القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

«الشرق الأوسط» رصدت رحلة صعود التنظيمات الإرهابية... وُلدت عام 2003 وبلغت ذروة قوتها في 2015

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
TT

القبضة الأمنية تحجِّم مشروع «داعش» في سيناء

قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})
قوات الجيش المصري تحكم قبضتها على جميع مداخل شبه جزيرة سيناء ({الشرق الأوسط})

رغم تضييق أجهزة الأمن المصرية الخناق على العناصر «الإرهابية»، وقتل العشرات منها أسبوعياً، في محافظة شمال سيناء (300 كيلومتر شمال شرقي القاهرة)، وفقاً لما تذكره البيانات الصحافية للمتحدث العسكري، فإن تلك العناصر تستطيع التحرك والتخفي داخل مدينة العريش (عاصمة الإقليم) وخارجها، لتنفيذ عمليات مسلحة خاطفة، ما يؤدي إلى مقتل أفراد من قوات الجيش والشرطة والمدنيين. كما لم يمنع حظر التجوال المفروض بالمحافظة الساحلية وقوع العمليات الإرهابية المتكررة شكلاً ومضموناً. ورصدت «الشرق الأوسط» جهود السلطات المصرية في مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، بجانب تسليط الضوء على مراحل تطور التنظيمات الإرهابية، وطرق تخفيها، وتحركاتها بين القرى والمدن، بجانب تقييم تجربة حرب القبائل السيناوية على تلك التنظيمات المتطرفة، والتي بدأت قبل عامين.
كان شبه جزيرة سيناء، خالٍ تماماً من التنظيمات المتشددة قبل عام 2003، بينما بلغت تلك التنظيمات ذروة قوتها بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي من منصبه في 3 يوليو (تموز) عام 2013، حيث شهدت محافظة شمال سيناء مئات العمليات الدامية بعد هذا التاريخ، وتحولت المنطقة إلى بؤرة ساخنة مليئة بالأحداث.
وأخيراً قتلت العناصر الإرهابية 9 سائقين، بعد إحراق شاحناتهم، بسبب نقلهم مواد إسمنتية من مصنع الإسمنت التابع للقوات المسلحة، وهذا تطور خطير يعكس تمادي تلك التنظيمات في استهداف النشاط الاقتصادي والعمال والمدنيين بشمال سيناء.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة وقوع أكثر من 1165 عملية إرهابية، وفق دراسة حديثة قام بإعدادها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأفادت الدراسة بأن عام 2015، شهد ذروة هذه العمليات، ووقع به أكبر نسبة من عدد العمليات المسلحة، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى منه، فقد وقع في شهر يناير (كانون الثاني) 124 عملية إرهابية، ثم حدث انخفاض طفيف لتصل إلى 105 في شهر فبراير (شباط)، ثم بلغت ذروتها في مارس (آذار) بواقع 125 عملية، بينما انخفض عدد العمليات بشكل تدريجي، واستمر منحنى عدد عمليات العنف في التراجع خلال النصف الأول من عام 2016، ثم ارتفع معدل العمليات خلال الربع الأخير من العام نفسه، حيث بلغ عدد العمليات الإرهابية 104 عمليات.
ويسود محافظة شمال سيناء حالياً، هدوء نسبي وانخفاض ملحوظ في عدد العمليات الإرهابية مقارنةً بالسنوات الماضية، لكن الأجهزة الأمنية، وسكان الإقليم يستيقظون كل فترة على هجمات خاطفة ودامية، يسقط فيها عدد كبير من الجنود والضباط والمدنيين، كان أبرزها عملية السطو المسلح على فرع البنك الأهلي بوسط مدينة العريش، وقتل بعض أفراد الشرطة، وسرقة عدة ملايين من الجنيهات.
ثمة انتقادات وجّهها بعض خبراء الأمن المصريين، إلى الاستراتيجية الأمنية لمكافحة الإرهاب في سيناء، خصوصاً بعد تنفيذ عشرات العمليات بنفس الطريقة والتكتيك، دون الاستفادة من دروس العمليات السابقة والمتكررة. ورغم تعرض بعض الأكمنة الأمنية الثابتة لعشرات الهجمات مثل «حي المساعيد» و«كرم القواديس»، و«الريسة»، فإن استراتيجية التأمين لم تتغير حتى الآن، فضلاً عن استهداف الأكمنة المتحركة بنفس الطريقة، من خلال تفجير المعدات العسكرية الثقيلة بالعبوات الناسفة عن بُعد.
ومع أن معظم هذه الهجمات تعتمد على تنفيذ عمليات انتحارية بالسيارات المفخخة، بجانب زرع عبوات ناسفة وتفجيرها عن بُعد، فإن الإرهابيين يستهدفون عناصر الأمن المصرية في الأكمنة بالأسلحة الثقيلة، مثل «آر. بي. جي»، والقذائف الصاروخية، وحسب الخبراء الأمنيين والسياسيين، فإن تطوير آليات وتكتيكات المواجهة أصبح الخيار الوحيد الذي فرضه الواقع بجميع معطياته، للخروج من هذا المستنقع الذي كبّد شمال سيناء الكثير من الخسائر البشرية والمالية وحوّلها إلى محافظة طاردة للسكان يصعب العيش فيها.
قال العميد إيهاب يوسف، الخبير الأمني ورئيس جمعية صداقة الشرطة والشعب، لـ«الشرق الأوسط»: «في ضوء المعلومات المتاحة من الجهات الحكومية والبيانات الرسمية الصادرة عنها، نستطيع القول: إن أجهزة الأمن حققت نجاحات أمنية عدة، لكنها أقل من المتوقع والمستهدف خلال السنوات الأربع الأخيرة».
وأضاف يوسف قائلاً: «رغم مواجهة العناصر الإرهابية في شمال سيناء بمعدات عسكرية ثقيلة مثل الطائرات والدبابات والعربات المصفحة، فإن الرغبة أو القدرة على سد بعض الثغرات ليست كما يجب». واعتبر يوسف أن «تنفيذ عمليات إرهابية في جنوب سيناء عام 2006، في أثناء وجود (الدولة القوية)، مؤشر دقيق على وجود تنظيمات متشددة في المنطقة خلال السنوات العشرين الماضية، بعدما عادت للظهور بشكل قوى بعد جمعة الغضب عام 2011، لعدم نجاح الأجهزة الأمنية في القضاء عليها تماماً».
وأرجع الخبير الأمني تواصل العمليات الإرهابية في شمال سيناء حتى الآن، وقدرة العناصر المتشددة على التحرك وسط شوارع مدينة العريش بسهولة إلى «إلى فترة اختراق الحدود المصرية، شرقاً مع قطاع غزة، وغرباً مع ليبيا، حيث كانت تدفق الأسلحة من ليبيا عبر بحر الرمال العظيم، في الوقت الذي كانت تتسلل فيه بعض العناصر من قطاع غزة، واجتمعوا في شمال سيناء، مطمع تنظيم داعش الرئيسي في مصر».
وتابع يوسف: «وقائع وتفاصيل عملية البنك الأهلي، وسط مدينة العريش، تثبت أن العناصر الإرهابية في شمال سيناء على مستوى عالٍ من التدريب... خططوا ونفّذوا جيداً، لذلك يجب على الأجهزة الأمنية إعادة النظر في الخطة الموضوعة حالياً، ومراجعتها من أجل التصدي لتلك العناصر، وتنفيذ ضربات استباقية موجعة لهم».
وتسببت العمليات الإرهابية في تهجير عدد كبير من سكان منطقتي رفح المصرية والشيخ زويد، إلى مدينة العريش، بعد استهداف عدد كبير من المدنيين عمداً، وذبحهم في بيوتهم بادعاء التعاون مع القوات الأمنية، بجانب سقوط المدنيين خلال الاشتباكات، واختار السكان المهجّرون مدينة العريش، للإقامة بها بحثاً عن الأمان، وهو ما تحقق لعدة أشهر. لكن بانتقال الإرهابيين إلى العريش، والتمركز فيها أصبحت حياة المهجّرين مهددة مرة أخرى، حيث شهدت مناطق كثيرة بالمدينة وقوع عمليات كبيرة سقط على أثرها عدد كبير من شهداء الجيش والشرطة بجانب مدنيين، حيث تتعرض العمارات السكنية المجاورة للأكمنة الأمنية الثابتة والمتحركة لأضرار بالغة، جراء إطلاق الرصاص والقذائف من قبل العناصر المتشددة.
إبراهيم أحمد، 50 سنة، من مدينة الشيخ زويد، انتقل للعيش في حي المساعيد بمدينة العريش، بعد تردي الأوضاع الأمنية بمسقط رأسه، قبل 3 سنوات، حيث كانت تتمتع العريش بهدوء نسبي. يعلق إبراهيم على الحوادث الإرهابية داخل مدينة العريش قائلاً: «حادث اقتحام وسرقة فرع البنك الأهلي بالعريش استغرق 40 دقيقة فقط، قتلوا خلاله عدداً من أفراد الشرطة والمدنيين، وسرقوا خزينة البنك، وقدِم هؤلاء الإرهابيين إلى البنك في سيارات مدنية متنوعة، وزرعوا ألغاماً حول البنك، لمنع وصول دعم من قوات الشرطة».
وأضاف إبراهيم قائلاً: «عدد الإرهابيين كان يقترب من 30 إرهابياً، وبعد انتهاء سرقة البنك، سطوا على سيارات مواطنين عاديين، وركبوا فيها للتخفي في شوارع المدينة، وتركوها في شوارع مختلفة، ولاذوا بالفرار». وأكد إبراهيم أنهم يجيدون التخفي وسط المدنيين قبل وبعد تنفيذ العمليات، ويظهرون في الشوارع على أنهم أشخاص طبيعيون جداً، تصعب معرفتهم».
في نفس السياق لم يكتفِ تنظيم «بيت المقدس» بمواجهة قوات الجيش والشرطة، بطرق مفاجئة، وغير مباشرة، بل قام أيضاً باستهداف عشرات الأسر من الأقباط العزل بشمال سيناء. كما قام بتفجير عدد كبير من الكنائس بالقاهرة وطنطا والإسكندرية، وأجبر عشرات الأسر المسيحية على الهجرة من شمال سيناء، إلى مدينتي الإسماعيلية والقاهرة، عقب سلسلة من الاعتداءات، وعمليات القتل، والحرق، التي وُصفت بـ«البشعة والإجرامية»، أدت إلى مقتل أكثر من 10 مسيحيين، بينهم اثنان قُتلا حرقاً، والبعض الآخر قُتل ذبحاً بنفس طريقة «داعش» ليبيا وسوريا والعراق. ويعيش في شمال سيناء نحو 400 أسرة مسيحية، وفق تقديرات الكنيسة القبطية.
من جهته، قال الخبير الأمني خالد عكاشة: «إن سبب اختيار عناصر( داعش) شمال سيناء للتمركز به يرجع لبدايات عام 2003، بعد غزو العراق مباشرة، حيث تمددت التنظيمات الإرهابية في سيناء تماشياً مع تمددها في المنطقة، وقامت هذه التنظيمات بتفجيرات دهب وشرم الشيخ عام 2005، ولكن بعد ثورة يناير 2011 توسعت تلك التنظيمات، وساعدها في ذلك الدعم التقني واللوجيستي والفكري للتنظيمات السلفية المتاخمة لها في قطاع غزة، وانتشار تنظيمات أخرى رأت في شمال سيناء متسعاً وبيئة خصبة لها للتمدد مثل (جيش الإسلام، وجند الإسلام، ومجموعة ممتاز دغمش، ومجلس شورى المجاهدين)، وانتشرت فروع لتلك التنظيمات على أرض سيناء بعد وصول الإخوان للحكم، ولكن عقب عزل مرسي والإطاحة بالإخوان توحدت تلك التنظيمات تحت راية تنظيم أنصار بيت المقدس والذي بايع في النهاية (داعش) للحصول على الدعم المالي والعسكري للتنظيم».
وأضاف عكاشة في تصريحات صحافية قائلاً: «إن الطبيعة الديموغرافية لشمال سيناء سهّلت وجود وتمركز التنظيم بالمحافظة فهي مليئة بالسهول والوديان والدروب التي يسهل الاختفاء بها، كما أن أبناء سيناء المنضمين إلى التنظيم أكثر الناس إلماماً بها وبتفاصيلها وبطبيعتها، ويوفر هؤلاء حاضنة سكانية وملاذات آمنة وأغذية للعناصر الإرهابية».
وحسب خبراء الأمن والسياسيين فإن مواجهة الإرهاب تحتاج إلى مواجهة شاملة، وليست أمنية فقط، بجانب الاستعانة بوسائل حديثة، وليس بمعدات ثقيلة يسهل استهدافها، بجانب الحصول على معلومات استخباراتية مهمة، لضرب تلك التنظيمات بشكل استباقي.
أما من الداخل فقد شهدت التنظيمات الإرهابية عدداً من مراحل التطور والتغيير من حيث الاختلاف، والتماسك والتوحد والقوة والضعف، خلال السنوات الست الماضية، وفقاً لما قاله أحمد كامل البحيري، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذي أضاف لـ«الشرق الأوسط»: «اتسمت الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2013، بتنوع وتعدد التنظيمات في شمال سيناء، مثل (كتائب الفرقان، وأكناف بيت المقدس، وأنصار بيت المقدس، وجماعة التوحيد والجهاد، ومعتنقي فكر السلفية الجهادية)، وقامت تلك التنظيمات بتنفيذ عمليات مثل تفجير خط الغاز، ومذبحة رفح الأولى عام 2012، التي تبعها الهجوم على بوابة حدودية إسرائيلية. ووُصفت تلك الفترة بالفوضى الأمنية، بعد انهيار جهاز أمن الدولة المصري، والاعتماد في تأمين الجبهة الداخلية والخارجية على القوات المسلحة».
وأوضح البحيري أنه «في بداية عام 2012 تم الإعلان عن تشكيل تنظيمات (مجلس شورى المجاهدين)، و(التوحيد والجهاد)، و(أنصار بيت المقدس)، وتوحدت كل هذه التنظيمات في نهاية العام في تنظيم واحد قوي، هو تنظيم (أنصار بيت المقدس)، بعدما كانت 7 تنظيمات إرهابية على الأقل. واستطاع (بيت المقدس) استقطاب عدد من أهل سيناء، وقام بتنفيذ مذبحة رفح الثانية، التي سقط فيها 25 جندياً، بعدما وردت إليهم معلومات من بعض معاونيهم بمدينة العريش عن توجه الجنود إلى معسكرهم في رفح، وقيّدوهم، وأطلقوا عليهم الرصاص في الرأس على الطريق الدولي الساحلي».
ولفت إلى «أن نفس التنظيم قام بعمل مواءمة واتفاق مع جماعة الإخوان المسلمين، في أثناء توليها الحكم للإفراج عن جنود كانوا مخطوفين، ولم ينفّذ عمليات كبيرة خلال تلك الفترة، ووُصفت هذه المرحلة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية بمرحلة الهدوء».
المرحلة الثالثة للجماعات الإرهابية، اتسمت بالظهور القوي، وبدأت في أعقاب 30 يونيو (حزيران) 2013، بعد عزل محمد مرسي من منصبه، فقد أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس، عن مواجهة قوات الجيش والشرطة في سيناء وخارجها، واستطاع بالفعل تنفيذ تفجير مديريات أمن شمال سيناء، والقاهرة، والدقهلية، وحاول اغتيال وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، واستهدف عدداً كبيراً من مقرات الشرطة. ووُصفت هذه المرحلة بمرحلة (القوة والنفوذ)، أو بـ«ربيع الإرهابيين في مصر»، وفقاً لما قاله البحيري.
وتابع الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية حديثه عن تطور تلك التنظيمات في شمال سيناء قائلاً: «المرحلة الأخيرة من مراحل تطور التنظيمات الإرهابية في سيناء بدأت منذ أوائل عام 2014 واستمرت حتى الفترة الحالية، بعدما أعلن (بيت المقدس)، عن بيعة تنظيم داعش والولاء له. وعقب البيعة اتخذ تنظيم بيت المقدس أنماطاً وخصائص متنوعة في مواجهة قوات الأمن في شمال سيناء، حتى شهد انقساماً داخلياً ترتب عليه انسحاب هشام عشماوي (ضابط مصري سابق متهم بالإرهاب) لاختلافه مع قيادات التنظيم على بيعة (داعش)، وانتقل تماماً من سيناء إلى الصحراء الغربية وليبيا».
أما مرحلة «دعشنة» التنظيمات الإرهابية في شمال سيناء، فيقول عنها البحيري: «بعد انسحاب عشماوي من تنظيم بيت المقدس، اعتمد التنظيم على عناصر سيناوية وأجنبية في تنفيذ عملياته، وشكّلت نسبة الأجانب به نحو 20 في المائة فقط، كان أغلبهم من الفلسطينيين من قطاع غزة». مشيراً إلى أن «التنظيم كان يعتنق قبل عام 2014 فكر مواجهة العدو البعيد (إسرائيل)، لكن (داعش) يعتمد استراتيجية مواجهة العدو القريب (الجيش، والشرطة، والصوفيين، والأقباط). وقام بتنفيذ عمليات ذبح بشعة لمدنيين أقباط، ومسلمين بتهمة التعاون مع قوات الأمن، بعد تنفيذ محاكمات ميدانية لهم، مثل التي كانت تجري في سوريا والعراق».
ورأى مراقبون أن يوم 11 أغسطس (آب) 2013، كان فرصة تاريخية للتخلص من مئات الإرهابيين من تنظيم «بيت المقدس» دفعة واحدة، في أثناء تشييع جنازة 4 منهم، لقوا مصرعهم إثر قصف جوي، حيث كانوا يتحركون في الشوارع والطرقات بشكل استعراضي رافعين أعلام التنظيم السوداء.
بينما أكد خبراء أمن وجماعات إسلامية، أن ذروة قوة تنظيم «ولاية سيناء» التابع لـ«داعش» كانت في عام 2015، عندما حاول التنظيم السيطرة على منطقتي رفح والشيخ زويد، بنفس الطريقة التي كان يسيطر بها على مناطق الموصل، والرقة، في العراق وسوريا، من خلال تنفيذ أكثر من 15 هجوماً متزامناً على أكمنة القوات المسلحة، لكن بسالة القوات المسلحة حالت دون ذلك، وتم سحقهم بالطائرات، وبذلك فشل مشروعهم السياسي في إقامة دولة لهم في سيناء، ما دفعهم إلى الانتقال إلى الخطة الثانية، وهي الخطة الأمنية (تنفيذ عمليات إرهابية متكررة)، لاستنزاف قوات الجيش والشرطة، وبث الفوضى والخوف.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».