الرغم من كشف عملاق التكنولوجيا عن «أرقام أرباح قوية». وأعاد الخبراء الخسارة إلى تصريح أدلى به زوكربيرغ أكد فيه أن «الأمر سيستغرق بعض الوقت ليحقق الاستثمار في الذكاء الاصطناعي زيادة في الإيرادات».

في هذا السياق، اعتبر الخبير التقني السعودي خالد أبو إبراهيم، خلال حوار مع «الشرق الأوسط»، أن «التدريب والتوعية للصحافيين أمران شديدا الأهمية للحد من التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي على العمل الصحافي... ويجب أن يكون لدى الصحافيين فهم عميق بالتقنية هذه، للتعاطي معها وتطويعها لخدمة المهنة». ثم شدد على أهمية التشريع كذلك، قائلاً: «يجب وضع تشريعات ولوائح تنظيمية تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي بحذر... كما يُفترض أن تتضمن هذه التشريعات ضوابط من شأنها حماية خصوصية المُستخدمين من ناحية، وحقوق الملكية ومكافحة التحيز من ناحية أخرى».

أبو إبراهيم أوضح، من جانب آخر، أنه «توجد تحديات وتوقعات متعددة حول تسريع وتيرة استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلام، لذلك يمكن للمؤسسات الإعلامية والشركات التكنولوجية والمنظمات الدولية والحكومات عقد شراكات تشمل تبادل المعرفة والخبرات وتطوير أدوات وتقنيات تعزز الشفافية والمساءلة». ومن ثم، عدّ الخبير التقني السعودي مسألة التعاون الدولي في هذا الصدد «مرتكزاً شديد الأهمية»، فقال إن «ثمة حاجة مُلحة لموقف جماعي أو ميثاق دولي لحماية صناعة الإعلام وضمان الالتزام بمبادئ وقواعد الأخلاق والمسؤولية في استخدام الذكاء الاصطناعي».


رحيل عبد الرحمن بن معمر حامل لواء الكلمة في وجه التعصّب

رحيل عبد الرحمن بن معمر حامل لواء الكلمة في وجه التعصّب
TT

رحيل عبد الرحمن بن معمر حامل لواء الكلمة في وجه التعصّب

رحيل عبد الرحمن بن معمر حامل لواء الكلمة في وجه التعصّب

فقدت الساحة الأدبية والإعلامية السعودية الأديب عبد الرحمن بن فيصل بن معمر، الذي كان رائداً من رواد الصحافة ومثقفاً رفيعاً من حملة الوعي والتنوير، ومدافعاً صلباً عن ثقافة التسامح والانفتاح في وجه التعصب والانغلاق.

تعرّف المثقفون السعوديون على عبد الرحمن المعمر (أبو بندر) خلال حضوره البهي في أروقة المنتديات الثقافية ولقاءاته المسائية بالمثقفين، حيث كان يثري النقاش، ويصبّ اهتمامه نحو القضايا المسكوت عنها، ويطرح المحاور الجريئة التي تعالج الهموم الراهنة، وقلّ أن يغيب عن منتدى كبيراً أو صغيراً في الرياض أو الطائف التي كان يقيم فيها، وكان يسوق الخطى نحو أطراف المملكة ليلتقي بالمثقفين ويتحدث معهم عن قضايا التسامح والتعايش والانفتاح، وتحدي ثقافة القطيعة والتعصب.

ولد عبد الرحمن المعمر في عام 1940 بقرية صغيرة تسمى «سدوس» (70 كيلو شمال غربي الرياض)، إحدى قرى إقليم العارض في نجد، وفي سن السادسة من عمره انتقل إلى الطائف، حيث نشأ في بيت ابن عمه ووالد زوجته الأمير الشَّيخ عبد العزيز بن فهد المعمَّر، وطالما كان الراحل عبد الرحمن بن معمَّر يستذكر أثر السنوات التي قضاها في الحجاز على نشأته الأدبية، وكان يقول إن حياته المبكرة في الطائف أتاحت له اللقاء «بأعلام وأدباء كبار كانوا يتوافدون على الطَّائف في الصَّيف، وكانت الطَّائف ملتقى لرجالات الدَّولة وزوَّارها وعدد من المثقَّفين والأدباء».

مع رواد الفكر والأدب

في الستينات الميلادية توطدت علاقته برواد الحركة الأدبية في الحجاز، أمثال أحمد عبد الغفور عطَّار، وعبد القدُّوس الأنصاري، وعبد العزيز الرفاعي الذي اشترك معه في تأسيس «دار ثقيف» للنشر والتأليف، كما اشتركا كذلك في إصدار مجلة «عالم الكتب»، وهي مجلة دورية (ربع سنوية)، صدرت في عام 1980 عن «دار ثقيف» للنشر والتوزيع.

ويتوقف الراحل عبد الرحمن المعمر كثيراً للحديث عن الفترة التي قضاها برفقة عبد العزيز الرفاعي الذي أثرّ كثيراً في حياته الفكرية والأدبية، وهو يعده «أباً روحياً» ساعدت العلاقة معه في الوصول لرواد الفكر والأدب في المملكة والعالم العربي، ومكنته من الانفتاح على مفكرين وعلماء في الحجاز ومصر وتونس وغيرها، كما ساهمت «دار ثقيف» و«مجلة عالم الكتب» في إثراء تجربته الأدبية والفكرية، وربطه بعدد من الكتاب والشعراء والأدباء في العالم العربي.

الطرافة في وجه التعصب

ومع تجربته الأدبية والصحافية، إلا أن عبد الرحمن المعمر له روح تتسم باللطف والفكاهة، وكتاباته تسير في هذا الاتجاه، كما في كتابه «المضيفات والممرضات في الشعر المعاصر»، الذي يقول في مطلعه: «في عام 1959 سافر إلى دمشق طائفةٌ من شعراء مصر لحضور مهرجان الشعر الذي أقيم بسوريا، وفي جوف الطائرة كانت المضيفة الحسناء (فاندا) تخطر بين الصفوف بهندامها البديع وقوامها الممشوق، وثغرها البسّام، فتنشي جواً رقيقاً مشبعاً بالأريج المسكر، وتهاويل الأحلام المبهجة، وكانت ابتسامتها الوديعة مبعث الأمن والطمأنينة في النفوس.

كانت (فاندا) تقدّر ما وهبها الله من سحر وفتون، وكانت تعرف أن هذه العصابة التي تناوشها من كل جانب هم شعراء وأدباء يستهويهم الجمال، ويدركون من مفاتنه ما لا يدركه غيرهم من عامة الناس».

ثم يورد مقاطع من أقوال الشعراء في «فاندا»، بينهم الشاعر علي الجندي: (رعاك الله يا فندا / وحاط جمالك الفردا / وصان محاسناً أهدت / إلى أكبادنا الوجدا / ولا برحت عنايته / لطيرك في السر جندا».

ثم يورد قصيدة أخرى للشاعر محمد علي السنوسي بعنوان «شد الحزام»، إلى أن يعرّج على الغزل في الممرضات مستعرضاً قصائد لشعراء أمثال الشاعر محمود سليم الحوت الذي تناسى كسوراً أصابته بعد أن افتتن بممرضة كانت تعالجه: «ممرضتي كدت أنسى المرض / وكسراً بضلعي وشرخاً أرضى / وأوجاع صدر وهي عظمة / وجرحاً بداخله قد أمضى».

كما أصدر كتاب «البرق والبريد والهاتف وصلتها بالحب والأشواق والعواطف»، الذي قال في مقدمته: «لما رأيت كثرة كتب الخلاف والتعصب، ومذكرات التكتل والتحزب، وهذا السيل الجارف والهدر من القراطيس المقرطسة، والكتب المكدسة، هنا وهناك وأكثرها يذهل العقل واللب، ويذهب بالوقت والجيب، ويشغل كل إنسان عما يعمل، لما رأيت كل هذا جئت أسوق هذه الدراسة الأدبية، وأقدم بين يدي نجواها كلمة علها تسهم ولو بشيء يعين في ترجيح كفة الميزان ويريح أعصاب المكدود ونفسية الحيران».

وبالنسبة لأبي بندر عبد الرحمن المعمر، كان البريد مرسال المحبين، يتساءل في الكتاب: هل سبق أن اغتربت؟ هل سبق أن اقتلعت من ترتبك بعيداً؟ هل سبق أن ذرفت الدموع شوقاً وولهاً وحباً وعطفاً؟ (..) وتنقطع عنك أخبار المحبوب وتصبح عرضةً ونهباً لنار الأشواق وتعود إلى أوراقك القديمة الجديدة تشتم منها ريح المحبوب وتنظر إلى الأوراق التي لمستها أنامل الحبيب وأودعها نظراته فتبحث عن العيون بين السطور... ثم يورد شعراً للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي:

«قد انقطع البريد فلا جديد.. ولا كتب ولا نبأ مفيد... فهل مات الهوى أو مات صاحبي... أو القرطاس أو مات البريدُ».

وقصيدة أخرى لنزار قباني: «تلك الخطابات الكسولة بيننا... خير لها أن تقطعا... إن كانت الكلمات عندك سخرة... لا تكتبي فالحب ليس تبرعا».


تشريعات مكافحة «الأخبار الزائفة» تثير جدلاً حول حرية الصحافة

shutterstock
shutterstock
TT

تشريعات مكافحة «الأخبار الزائفة» تثير جدلاً حول حرية الصحافة

shutterstock
shutterstock

أثارت نتائج دراسة أميركية حديثة مخاوف بشأن تأثير التشريعات الخاصة بالحد من «الأخبار الزائفة» على الحريات الإعلامية. وبينما أكد خبراء أهمية وجود قوانين لمكافحة المعلومات المضللة، فإنهم حذروا من إمكانية استخدام «التعريفات المطاطة» في تقييد عمل الصحافي.

الدراسة التي نشرها موقع معهد «نيمان لاب» الأميركي المتخصص في الدراسات الإعلامية يوم 10 أبريل (نيسان) الجاري، تقول إن «التشريعات التي صاغتها الحكومات في دول عدة حول العالم لمكافحة الأخبار الزائفة، خلال السنوات الأخيرة، لا تفعل الكثير لحماية حرية الصحافة؛ بل على النقيض فإنها تثير مخاوف كبيرة بشأن ما قد تحدثه من ضرر».

محمود غزيل

الدراسة أعدها «مركز الأخبار والتكنولوجيا والابتكار» (CNTI) وهو مركز مستقل لأبحاث السياسات العالمية، يضم أكاديميين ومتخصصين في مجال الأخبار، فحصت التشريعات في 31 دولة، من إثيوبيا إلى الفلبين، واعتمدت على التقارير والبيانات الصادرة عن مركز المساعدة الإعلامية الدولية التي تتبع قوانين الإعلام على مستوى العالم، لتحديد التشريعات التي تم النظر فيها أو تمريرها في الفترة ما بين عامي 2020 و2023.

ولقد أشارت الدراسة إلى أنه «على الرغم من أن تلك التشريعات استهدفت الأخبار الزائفة، فإن المصطلح نفسه لم يعرّف بشكل واضح إلا في 7 فقط من أصل 32 قانوناً دُرست، أي أقل من الربع». كذلك «يمنح 14 تشريعاً من أصل 32 الحكومة سلطة التحكم في التعريف، في حين لم يورد 18 قانوناً أي لغة واضحة في هذا الصدد، ما يعني منح الحكومات السلطة الافتراضية»، حسب الدراسة.

من ناحية ثانية، لفتت الدراسة إلى أن قلة الوضوح في قوانين الحد من الأخبار الزائفة «لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة... وأن العقوبات بشأن انتهاك القانون ممكن أن تكون مشددة، وتصل إلى السجن لمدة تتراوح بين عدة أشهر، وقد تصل إلى 20 عاماً في زيمبابوي». وأضافت أن «القوانين تضمن القليل من أوجه الحماية للصحافة المبنية على الحقائق، أو لاستقلال الإعلام، في حين يمكن أن تستخدم تلك التشريعات الفضفاضة لتقييد العمل الصحافي».

أحمد عصمت

من جانبه، يقول محمود غزيل، الصحافي اللبناني والمدرّب في مجال التحقق من المعلومات، لـ«الشرق الأوسط» معلقاً، إن «التشريعات المُعدة لمكافحة الأخبار الزائفة تُطبق على جميع الأفراد، بغض النظر عن هويتهم أو أهدافهم، سواء كانوا صحافيين، أو وسائل إعلام، أو مستخدمين لمنصات التواصل الاجتماعي... وبالتالي لا تميز تلك التشريعات بين وسائل الإعلام التي يفترض أن تكون لديها حصانة الرسالة الإعلامية، وبين سكان مدنيين يفترض أن يكون لهم الحق في التعبير».

ويتابع بأن «كثيراً من الدول التي وضعت مثل هذه التشريعات في السنوات الأخيرة، سجلّها في حرية الصحافة والتعبير ليس الأفضل عالمياً، ومن ثم، لا يتمتع أفرادها بحرية التعبير الكافية، ما يشير إلى أن هذه القوانين قد تُستخدم لتقييد الأصوات المختلفة عن الرواية الرسمية من الدولة، أو من جهات الأمر الواقع».

غزيل يشير أيضاً إلى «انتشار اتهامات من قبيل القدح والذم وبث الشائعات خلال السنوات الماضية، والتحقيق مع أشخاص بسببها... ومع التطور العالمي والتوسع في الوعي بمصطلح الأخبار الزائفة، أصبح هذا المصطلح مبرراً كافياً لقمع الاختلافات استناداً للقانون». ثم يلفت إلى أنه «عند النظر بعمق إلى هذه التشريعات، يتضح أن القليل من الدول عملت حقاً على توضيح تعريف نشر الأخبار الزائفة، ما يترك مجالاً للتأويل والاستغلال حسب الحالة المراد مواجهتها». ويستطرد: «وبينما يحق لوسائل الإعلام الانحياز، وقلة الالتزام بالموضوعية، فإن عليها -وفق غزيل- أن تكون مهنية في تقديم المواضيع، وواعية بالأخطاء التي قد ترتكبها».

يوشنا إكو

كذلك يرى غزيل أن «الحد من انتشار الأخبار الزائفة يتطلب توازناً دقيقاً للحفاظ على حرية التعبير، كما يتطلب تعزيز التفكير النقدي لدى المواطنين والسكان، وتطبيق القوانين بالتساوي على الجميع، ودفع وسائل الإعلام لتحسين مستوى الاحتراف، والمطالبة بالشفافية من الحكومات لعدم ترك المجال للتأويل أو للأخبار غير المؤكدة». ويوضح الصحافي والمدرب اللبناني أن «تعزيز وسائل الإعلام المستقلة والمبادرات المحلية للتحقق من الحقائق، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً كجهة ثالثة في أي موضوع قيد النقاش... وحقاً، لا يمكن تغييب دور الهيئات المنظمة التي يمكن أن تلعب دوراً في دراسة الخطاب الإعلامي بشكل دوري، وتسليط الضوء على المشكلات التي تواجهه، من دون أن تعاقب وسائل الإعلام؛ بل بالإشارة إلى المشكلات التي تواجهها والعمل على التغلب عليها».

عودة إلى الدراسة، فإنها تطرقت إلى «أهمية النتائج؛ لا سيما أن عام 2024 شهد ويشهد إجراء انتخابات في عدد كبير من الدول، وسط مخاوف بشأن وصول الجمهور إلى أخبار موثوقة وقائمة على الحقائق، سواءً من حيث استقلال وسائل الإعلام أو إمكانية استخدام تلك الوسائل في نشر (معلومات مضللة)»، وإن «التشريعات التي فُحصت تخلق فرصاً محتملة لتقليل الأصوات المعارضة وتقييد حرية وسائل الإعلام». وأوضحت أن «الهدف المعلن من تلك التشريعات، والتي يتعلق 13 من أصل 32 فيها بجائحة (كوفيد-19)، هو الحد من المعلومات المضللة؛ لكن الافتقار إلى تعريفات واضحة يهدد بالحد من الحريات الإعلامية، ومن وصول الجمهور إلى المعلومات المبنية على الحقائق». هذا بينما شددت الدراسة على «أهمية اتباع نهج دقيق لتحديد اللغة في التشريعات المتعلقة بوسائل الإعلام».

في هذا الجانب، يؤكد يوشنا إكو، الباحث الإعلامي الأميركي، ورئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام في نيويورك»، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أن «تشريعات الحد من الأخبار الزائفة لها تأثير على حرية الإعلام؛ إذ قد يستخدمها البعض كغطاء لتقييد وقمع الصحافيين»، ضارباً المثل بما فعله الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب «عندما وصف وسائل الإعلام بأنها عدوٌّ للشعب، لصرف نظرها عن تغطية القضايا والاتهامات الموجهة له». ويضيف إكو: «في المجتمعات التي لا تؤمن بالمبادئ الديمقراطية، لن يتمكن أي تشريع من تغيير موقف السلطات التي لا تحترم سيادة القانون وإجراءاته. وبالتالي، من الممكن أن تتسبب تشريعات الحد من (الأخبار الزائفة) في تقييد الحريات الإعلامية، ولا تعمل على حماية الصحافيين».

وقالت الدراسة إن «سلطات بعض الدول استخدمت تشريعات مكافحة الأخبار الزائفة في تقييد الحريات الصحافية»، مشيرة إلى أنه «بين 363 صحافياً تعرّضوا للسجن خلال عام 2022، سُجن 39 بتهمة انتهاك قوانين الأخبار الزائفة، حسبما رصدته لجنة حماية الصحافيين». وأضافت الدراسة أنه «حتى في إطار السياسات التشريعية حسنة النيّة، كتلك التي وُضعت في ألمانيا بشأن المحتوى غير القانوني المتعلق بخطاب الكراهية وإنكار (الهولوكوست) فإن هناك مخاوف بشأن رقابة حكومية محتملة».

من جانبه، يقول أحمد عصمت، الخبير في الإعلام الرقمي والمحاضر في الجامعة الأميركية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك حاجة ملحة لوضع تشريعات للحد من الأخبار الزائفة؛ لكن المهم: كيف يتمّ ذلك؟»، موضحاً أن «المصطلحات المطّاطة والتعريفات غير الواضحة بشأن تزييف الحقائق، تضعف من قوة هذه القوانين وتجعلها تُستخدم لأغراض غير تلك التي وُضعت من أجلها، من بينها الحد من حريّة الإعلام».

ويضيف عصمت أن «العالم بات يكيل بمكيالين فيما يتعلق بمفهوم حرية الإعلام، ولم يعد هناك تعريف واضح للحريات الإعلامية»، متسائلاً: «هل العالم بحاجة إلى قوانين جديدة؟ أم تطويع التشريعات الموجودة فعلاً للتفاعل مع الأخبار الزائفة؟ لا سيما أن التشريعات عادة ما تكون متأخرة ولا تواكب سرعة التطور التكنولوجي». ومن ثم تساءل «عن الجهة المنوط بها تنفيذ تلك التشريعات»، قبل أن يقول إن نشر الوعي بوصفه واحداً من الحلول غير القاطعة وغير النهائية لهذه المعضلة، قد يشكل ضماناً لآلية تطبيق مثل هذه التشريعات.

شملت الدراسة عدة دول، بينها: أنغولا، وأذربيجان، والبرازيل، وكوبا، وإثيوبيا، وألمانيا، واليونان، وتركيا، وفيتنام، وسوريا، وجنوب أفريقيا، وتايوان، وماليزيا.

أخيراً، من المقرّر أن يستمر «مركز الأخبار والتكنولوجيا والابتكار» في متابعة تطورات تلك التشريعات بوصفها جزءاً من برنامج بحثي؛ حيث تُعد الدراسة بشأن تشريعات الأخبار المزيفة «هي الأولى في سلسلة من المشاريع البحثية التي سيجريها المركز خلال عام 2024».

ولفت المركز إلى أن «الأبحاث المستقبلية ستركّز على 3 مجالات؛ وهي تحليلات السياسات، والدراسات الاستقصائية العامة في بلدان متعددة حول ما تعنيه الأخبار للناس، واستقصاء دولي للصحافيين لفهم كيف ينظرون إلى صناعتهم مع ظهور الذكاء الاصطناعي، واحتمال زيادة التدخل الحكومي».


هل تحدّ رسوم «إكس» على المشتركين الجُدد من الحسابات المزيفة؟

هل تحدّ رسوم «إكس» على المشتركين الجُدد من الحسابات المزيفة؟
TT

هل تحدّ رسوم «إكس» على المشتركين الجُدد من الحسابات المزيفة؟

هل تحدّ رسوم «إكس» على المشتركين الجُدد من الحسابات المزيفة؟

ما زال الجدل بشأن وجود حسابات «مزيفة» أو «إلكترونية» على منصة «إكس» مستمراً، ما دفع المنصة، المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك، لإعلان عزمها فرض رسوم على المشتركين الجُدد، أملاً في الحد من تلك الحسابات. وفي حين أشار بعض الخبراء إلى أن هذه الخطوة قد تُسهم في الحد من الحسابات المزيفة، فإنهم حذّروا من خطورة تأثيرها في حرية التعبير، ودفع المستخدمين للابتعاد عن المنصة والبحث عن أخرى مجانية.

ماسك، الذي استحوذ على منصة «إكس» عام 2022، كتب خلال الأسبوع الماضي عبر حسابه الرسمي على «إكس»، مغرداً: «لسوء الحظ، سيتوجب على المستخدمين الجُدد دفع مبلغ بسيط للحصول على حق النشر، وهذه الطريقة الوحيدة لمحاربة الهجوم المتواصل من الحسابات الزائفة (bots)». وأردف: «باتت أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية قادرة بسهولة على اجتياز اختبارات التحقق من أن المستخدم هو شخص لا روبوت». كذلك أوضح في منشور آخر، أن «هذا الإجراء لن يشمل سوى مستخدمي الشبكة الجُدد الذين سيكون بمقدورهم النشر في المنصة مجاناً بعد 3 أشهر».

ماسك، لم يُشر إلى قيمة الرسوم أو تاريخ البدء في تطبيقها، وفي أي الدول سيتم ذلك، لكن منصة «إكس» كانت اعتمدت إجراءً مماثلاً في نيوزيلندا والفلبين منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث يدفع المستخدمون الجُدد في نيوزيلندا0.75 دولار، بينما يدفعون في الفلبين 0.85 دولار مقابل الحصول على الخدمات الأساسية مثل كتابة منشورات. ومَن لا يدفع لا يصبح بإمكانه سوى تصفّح المنصة، أي مشاهدة مقاطع الفيديو أو متابعة الحسابات. وقد أشارت منصة «إكس» في حينه إلى أن تلك السياسة تهدف إلى الحدّ من البريد العشوائي، والتلاعب بالمنصة، ونشاط الحسابات الزائفة.

الدكتور أشرف الراعي، الكاتب الصحافي الأردني والاختصاصي في القانون الجزائي والتشريعات الإعلامية والإلكترونية، عدّ اعتزام منصة «إكس» فرض رسوم على المستخدمين الجُدد، إجراءً يتعارض مع الاتفاقيات الدولية والمبادئ التي تنصّ على حرية الرأي والتعبير. وأوضح في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «فرض الرسوم يُمثل قيداً في حال عجز الأفراد عن دفعها، في حين أنه يمكن الحد من الحسابات المزيفة بأكثر من طريقة وأسلوب، وليس بالضرورة من خلال فرض رسوم مالية قد يكون الهدف منها تحقيق الربح أكثر من أي شيء آخر».

ولفت الراعي إلى أنه «قد يؤثر ذلك سلباً في التفاعل مع المنصة، لا سيما في ظل وجود منصات أخرى نشطة وفاعلة، ويمكن التعبير عن الآراء من خلالها». ودعا، من ثم، القائمين على منصة «إكس» إلى «اتخاذ إجراءات أخرى تضبط الحسابات المزيفة والمخالفة للقانون بما لا يتعارض مع المبادئ الدولية التي تنصّ على حرية التعبير مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان».

بالمناسبة، لا تقتصر جهود «إكس» في الحد من الحسابات المزيفة على فرض الرسوم على المستخدمين الجدد، إذ أعلن ماسك بدءاً من أبريل (نيسان) الحالي، «إجراء عملية تطهير ضد الحسابات الإلكترونية المزيفة»، وكتب عبر حسابه على «إكس»: «سيُصار إلى تتبع تلك الحسابات والأشخاص المسؤولين عنها واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم». ووفق تقرير نشره موقع «فوربز» بداية الشهر الحالي، فإنه «خلال ساعات من إعلان ماسك، استُبعدت حسابات تنتهك القواعد». وأشار الموقع إلى أن اختبار «لست روبوتاً» الذي تختبره «إكس» في الفلبين ونيوزيلندا، لا تزال نتائجه غير واضحة حتى الآن.

من جهة ثانية، خلال حوار مع «الشرق الأوسط» قالت الدكتورة مي عبد الغني، أستاذة الإعلام في جامعة بنغازي والباحثة في الإعلام الرقمي، إن اتجاه «إكس» لفرض رسوم على المستخدمين الجدد «يأتي لتحقيق هدف مزدوج، فهذه الخطوة - بحسب ماسك - تعمل على مكافحة الحسابات المزيّفة، وهي سياسة سبق أن أعلن عنها غير مرة، أما الهدف الثاني فمادي، إذ إن المنصات بشكل عام تعمل على زيادة مواردها. وبالتالي، لا يمكن تفسير هذه الخطوة من جانب (إكس) بمعزل عن هذا الاتجاه، لذلك فإن لما أعلنه ماسك أهدافاً مادية بالدرجة الأولى». وأضافت عبد الغني: «بينما هذه الخطوة ستساعد منصة إكس على التخلص من كثير الحسابات الزائفة، فإنها ستدفع آخرين للهجرة بعيداً عن المنصة؛ بحثاً عن منصات مجانية». ثم استدركت أن «الفيصل في المستقبل سيبقى مرهوناً بقيمة أسهم إكس في الأسواق العالمية وحسابات الأرباح السنوية».

في الواقع، يرى مراقبون أن «حذف الحسابات المزيفة قد يتسبّب في حذف حسابات أخرى شرعية»، وحقاً، قال ماسك في منشور عبر حسابه الرسمي في يناير (كانون الثاني) الماضي، إنه «عرضياً، جرى حذف حسابات شرعية، في أثناء مسح لاستبعاد الحسابات المزيفة». غير أنه ذكر أخيراً «حل» هذه المشكلة. ودعا المستخدمين إلى إبلاغه شخصياً أو إبلاغ المنصة حول ما إذا كانت هناك حسابات شرعية عُلّقت خلال عمل نظام التتبع الجديد.

يذكر، في هذا السياق، أن الكلام عن وجود حسابات «مزيفة» ليس جديداً، إذ سبق لماسك التعهد بالحد منها قبل استحواذه على المنصة، كما كانت محوَر معركة قضائية في أثناء عملية الاستحواذ. ذلك أنه يومذاك قدّم فريق محامي ماسك مذكرة إلى لجنة الأوراق المالية والبورصة الأميركية في أكتوبر 2022، تطلب إنهاء استحواذه على «تويتر» (إكس حالياً) بقيمة 44 مليار دولار؛ بسبب ما وُصف بأنه «انتهاك مادي لمواد اتفاق الاستحواذ». وأشارت المذكرة، التي تداولت تفاصيلها وسائل الإعلام الأميركية في حينه، إلى أن «(تويتر) لم تزوّد ماسك بالمعطيات المطلوبة لإجراء تقييم دقيق حول عدد الحسابات المزيفة على المنصة، على الرغم من أن بنود اتفاقية الاستحواذ تنص على ذلك». ثم لفتت إلى أن «فريق ماسك يرى أن عدد الحسابات المزيفة على المنصة يتجاوز بكثير نسبة الـ5 في المائة التي تتحدث عنها المنصة». وبالفعل، لا يُعرف الآن على وجه التحديد عدد أو نسبة الحسابات المزيفة على «إكس»، لكن المراقبين رصدوا نشاطاً لها خلال الأحداث الكبرى.


هل يوسّع التنوّع السياسي قاعدة مشاهدي القنوات الأميركية؟

رونا ماكدانيال (رويترز)
رونا ماكدانيال (رويترز)
TT

هل يوسّع التنوّع السياسي قاعدة مشاهدي القنوات الأميركية؟

رونا ماكدانيال (رويترز)
رونا ماكدانيال (رويترز)

حافز تحقيق «الربح» في إعلام يديره القطاع الخاص ما عاد يترك مجالاً كبيراً للمناورة بعدما دخل سباق الرئاسة الأميركية مرحلة متقدمة واضعاً الناخبين أمام تحدّي البدء في حسم خياراتهم السياسية، قفز إلى الواجهة مجدداً الحديث عن دور وسائل الإعلام الأميركية، التي كانت ولا تزال، تلعب دوراً رئيسياً في التأثير على آرائهم.

شعار "سي إن إن" (رويترز)

وعلى الرغم من كون سباق هذا العام، مباراة إعادة بين الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترمب، فإنه يطرح تحديات، ليس فقط على المؤسستين السياسيتين، الديمقراطية والجمهورية، بل وعلى وسائل الإعلام نفسها. ذلك أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن لدى الناخبين آراء سلبية من كلا المرشحين، ويحملونهما المسؤولية عن تكثيف حالتي الانقسام والاستقطاب السياسي اللتين تعيشهما البلاد. وأمام التهديد الذي قد تمثله أحجام المستقلين الذين يحسمون عادة السباق عن المشاركة في التصويت، تتجه الانتخابات لتكون معركة سياسية قاسية بين الحزبين، لحض جمهورهما على الالتزام الصارم بالتصويت يوم الانتخابات، تفادياً لخسارة أي صوت، لا سيما في الولايات المتأرجحة.

عصيان ضد ماكدانيال

في المقابل، وفي ظل الحملات المستمرة التي نجحت في التشكيك بنزاهتها وصدقيتها، بدا أن وسائل الإعلام الرئيسية عازمة على إعطاء الأميركيين «العاديين» الأسباب الكافية للابتعاد عنها. وكان آخرها إقدام شبكة «إن بي سي نيوز»، المحطة الشقيقة لشبكة «إم إس إن بي سي»، على تعيين رونا ماكدانيال، الرئيسة السابقة للجنة الوطنية للحزب الجمهوري، معلقة سياسية، ثم إنهاء عقدها بعد 3 أيام فقط إثر ما عُد «عصياناً» من صحافيي برامج المحطة ومقدميها... ضد توظيفها.

كثير من المحللين والمراقبين يرون أن الضغط الذي تتعرّض له وسائل الإعلام الأميركية نتيجة الاستقطاب السياسي الحاد، فرض على كثير منها الترويج لمقولة «تقديم وجهة نظر أخرى» بهدف «التوازن»، وتوخياً لتوسيع قاعدة المشاهدين، وذلك بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تناقص أعدادهم وانفضاضهم عن متابعة برامجها السياسية.

ورغم احتفاظ وسائل الإعلام الأميركية المحسوبة على الليبراليين باليد العليا في الهيمنة على الفضاء الإعلامي، يبدو أن حافز تحقيق «الربح» في إعلام يديره القطاع الخاص، لا يترك مجالاً كبيراً للمناورة... بينما تتقدم أرقام محطات وشبكات حديثة العهد في استقطاب «المشاهدين الغاضبين».

شعار"إن بي سي نيوز" (رزيترز)

وغنيٌّ عن القول هنا أن محطات «سي إن إن» و«فوكس نيوز» و«إيه بي سي» و«إم إس إن بي سي» وغيرها من المحطات العريقة، تهيمن على شبكات الكابل. ولكن بعد خسارة الرئيس السابق دونالد ترمب انتخابات 2020، وانحسار التغطية المحمومة له لصالح «هدوء» عصر جو بايدن، انخفض عدد مشاهدي تلك المحطات. وفي عام 2022، انخفض متوسط تصنيفات «سي إن إن»، بمقدار الثلث عن العام السابق على مدار اليوم، وشهدت «فوكس نيوز» انخفاضاً بنسبة 14 في المائة، وانخفضت مشاهدة «إم إس إن بي سي» بنسبة 22 في المائة... ما فرض على تلك المحطات البدء في الترويج لسياسة «الانفتاح» على الرأي الآخر.

خلافات ليست جديدة

إلا أن الاعتراض على تعيين ماكدانيال، ما كان الأول ولن يكون الأخير. إذ في عام 2019، تراجعت شبكة «سي إن إن» عن قرارها تعيين سارة إيسغور، المسؤولة السابقة في إدارة ترمب، محرّرة سياسية وسط سيل من الانتقادات، وبدلاً من ذلك أصبحت محللة سياسية. وفي عام 2018، عيّنت مجلة «ذي أتلانتيك» ثم طردت الأديب المحافظ كيفن ويليامسون، بعدما اعترض الموظفون على كتاباته السابقة، بما في ذلك تغريدة له عام 2014 مفادها أنه يجب شنق النساء اللاتي أجرين عمليات إجهاض.

وفي الواقع، لطالما شهدت غرف الأخبار معارك وخلافات بين المراسلين والصحافيين من جهة، والمحرّرين ورؤساء التحرير من الجهة المقابلة، حول «الخط التحريري» وما يمكن نشره. غير أن اليد العليا في اتخاذ القرار كانت دائماً معقودة لرؤساء التحرير، ولم يكن أمام الصحافيين والمراسلين سوى قليل من الوسائل للتعبير عن اعتراضهم أو غضبهم.

لقد كان من شبه المستحيل على غرف الأخبار أن تبث اعتراضاتها على الهواء مباشرة، فأضحى اللجوء إلى «التسريبات» عبر وسائل الإعلام التقليدية المكتوبة والصحف «الصفراء» هو الوسيلة الرئيسية. بيد أن الاعتراض على تعيين ماكدانيال، صدر مباشرة وعلى الهواء من مراسلي وصحافيي غرفة الأخبار ومقدمي البرامج في شبكة «إن بي سي»، في تحدٍ لهيئة التحرير وقيادة المحطة.

تحول آيديولوجي وتكنولوجي

تقرير لصحيفة «بوليتيكو»، يقول إن تحولاً آيديولوجياً كان آخذاً في الظهور، تصاعد مع وصول دونالد ترمب إلى السلطة وازدرائه للمعايير الصحافية التقليدية. وحقاً، جاء جيل جديد من المراسلين حاملين معهم ازدراء مماثلاً لتلك المعايير، مثل «الموضوعية» والرغبة في التصادم مع رؤسائهم. وترى الصحيفة أن الأمر نفسه حصل مع موظفي البيت الأبيض الذين وقّعوا عريضة مجهولة أخيراً تعترض على سياسات الرئيس بايدن من حرب غزة.

شعار "فوكس نيوز" (رويترز)

أيضاً، بدءاً من العقد الأول من القرن الحالي، ومع الابتكارات التكنولوجية التي نتجت عن الثورة التي أحدثتها الإنترنت، حصل تحوّل بالغ الأهمية، إذ غدت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً حقيقياً من مصادر غرف الأخبار. وقدّم «فيسبوك» و«تويتر» و«تيك توك»، وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي للصحافيين، وسائل جديدة وفعالة للتعبير عن غضبهم من رؤساء التحرير. وبالفعل، أفقدت تلك الوسائل المفتوحة رؤساء التحرير وقيادات المحطات كثيراً من سلطة القيادة، فصار ضرباً من «الغباء» أو المكابرة تجاهل شكاوى الصحافيين والامتناع عن السماح لهم بالتعبير بشكل مباشر ومن على شاشاتهم، بدلاً من اللجوء للتسريبات المؤذية.

فشل ادعاء التوازن

اليوم تدّعي «إن بي سي نيوز»، وهي محطة ليبرالية بامتياز، أنها تبحث عن الأصوات الجمهورية المحافظة لتوفير التوازن في تغطيتها الانتخابية. إلا أن المعترضين على تعيين ماكدانيال - وهي سليلة أسرة رومني الشهيرة في وجهات الحزب الجمهوري - يقولون إن اعتراضهم لم يكن على جمهوري محافظ، بل على توظيف «منكر لنتيجة الانتخابات ومناهض للديمقراطية». فهم يأخذون على ماكدانيال موقفها من صحة نتائج انتخابات 2020، وزعمها وجود «سرقة»، ودورها في تنسيق مخطط للإبدال بالناخبين في المجمع الانتخابي بولاية ميشيغان بديلين مؤيدين لترمب.

غير أن كثيراً من النقاد يرون أنه لو كان الأمر كذلك، فلماذا أجرت المحطة مقابلات مع ستايسي أبرامز، بعد فترة طويلة من رفضها التنازل عن سباق حاكم ولاية جورجيا عام 2018، الذي خسرته بفارق 55 ألف صوت تقريباً؟ ولماذا قبلت استضافة كثير من النواب الديمقراطيين الذين حاولوا وقف التصديق على فوز جورج بوش «الابن» في ولاية أوهايو عام 2005؟ ولماذا امتنعت عن انتقاد هيلاري كلينتون التي أنكرت فوز ترمب عام 2016؟

تقول المحطة إنها تحاول تجنب أخطاء عام 2016 من خلال توظيف أصوات متوازنة في اليمين المتحالف مع ترمب. غير أن طرد ماكدانيال يوضح بعض أسباب تراجع ثقة الأميركيين بوسائل الإعلام الإخبارية، ويشير إلى أن الصحافة مستعدة لارتكاب الخطأ نفسه هذا العام أيضاً، من دون أن تعي أسباب تراجع الثقة بها إلى هذا الحد.

ولكن هل سيرحب مذيعو المحطة، فضلاً عن الجمهور الليبرالي، بانضمام أشخاص مختلفين مؤيدين لترمب؟ وهل سيوسّع هؤلاء التنوّع السياسي في الشبكة... بينما يستمع متابعو «إن بي سي» و«إم إس إن بي سي» و«سي إن إن»، كما متابعو «فوكس نيوز»، كل ليلة إلى ما يودّون سماعه تأكيداً لوجهات نظرهم؟


كيف يؤثر حجب «ميتا» أخباراً تتعلق بالمناخ على تداول المعلومات؟

شعار شركة «ميتا» (رويترز)
شعار شركة «ميتا» (رويترز)
TT

كيف يؤثر حجب «ميتا» أخباراً تتعلق بالمناخ على تداول المعلومات؟

شعار شركة «ميتا» (رويترز)
شعار شركة «ميتا» (رويترز)

أثارت اتهامات وجهتها مؤسسة صحافية «غير ربحية» في الولايات المتحدة الأميركية لشركة «ميتا» حول حجب منشورات وأخبار تتعلق بالمناخ، مخاوف بشأن مستقبل تداول المعلومات على منصات الشركة العملاقة. وكانت «ميتا» قد اعتذرت أخيراً بعد حجب روابط لصحيفة غير ربحية عقب نشر تقرير انتقد «فيسبوك» بشأن منشورات تتعلق بتغير المناخ، بيد أنها نفت فرضها رقابة على المحتوى، وبرّرت ما حدث بأنه «مشكلة أمنية» غير متعمدة.

صحيفة «كانساس ريفليكتور» الأميركية كانت قد ذكرت أن ثمة 6 آلاف قصة صحافية جرى حجبها من قبل منصات «ميتا» لمدة سبع ساعات. وأضافت أن أي شخص حاول إعادة نشر الروابط المحجوبة كان يُقابل بتحذير من أن الموقع يشكل خطراً أمنياً، وقيل لجمهورها إن الروابط تحتوي على برامج ضارة محتملة. وحسب الصحيفة عادت الروابط بعد ذلك باستثناء رابط واحد لمقال رأي انتقد سياسات «فيسبوك» بشأن الإعلانات الترويجية المدفوعة.

في ضوء ما حدث، في حين عدّ بعض الخبراء أن ما وقعت فيه الشركة العملاقة المالك لأبرز منصات التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك»، و«إنستغرام» و«واتساب» و«ثريد» يهدد صدقيتها، ويثير المخاوف بشأن قضية مركزية السلطة في وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن شركة «ميتا» التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، تسيطر على الحصة الأضخم من منصات التواصل بـ4 مليارات مستخدم نشط شهرياً على منصاتها، ويمثل «فيسبوك» وحده 3 مليارات، ما قد يؤدي إلى مركزية الملكية الرقمية، وإحداث ضرر في قضايا لها تأثير على حياة البشر الفعلية. ومن ناحية ثانية، كانت شبكة «سي إن إن» الأميركية نشرت تحقيقاً حول الواقعة، وأشارت إلى محاولة التواصل مع «ميتا» احتراماً لحق الرد حول الاتهامات الموجهة إليها «غير أنها لم تستجب»، بينما كتب شيرمان سميث، رئيس تحرير صحيفة «كانساس ريفليكتور»، في مقال رأي، أن الناطق باسم «فيسبوك» آندي ستون «لم يوضح كيفية حدوث الخطأ، وأنه لن يكون هناك أي تفسير آخر».

هيفاء البنا، الصحافية اللبنانية والمدربة في الإعلام ومواقع التواصل - وهي أيضاً مديرة تسويق رقمي - علّقت لـ«الشرق الأوسط» على ما حدث من «ميتا»، بقولها إن «الأمر ليس مفاجئاً... وحرب غزة كشفت لا حيادية (ميتا) وخطورة القوة التي تمتلكها. إذ شاهدنا خلال الشهور الماضية حذفاً متعمداً لأي محتوى يحمل كلمة فلسطين». غير أن البنا عدّت في المقابل «أن السلوك هذا رغم خطورته يشكّل فرصة لتعزيز الوعي لدى المستخدمين». وقالت: «أصبح لدى المستخدم الوعي الكافي بأن هذه المنصات التي يحصل منها على المعلومات ليست بالديمقراطية التي كان يظنها».

وتابعت البنا، فذكرت أن الإطار التنظيمي لممارسات منصات التواصل الاجتماعي «بات حتمياً... وانعدام الحياد، وتبعات الاستحواذ تدفعان الرأي العالمي نحو حتمية ضبط المشهد بأطر تنظيمية ذات طابع إلزامي تحمي حقوق المستخدمين في الوصول للمعلومات من دون حجب متعمد أو سياسة نشر مُوجه وفقاً لصالح شركات أو دول». ثم تابعت أن «الأمر يمكن تهذيبه بسن قوانين، على شاكلة ما حدث مع الإعلام على مدار سنوات... ويمكن القول إن الدول والمؤسسات الدولية نجحت في ضبط وتقنين أنماط تداول ونشر المعلومات بما لا يضر بالصالح العام، حتى وإن استمرت بعض التجاوزات، التي لا يمكن مقارنتها بما نشهده على منصات التواصل الاجتماعي حالياً».

غير أن الصحافية والمدربة اللبنانية عدّت أن ضمانات الحد من تبعات الاستحواذ على نحو «صارم وقاطع كلام بعيد عن الواقع». وأوضحت: «علينا أن نتعاطى واقعياً مع استحواذ (ميتا) على الحصة الأكبر من المعلومات، ومنها بيانات المستخدمين الشخصية، وهي الأكثر خطورة، ثم إنه ليس هناك من حلول جذرية ترغم الشركة على نمط تداول المعلومات إلا الأُطر التشريعية الدولية... وبالتالي، فإن تعزيز المنافسة هو سبيل آخر للحد من تبعات مركزية القرار في العالم الرقمي، سواء من خلال دعم منصات بالفعل لها ثقل في سوق التواصل الاجتماعي مثل (إكس)، أو خروج منصات جديدة بشرط أن تجذب الجمهور، ومن ثم إجبار (ميتا) على التنافس والخضوع لرغبات المستخدم».

في سياق موازٍ، حول الدعاوى القضائية المتكررة التي رفعتها أخيراً مؤسسات، وربما دول، ضد ممارسات «ميتا»، أفادت البنا بأن «ميتا» تجد نفسها الآن «في أزمة، دون شك، بعد ملاحقات قضائية متتالية... وهو أمر أتوقع أن يدفع بها نحو تغيير، ولو طفيف في نمط التعامل مع المعلومات. وربما نشهد نسبياً ممارسات أكثر شفافية خلال الفترة المقبلة لحماية مصالحها ووجودها، غير أن هذا لا يعني أن تصل الشركة إلى ما نطمح فيه من الحرية والمصداقية والشفافية».

ما يستحق الإشارة أن «فيسبوك» كانت قد واجهت انتقادات من قبل الحكومة الماليزية خلال أبريل (نيسان) الحالي. وقال بيان لهيئة تنظيم الاتصالات والشرطة الماليزية نشرته «رويترز» أخيراً، إنه سيصار إلى تعزيز المراقبة على «فيسبوك» بعد زيادات حادة في نشر محتوى وصفه البيان بـ«الضار للمجتمع». وأضاف البيان أنه خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024 أحالت الحكومة الماليزية 51638 منشوراً إلى منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك منصات تابعة لـ«ميتا» لاتخاذ مزيد من الإجراءات بغرض حماية المستخدم.

أيضاً، تعرضت «ميتا» لانتقادات خلال الشهر الحالي بسبب قرار خفض الحد الأدنى لسن استخدام «واتساب» من 16 إلى 13 سنة، وهو القرار الذي دخل حيز التنفيذ في بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الخميس الماضي. وعدّت مجموعة حملة «الجوال الذكي من أجل الطفولة الحرة» في بريطانيا، أن الخطوة التي اتخذتها شركة «ميتا» التي تمتلك أيضاً «فيسبوك» و«إنستغرام»، كما سبقت الإشارة تشير إلى أن الشركة «تضع أرباح المساهمين في المقام الأول وسلامة الأطفال في المرتبة الثانية».

استطراداً، في لقاء مع «الشرق الأوسط»، رأى فادي رمزي، مستشار الإعلام الرقمي المصري والمحاضر في الجامعة الأميركية بالقاهرة، أن ما حدث أخيراً من «ميتا» ليس الواقعة الأولى التي تهز الثقة في مصداقية «ميتا» ومنصاتها، بل سبقتها وقائع مماثلة «الأمر الذي يثير القلق بشأن توجيه الرأي العام العالمي تجاه قضايا حثيثة، مثل المناخ أو حقوق الطفل». وأشار رمزي في هذا الصدد إلى «تقرير مصدره (ميتا) نفسها كان قد عُرض أمام الكونغرس الأميركي قبل سنتين في معرض دفاع الشركة عن نفسها إثر اتهامها بالاحتكار وإلحاق الضرر بمعايير المنافسة العادلة في السوق العالمية». وتضمن التقرير «بيانات حول آلية عمل الخوارزميات والتي تتحرك وفقاً لمصلحة الشركة - حسب تعبيرها - ومن ثم حجب أنماط معينة من المحتوى، مثل المحتوى العنيف». وأشار التقرير أيضاً إلى أن الخوارزميات يمكنها «خفض أو زيادة إمكانية الوصول للمستخدمين وفقاً لتقييم المنصة».

ومن ثم، عدّ رمزي أن ما يثير القلق كذلك هو علاقة «ميتا» بالأخبار، «فقبل سنوات كان (فيسبوك) مصدر انتشار وربح يستحيل تجاهله من قبل أي ناشر، نظراً لقبضته على أكبر عدد من المستخدمين، غير أن هذه العلاقة تراجعت وباتت المنصة لا تخفي تراجعها عن دعم الأخبار». وبالفعل، جاء في التقرير السنوي حول «اتجاهات وتوقعات الصحافة والإعلام والتكنولوجيا» لعام 2023 الصادر عن معهد «رويترز لدراسة الصحافة» التابع لجامعة أكسفورد، أن «21 في المائة من مستخدمي (فيسبوك) باتوا يرون أن المحتوى الإخباري على المنصة غير ضروري». وكذلك عززت بيانات التقرير اتجاه تراجع اهتمام «فيسبوك» بالأخبار، وذكر التقرير حينها أن نسبة مستخدمي «فيسبوك» الباحثين عن محتوى الأخبار آخذة في الانخفاض.

أما عن مواجهة استحواذ «ميتا» على المعلومات، فيرى رمزي أنه «بات إلزامياً على صُنّاع الأخبار البحث عن موطئ قدم في منصات أخرى... وعلى الناشرين الآن إصدار أخبار بأنماط تناسب المنصات المنافسة لشركة (ميتا)، وإلا ستتراجع الصناعة وتتقيد أكثر بقرارات (ميتا) المجحفة». ويدحض مستشار الإعلام الرقمي المصري فكرة الضمانات الإلزامية لمنصات التواصل، قائلاً إنه «لا يوجد أي ضمانات تحمي حرية تداول المعلومات إلى الآن، غير أن الحكومات الكبرى تستطيع تغيير هذه المعادلة من خلال الضغط على شركات التكنولوجيا العملاقة للتوقيع على معايير منظمة تضمن تدفق المعلومات من دون تقييد، وتعزز المنافسة العادلة كذلك».


«أخطاء غوغل» تثير تساؤلات بشأن تحكم الذكاء الاصطناعي في المعلومات

شعار شركة «غوغل» (رويترز)
شعار شركة «غوغل» (رويترز)
TT

«أخطاء غوغل» تثير تساؤلات بشأن تحكم الذكاء الاصطناعي في المعلومات

شعار شركة «غوغل» (رويترز)
شعار شركة «غوغل» (رويترز)

أثارت أخطاء وقع فيه نموذج الذكاء الاصطناعي «جيميناي» التابع لشركة «غوغل»، أخيراً، تساؤلات بشأن مستقبل المعلومات والصور، ومدى تحكم تلك التطبيقات في «الذاكرة الجمعية» المستقبلية للبشر. وبينما أشاد بعض الخبراء بإقدام «غوغل» على الاعتراف بالخطأ، وإعلان عزمه العمل على تصحيحه. شدد الخبراء على «ضرورة التنبه لخطورة الذكاء الاصطناعي وتأثيره على تشكيل صورة لتاريخ البشر».

وكان الرئيس التنفيذي لشركة «غوغل»، سوندر بيتشاي، قد تحدث أخيراً، عن أخطاء وصفها بأنها «غير مقبولة على الإطلاق»، وقع فيها تطبيق «جيميناي» للذكاء الاصطناعي، حيث «ولد صوراً لقوات نازية متنوعة عرقياً، كما ولد صوراً غير دقيقة تاريخياً تظهر امرأة أميركية سوداء تُنتخب عضواً في مجلس الشيوخ في القرن التاسع عشر، في حين لم يحصل ذلك على أرض الواقع قبل عام 1992»؛ ما أثار جدلاً وانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط مخاوف من تأثير شركات التكنولوجيا الكبرى على مستقبل المعلومات.

واعترف المؤسس المشارك في «غوغل»، سيرغي برين بـ«حدوث أخطاء في عملية توليد الصور»، وقال في «هاكاثون» للذكاء الاصطناعي أقيم أخيراً، «كان ينبغي على الشركة اختبار برنامج (جيميناي) بشكل أكثر شمولاً»، بحسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.

وبينما تشيد الباحثة الإعلامية اللبنانية في شؤون الإعلام المعاصر والذكاء الاصطناعي وأستاذة الإعلام والتواصل، سالي حمود، بـ«اعتراف تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالخطأ ومحاولتها تصويبه»، حذّرت من «خطورة هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على والبيانات».

وقالت حمود لـ«الشرق الأوسط» إن «الحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على البيانات والذاكرة الجمعية ليس جديداً؛ لكنه تصاعد أخيراً مع إتاحة خدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي للأفراد، وبروزها على السطح بشكل كبير». وأضافت أن «البيانات الموجودة على الإنترنت، هي التي تكوّن الذاكرة الجمعية للأفراد، وتتحول مع الوقت معلومات يراها البعض حقائق حتى وإن لم تكن كذلك».

وتشير إلى «خطورة البيانات المتداولة على الإنترنت، لا سيما وأنها تشكل الخوارزميات التي تعطي في النهاية النتيجة التي يخرج بها تطبيق الذكاء الاصطناعي أياً كان»، لافتة إلى أن «صحة المعلومات مسؤولية البشر الذين يتولون برمجة الخوارزميات المختلفة، وتغذية الإنترنت بالبيانات».

حمود أوضحت أن «البشر لديهم انحيازاتهم وقيمهم ومعتقداتهم التي تؤثر بالتبعية على ما ينتجونه ويروّجونه من معلومات»، ضاربة المثل بأن «تطبيقات الذكاء الاصطناعي بناءً على تلك الانحيازات البشرية تبدو أكثر تفضيلاً للرجل الأبيض على سبيل المثال». ودعت إلى «الاهتمام بنشر المعلومات الصحيحة على الإنترنت، لا سيما ما يتعلق بالثقافة والهوية العربية، لمواجهة الهيمنة المعلوماتية والتكنولوجية للشركات الغربية».

وبحسب مراقبين، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يتم تدريبها باستخدام كميات هائلة من البيانات، بهدف استخدامها في مهام عدة، مثل إنشاء صور أو صوت أو حتى نص، كما يتم استخدامها في التشخيص الطبي أحياناً.

كما يلفت المراقبون إلى أن «البيانات والصور التي يولدها الذكاء الاصطناعي تعتمد على إنترنت مليء بالتحيزات والمعلومات (الزائفة والمضللة)؛ ما يعني إمكانية تكرار هذه البيانات غير الدقيقة في توليد صور وبيانات تتحكم في تاريخ ومستقبل البشرية».

ووفق المسؤولين في «غوغل»، فإنه «كانت هناك مساعٍ لإعادة التوازن لخوارزميات (جيميناي)، لتقديم نتائج تعكس التنوع البشري، لكنها جاءت بنتائج عكسية»، فنتيجة الحرص على التنوع «ولد التطبيق صوراً لقوات نازية متنوعة ومتعددة الأعراق بالمخالفة للوقائع التاريخية».

ورأى الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، محمد الصاوي، أن «تأثير الذكاء الاصطناعي على مستقبل المعلومات يعتمد على قدرة الشركات الكبرى مثل (غوغل) على التحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها لتوليد وتوجيه المعلومات»، موضحاً أنه «عندما تقوم هذه الشركات بتطبيقات تعتمد بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي، فإنها تتحكم بشكل كبير في كيفية توجيه المعلومات وكيفية فهم المستخدمين للواقع». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «واقعة (غوغل) تعكس كيف يمكن لهذه التقنيات أن تخطئ وتؤثر على المعرفة وعلى فهم الناس للتاريخ والحقائق»، مشيراً إلى أن «الصور الخاطئة والمعلومات غير الدقيقة يمكن أن تنتشر بسرعة وتؤثر على الثقة في المعلومات التي يستند إليها الناس في اتخاذ القرارات».

ويقترح الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي لمواجهة هذا التحدي، أن تعمل الحكومات والجهات الرقابية على بناء إطار قانوني يحدد المعايير والمسؤوليات لشركات التكنولوجيا فيما يتعلق بتوليد ونشر المعلومات، مع وضع متطلبات صارمة للشفافية والمراجعة المستقلة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة، بالإضافة إلى تشجيع الابتكار في تطوير تقنيات تصحيح الأخطاء وتحسين دقة البيانات والمعلومات التي تعتمد عليها هذه الخوارزميات».

ومنذ طرح شركة «أوبن إي آي» روبوت المحادثة «تشات جي بي تي» للاستخدام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، أثير جدل بشأن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتأثيراتها على مختلف المجالات وبينها الصحافة، لا سيما مع إشارة أبحاث عدة إلى مخاطرها؛ ما دفع حكومات دول عدة إلى محاولة وضع قواعد لكبح جماح التقنية.

وفي مارس (آذار) 2023، طالب أكثر من ألف عالم متخصص في التكنولوجيا بـ«هدنة صيفية لمدة 6 أشهر، تستهدف الاتفاق على قواعد حوكمة الرقمية». إثر ذلك بدأ عدد من المشرّعين الأوروبيين العمل على تشريعات جديدة في هذا الصدد. أيضاً، بين الحين والآخر تفرض دولة ما حظراً على تطبيق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي بداعي «حماية البيانات»، كما فعلت إيطاليا في أبريل (نيسان) 2023.

وتثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مخاوف عدة بشأن انتشار «المعلومات المضللة»، و«انتهاك الخصوصية»؛ لذلك تتجه دول عدة لحوكمته ووضع ضوابط لاستخدامه. ولتجاوز الانحيازات البشرية والمعلومات «الزائفة» يدعو خبراء ومراقبون إلى «زيادة التنوع في الفِرق المشرفة على إنشاء وتغذية تطبيقات الذكاء الاصطناعي»؛ تزامناً مع «زيادة الشفافية عن كيفية عمل خوارزمياتها، بهدف تحسين البيانات التي تولدها تلك التطبيقات».

أخيراً، يتجه العالم إلى حوكمة الذكاء الاصطناعي، وفي نهاية العام الماضي اتفق الاتحاد الأوروبي، على ما عُدّ «أول تشريع شامل لحوكمة الذكاء الاصطناعي». بهدف «ضمان أمن السوق الأوروبية»، جنباً إلى جنب مع «تحفيز الاستثمار والابتكار في تطوير وتسهيل أدوات التعامل مع الذكاء الاصطناعي». ومن المقرر أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ عام 2025.


برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
TT

برامج رمضان على الشاشة اللبنانية الصغيرة تعود إلى عقد الستينات

زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)
زافين قيوميجيان (الشرق الأوسط)

تحافظ الشاشة الصغيرة على مكانتها عند المشاهد العربي عامة، واللبناني خاصة، في موسم رمضان، فتستعيد بريقها، ويتحلق أفراد الأسرة حولها.

اللحظات التي يمضيها الأب والأم مع أولادهما يتابعون خلالها مسلسلاً أو برنامجاً رمضانياً، لها قيمة إضافية، محببة إلى قلوبهم، وتولّد بينهم متعة الحوار.

الجلسة أمام الشاشة تجمعهم من جديد، وتشكل نوعاً من لقاء ينتظرونه من عام إلى آخر، فيتسامرون ويتبادلون التعليقات حول المحتوى البصري الذي يتابعونه.

هذه السنة شهدت الشاشات المحلية اللبنانية تنافساً في برمجتها الرمضانية، وحاولت كل محطة أن تقدم الأفضل لمتابعيها، واختارت للشهر الفضيل برامج ترفيهية وأعمالاً درامية من الصف الأول كي يتعلق المشاهد بشاشتها. ولكن متى انخرطت الشاشة الصغيرة في أجواء رمضان؟ ومن هي المحطة التلفزيونية التي استحدثت برمجة خاصة به؟

شعار تلفزيون لبنان (الشرق الأوسط)

«تلفزيون لبنان» أول محطة واكبته

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان، ومن الأوائل في العالم العربي.

أسّست المحطة على يد وسام عز الدين بالشراكة مع شركة «طومسون» الفرنسية المنتجة للتلفزيونات. وبمساعدة دوري شمعون، نجل الرئيس كميل شمعون، استحصلوا على رخصة للبث عام 1957، إلا أنه بسبب أحداث عام 1958 في لبنان، تأخر التنفيذ إلى العام التالي 1959. وشيّد المبنى الخاص بالمحطة الوليدة في محلة تلة الخياط بالعاصمة بيروت.

في أوائل الستينات أخذت هذه المحطة على عاتقها مواكبة الشهر الفضيل. وسبق للإعلامي زافين قيوميجيان أن أصدر سلسلة كتب عن تاريخ «تلفزيون لبنان» وأهم حقباته، خاصة أن هذه المحطة كانت أول محطة تلفزيونية عمل فيها مع بداية مشواره الإعلامي.

في حديث لـ«الشرق الأوسط» يتذكّر زافين تلك الحقبة من خلال أبحاث ودراسات قام بها، ويقول: «البرمجة الرمضانية استهلت، مع ما كان معروفاً يومها بـ(تلفزيون لبنان والمشرق) في الحازمية و(تلفزيون لبنان) في تلة الخياط قبل أن يتوحّدا. وكان نجم تلك الحقبة الرمضانية الفنان يوسف شامل، مؤلف وبطل برنامج (الدني هيك). وتخلّل تلك الفترة برامج أخرى رمضانية، بينها برنامج الحكواتي مع (أبو العبد البيروتي)، إلا أنها لم تلق النجاح المنتظر؛ إذ ظهرت كعادات وتقاليد جديدة على اللبنانيين، سيما وأن انتشار جهاز التلفزيون كان لا يزال خجولاً».

ويتابع زافين قيومبجيان: «في الثمانينات استحدثت مصر برامج رمضانية مشهورة بينها (فوازير رمضان) لنيللي وشريهان. ومن باب الاتفاق التعاوني بين (تلفزيون لبنان) و(الاتحاد العربي للتلفزيون) دخلت هذه الموجة الشاشة اللبنانية، وحققت يومها نجاحاً ملحوظاً... وخصوصاً أن (تلفزيون لبنان) راح يواكبها بمسابقات رمضانية تخول المشاهد ربح الجوائز».

وبحسب زافين، لحقت بهذه المرحلة الدراما الرمضانية. وشهدت الشاشة اللبنانية عروضاً لمسلسلات مشهورة في تلك الحقبة كـ«رأفت الهجّان» و«ليالي الحلمية». واختتم بالقول: «بقي الأمر على ما هو عليه حتى التسعينات عند بزوغ فجر تلفزيون «المستقبل».

جابر: «المستقبل» أول من نظم برمجة رمضانية

شكلت ولادة تلفزيون «المستقبل» علامة فارقة في عالم الإعلام المرئي اللبناني منذ انطلاقتها في عام 1993؛ إذ كان أول قناة فضائية لبنانية تبث بالعربية. ووقف وراء تأسيس هذا الصرح الإعلامي رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. وحقاً، استطاع من خلاله نقل الإعلام المرئي اللبناني إلى مستوى رفيع، ووفّر له انتشاراً واسعاً طال أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا والبلدان العربية.

الإعلامي علي جابر، عميد معهد الاتصالات في الجامعة الأميركية بدبي ومدير مجموعة «إم بي سي»، كلفه الرئيس الراحل الحريري يومها، بإدارة قناة «المستقبل»، فتولى هذه المهمة منذ عام 1992 لغاية 2003. وعلى يد جابر ولدت البرمجة الرمضانية المنظمة على شاشة لبنانية.

علي جابر (الشرق الأوسط)

في لقاء مع «الشرق الأوسط» شرح جابر: «(المستقبل) كان سباقاً في أمور كثيرة استحدثها على الشاشة الصغيرة، ثم لحقت به باقي محطات التلفزة. وهنا يعود الفضل للرئيس الراحل الحريري الذي أراد (المستقبل) منبراً إعلامياً متوهجاً. ورغب بالفعل من خلاله أن يغيّر صورة لبنان الحرب، ويعيده بلد الازدهار. كان الحريري مدركاً أهمية الشهر الفضيل عند اللبنانيين بجميع أطيافهم، فأوكلني يومها بإدارة المحطة، وطلب مني تنظيم برمجة خاصة برمضان».

من هذا المنطلق، حشد جابر حوله فريقاً علمياً مبدعاً من طلابه في الجامعة، فحقق أول خطوة إلى الأمام مع نبض شبابي جديد، «ما كان قد انخرط بعد ببرمجة التلفزيون التقليدي» كما يقول. ومع هؤلاء الطلاب، وضع جابر خطة لرمضان بعدما درس طبيعة المتلقي، وأخذ بعين الاعتبار أقسام يوم كامل من أيام الشهر الكريم. وأوضح: «لقد فكرنا بأن ما يجب عرضه على الشاشة من برامج رمضانية قبل الإفطار لا تشبه ما بعده».

وسار جابر بخطته العلمية هذه معرّجاً أيضاً على فترة الأمسيات عند اللبناني التي تختتم بالسحور، فوقف على أهواء وأذواق ومتطلبات الشارع كي يقدم المحتوى الذي يليق بهذا الشهر.

خيم رمضان من بيروت إلى العالم

لقد كان أول من فكّر بـ«الخيمة الرمضانية»، وبإيعاز من الراحل رفيق الحريري، النائب السابق سليم دياب. وحقاً استقدم الأقمشة المصرية الحمراء السميكة والمزخرفة لتغطي جدرانها، وراح تلفزيون «المستقبل» ينقل أجواء الساهرين فيها عبر شاشته مباشرة. وكان اللبنانيون من مختلف المناطق يقصدونها عند الإفطار أو السحور.

وبعدها توسّعت الظاهرة على يد رجل الأعمال بشارة نمّور، الذي وضع حجر الأساس لمجموعة خيم من هذا النوع في منطقة الأونيسكو ببيروت عُرفت بـ«خيام الهنا». وصارت عنواناً مشهوراً للبنانيين المقيمين والمغتربين وحتى للسياح العرب، يرتادونها من كل حدب وصوب، وتحولت إلى ملتقى اللبنانيين مع أهاليهم في السعودية، وأي بلد اغترابي آخر، فيتصلون مباشرة بأولادهم ويوجهون إليهم التحية وتنقلها شاشة «المستقبل» مباشرة على الهواء.

هذا، وكان عدد من الفنانين يسهمون في إحياء الحفلات الغنائية والموسيقية فيها، بينهم نانسي عجرم التي نالت أول قسطها من الشهرة عبر الشاشة المذكورة من خلال برنامج المواهب «نجوم المستقبل». وبعد «خيام الهنا» توسّعت هذه الظاهرة أكثر لتشمل مطاعم ومقاهي فنادق وغيرها، كما ذاع صيتها في العالم العربي فراحت بلدان عدة بدورها تقيم خيامها.

تطور برامج رمضان على الشاشة اللبنانية

وفق أرشيف «تلفزيون لبنان»، فإن باقة برامج رمضانية كانت تلون شاشته منذ الستينات وصولاً إلى أوائل التسعينات. ولعل أشهرها «جحا» و«مسحّر رمضان» و«مع إسماعيل ياسين». وكانت كلها برامج تلفزيونية من إنتاجه، ويشارك فيها فنانون معروفون كدريد لحام وشوشو وإسماعيل ياسين وغيرهم. وكان رئيس إدارة التلفزيون، يومذاك، الجنرال سليمان نوفل، قد أخذ على عاتقه تلوين شاشته بها. أما المسلسلات فكانت تتألف من «هو وهي» و«عريس الهنا» و«أبواب المدينة» و«باكيزة وزغلول».

وأما تلفزيون «المستقبل» فكان من أوائل مسلسلاته المعروضة «الحفار» و«إخوة في التراب». وكانت هذه تعرض بعد الإفطار، ويسبقها برامج روحانية تتألف من الصلاة والدعاء. وبعد المسلسلات يُصار إلى نقل أجواء الخيم الرمضانية. وهي برمجة عمل عليها علي جابر كي تواكب يوماً رمضانياً كاملاً.

ومن ناحيته، فإن تلفزيون «إل بي سي» انخرط في هذه الموجة منذ عام 1987. وكانت الباكورة باقة من برامج دينية كـ«صدق الله ورسوله»، و«على هامش السياق»، لتتطوّر بعدها لعروض فوازير رمضان لشيريهان وبرنامج «ألف ليلة وليلة». وفي عام 1996 أنتجت المحطة مسلسلاً درامياً خاصاً برمضان هو «تجارة عن تراض». وفي عام 1997 أطلقت برامج الألعاب مع طوني خليفة «بتخسر إذا ما بتلعب».

وقبله كان ميشال قزّي، المذيع التلفزيوني على قناة «المستقبل»، قد حقق شهرة واسعة في مواسم رمضان في لبنان والعالم العربي. وجاء ذلك على خلفية تقديمه برامج الألعاب والجوائز «ميشو شو». وتأثر المشاهد في تلك الفترة بعبارات كان يرددها مثل: «إلك» و«وينك»، فغدت متداولة بشكل ملحوظ.

يُعد «تلفزيون لبنان» أول محطة بثت المحتوى البصري في لبنان ومن الأوائل في العالم العربي

شري: «المستقبل» كان السبّاق رمضانياً

اشتهرت المذيعة التلفزيونية يمنى شري وجهاً محبوباً في قناة «المستقبل». وخلال مواسم رمضان استطاعت يمنى أن تكسب شعبية كبرى من خلال إجرائها حوارات في الخيم الرمضانية. كذاك كانت لها تجارب عدة في عالم التقديم في تلك المواسم. وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت يمنى شري: «كل ما نراه اليوم على محطات التلفزة سبق أن قدمه تلفزيون (المستقبل) على شاشته. فالفريق العامل فيه كان مبدعاً وصاحب أفكار. وأنا أحتفظ بذكريات كثيرة عن فترة شهر رمضان... إذ قدمت برامج مختلفة على مدى سنوات طويلة بينها «طل القمر»، و«ليل وقمر ونجوم وسهر»، و«جولة يمنى في العالم العربي».

يمنى شري (الشرق الأوسط)

وتتابع يمنى كلامها فتذكر أن «فترة النقل المباشر من (خيام الهنا) كانت تحمل الفرح والطاقة الإيجابية للبنانيين الخارجين لتوهم من مرحلة حرب طويلة، فيزحفون بالآلاف إلى تلك الخيم ليسهروا فيها ويوجهون التحيات إلى أهاليهم وأقاربهم في المهجر. وكنت أخصص هذا الموسم بأزياء ومحتوى يلائمان المناسبة. وهكذا، كانت المشهدية برمّتها جميلة فيها الكثير من راحة البال والأمان. ولا أنسى هنا أبداً استضافتي للفنان الكبير سيد مكاوي في واحدة من الحلقات الرمضانية التي كنت أقدمها... كان النجوم من لبنان والعالم العربي توّاقين للظهور على هذه الشاشة لشهرتها الواسعة».


«أخطاء غوغل» تثير تساؤلات بشأن تحكم الذكاء الاصطناعي في المعلومات

شعار شركة «غوغل» (رويترز)
شعار شركة «غوغل» (رويترز)
TT

«أخطاء غوغل» تثير تساؤلات بشأن تحكم الذكاء الاصطناعي في المعلومات

شعار شركة «غوغل» (رويترز)
شعار شركة «غوغل» (رويترز)

أثارت أخطاء وقع فيه نموذج الذكاء الاصطناعي «جيميناي» التابع لشركة «غوغل»، أخيراً، تساؤلات بشأن مستقبل المعلومات والصور، ومدى تحكم تلك التطبيقات في «الذاكرة الجمعية» المستقبلية للبشر. وبينما أشاد بعض الخبراء بإقدام «غوغل» على الاعتراف بالخطأ، وإعلان عزمه العمل على تصحيحه. شدد الخبراء على «ضرورة التنبه لخطورة الذكاء الاصطناعي وتأثيره على تشكيل صورة لتاريخ البشر».

وكان الرئيس التنفيذي لشركة «غوغل»، سوندر بيتشاي، قد تحدث أخيراً، عن أخطاء وصفها بأنها «غير مقبولة على الإطلاق»، وقع فيها تطبيق «جيميناي» للذكاء الاصطناعي، حيث «ولّد صوراً لقوات نازية متنوعة عرقياً، كما ولّد صوراً غير دقيقة تاريخياً تظهر امرأة أميركية سوداء تُنتخب عضواً في مجلس الشيوخ في القرن التاسع عشر، بينما لم يحصل ذلك على أرض الواقع قبل عام 1992»، ما أثار جدلاً وانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط مخاوف من تأثير شركات التكنولوجيا الكبرى على مستقبل المعلومات. واعترف المؤسس المشارك في «غوغل»، سيرغي برين، بـ«حدوث أخطاء في عملية توليد الصور»، وقال في «هاكاثون» للذكاء الاصطناعي أقيم أخيراً: «كان ينبغي للشركة اختبار برنامج (جيميناي) بشكل أكثر شمولاً»، بحسب ما نقلته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وبينما تشيد الباحثة الإعلامية اللبنانية في شؤون الإعلام المعاصر والذكاء الاصطناعي وأستاذة الإعلام والتواصل، سالي حمود، بـ«اعتراف تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالخطأ ومحاولتها تصويبه»، حذرت من «خطورة هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على والبيانات». وقالت حمود لـ«الشرق الأوسط» إن «الحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على البيانات والذاكرة الجمعية ليس جديداً؛ لكنه تصاعد أخيراً مع إتاحة خدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي للأفراد، وبروزها على السطح بشكل كبير». وأضافت أن «البيانات الموجودة على الإنترنت، هي التي تكون الذاكرة الجمعية للأفراد، وتتحول مع الوقت إلى معلومات يراها البعض حقائق حتى وإن لم تكن كذلك». وتشير إلى «خطورة البيانات المتداولة على الإنترنت، لا سيما أنها تشكل الخوارزميات التي تعطي في النهاية النتيجة التي يخرج بها تطبيق الذكاء الاصطناعي أياً كان»، لافتة إلى أن «صحة المعلومات مسؤولية البشر الذين يتولون برمجة الخوارزميات المختلفة، وتغذية الإنترنت بالبيانات».

حمود أوضحت أن «البشر لديهم انحيازاتهم وقيمهم ومعتقداتهم التي تؤثر بالتبعية على ما ينتجونه ويروجونه من معلومات»، ضاربة المثل بأن «تطبيقات الذكاء الاصطناعي بناء على تلك الانحيازات البشرية تبدو أكثر تفضيلاً للرجل الأبيض على سبيل المثال». ودعت إلى «الاهتمام بنشر المعلومات الصحيحة على الإنترنت، لا سيما ما يتعلق بالثقافة والهوية العربية، لمواجهة الهيمنة المعلوماتية والتكنولوجية للشركات الغربية».

وبحسب مراقبين، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يتم تدريبها باستخدام كميات هائلة من البيانات، بهدف استخدامها في مهام عدة، مثل إنشاء صور أو صوت أو حتى نص، كما يتم استخدامها في التشخيص الطبي أحياناً. كما يلفت المراقبون إلى أن «البيانات والصور التي يولدها الذكاء الاصطناعي تعتمد على إنترنت مليء بالتحيزات والمعلومات (الزائفة والمضللة)، ما يعني إمكانية تكرار هذه البيانات غير الدقيقة في توليد صور وبيانات تتحكم في تاريخ ومستقبل البشرية». ووفق المسؤولين في «غوغل»، فإنه «كانت هناك مساعٍ لإعادة التوازن لخوارزميات (جيميناي)، لتقديم نتائج تعكس التنوع البشري، لكنها جاءت بنتائج عكسية»، فنتيجة الحرص على التنوع «ولّد التطبيق صوراً لقوات نازية متنوعة ومتعددة الأعراق بالمخالفة للوقائع التاريخية».

محمد الصاوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، رأى أن «تأثير الذكاء الاصطناعي على مستقبل المعلومات يعتمد على قدرة الشركات الكبرى مثل (غوغل) على التحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها لتوليد وتوجيه المعلومات»، موضحاً أنه «عندما تقوم هذه الشركات بتطبيقات تعتمد بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي، فإنها تتحكم بشكل كبير في كيفية توجيه المعلومات وكيفية فهم المستخدمين للواقع». وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن «واقعة (غوغل) تعكس كيف يمكن لهذه التقنيات أن تخطئ وتؤثر على المعرفة وعلى فهم الناس للتاريخ والحقائق»، مشيراً إلى أن «الصور الخاطئة والمعلومات غير الدقيقة يمكن أن تنتشر بسرعة وتؤثر على الثقة بالمعلومات التي يستند إليها الناس في اتخاذ القرارات».

ويقترح الصاوي لمواجهة هذا التحدي، أن تعمل الحكومات والجهات الرقابية على بناء إطار قانوني يحدد المعايير والمسؤوليات لشركات التكنولوجيا فيما يتعلق بتوليد ونشر المعلومات، مع وضع متطلبات صارمة للشفافية والمراجعة المستقلة لخوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة، بالإضافة إلى تشجيع الابتكار في تطوير تقنيات تصحيح الأخطاء وتحسين دقة البيانات والمعلومات التي تعتمد عليها هذه الخوارزميات».

ومنذ طرح شركة «أوبن إي آي» روبوت المحادثة «تشات جي بي تي» للاستخدام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 أثير جدل بشأن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتأثيراتها على مختلف المجالات وبينها الصحافة، لا سيما مع إشارة أبحاث عدة إلى مخاطرها؛ ما دفع حكومات دول عدة لمحاولة وضع قواعد لكبح جماح التقنية.

وفي مارس (آذار) 2023، طالب أكثر من ألف عالم متخصص في التكنولوجيا بـ«هدنة صيفية لمدة 6 أشهر، تستهدف الاتفاق على قواعد الحوكمة الرقمية». إثر ذلك بدأ عدد من المشرعين الأوروبيين العمل على تشريعات جديدة في هذا الصدد. أيضاً بين الحين والآخر تفرض دولة ما حظراً على تطبيق من تطبيقات الذكاء الاصطناعي بداعي «حماية البيانات»، كما فعلت إيطاليا في أبريل (نيسان) 2023. وتثير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مخاوف عدة بشأن انتشار «المعلومات المضللة»، و«انتهاك الخصوصية»، لذلك تتجه دول عدة لحوكمته ووضع ضوابط لاستخدامه. ولتجاوز الانحيازات البشرية والمعلومات «الزائفة» يدعو خبراء ومراقبون إلى «زيادة التنوع في الفرق المشرفة على إنشاء وتغذية تطبيقات الذكاء الاصطناعي»، تزامناً مع «زيادة الشفافية عن كيفية عمل خوارزمياتها، بهدف تحسين البيانات التي تولدها تلك التطبيقات».

أخيراً، يتجه العالم إلى حوكمة الذكاء الاصطناعي، وفي نهاية العام الماضي، اتفق الاتحاد الأوروبي على ما اعتبر «أول تشريع شامل لحوكمة الذكاء الاصطناعي»، بهدف «ضمان أمن السوق الأوروبية»، جنباً إلى جنب مع «تحفيز الاستثمار والابتكار في تطوير وتسهيل أدوات التعامل مع الذكاء الاصطناعي». ومن المقرر أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ عام 2025.