سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

استعار لغة اليمين المتطرف ففاز ليغدو أصغر قادة أوروبا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا
TT

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

سباستيان كورتز «الفتى المعجزة» حاكماً للنمسا

بوجهه الصبياني الحليق، وشعره اللامع المشدود إلى الخلف، وملامح وجهه المنحوتة، يبدو سباستيان كورتز أقرب إلى عارض أزياء وسيم منه إلى سياسي محنّك. ولكن خلف هذه الملاحم الناعمة، عزم حديدي أوصل هذا الشاب الفتِي إلى كرسي الحكم في النمسا، بعد أسابيع قليلة على احتفاله بميلاده الـ31، رحلته القصيرة لم تخل من الجدل والاتهامات بسرقة أفكار غيره، والسير في ركب «الشعبوية». ولكن الكل يجمع على امتلاكه ميزة يفتقدها كثيرون. ميزة أكسبته لقب «الفتى المعجزة» الذي أطلقته عليه الصحافة النمساوية.
نجح سباستيان كورتز بقيادة حزبه المحافظ الوسطي، حزب الشعب النمساوي، إلى الفوز بالانتخابات النيابية بعدما كان تحتل المركز الثاني في استطلاعات، خلال أقل من ثلاثة أشهر من تسلمه دفة القيادة. وفوزه، وإن لم يكن مطلقاً فإنه كاف لإيصاله لكرسي المستشارية ليغدو أصغر حاكم في أوروبا.
ولكن كيف تمكن هذا الشاب من إقناع ملايين الناخبين بمنحه كامل الثقة لقيادتهم؟ وكيف نجح في تقديم نفسه على أنه مختلف رغم تبوئه منصب وزير الخارجية طوال السنوات الأربع الماضية، ضمن حزب لم ينقطع عن المشاركة في الحكومات الائتلافية المتعاقبة منذ عام 1986؟

كورتز.. الوجه الجديد؟
تصفه الصحافية والمحللة السياسية النمساوية إيلا بيك بأنه «شديد الذكاء ومنظم جداً وبارع في التكتيكات». وتقول في اتصال مع «الشرق الأوسط» إنه لعب على نضارة شكله «لأنه كان يعلم أن الناخبين ملّوا الوجوه القديمة والساسة أنفسهم الذين يحكمونهم». ومع أنه كان جزءاً من الحكومات النمساوية منذ بضع سنوات فإنه نجح بتصوير نفسه على أنه مختلف.
خلال الأشهر القليلة التي فصلت بين تسلم كورتز قيادة الحزب والانتخابات، اتخذ خطوات شكلية حضرت لهذا الفوز. أدخل حزبه إلى عالم التواصل الاجتماعي مستهدفا شرائح جديدة أضافت 200 ألف منتسب خلال شهرين، وفق الحزب. وغيّر شعار الحزب ولونه من الأسود إلى الفيروزي. وصنع جناحاً جديداً من أتباعه الأوفياء بات يعرف بـ«جناح كورتز». ولكن الأهم، من ذلك كله، أنه بدأ يتحدث بلهجة مختلفة في قضايا اللاجئين والمسلمين.

اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون
كثيرون يعتبرون أن الإجابة القاطعة على التساؤل عن سبب فوزه قد تكون أبسط من التوقعات. إنها تتلخّص بكلمة واحدة: اللاجئون. كانت هذه... «الكلمة – المفتاح».
إيلا بيك تعتقد أن جنوح كورتز من مواقع يمين الوسط إلى أقصى اليمين هو سبب فوزه. وتضيف: «كان واضحاً أنه سيفوز منذ 3 أشهر عندما بدأ يتكلّم بنفس لهجة اليمين المتطرف حول اللاجئين، وهي لهجة للأسف يتجاوب معها الناخبون». وحقاً، مَن تابع حملته الانتخابية، يروي بأنه خلال التجمّعات التي أدارها، كان اللاجئون يُلامون على كل شيء وأي شيء تقريباً: غلاء الإيجارات؟ بسبب اللاجئين.
انخفاض مستوى التعليم؟ اللاجئون لا يتحدثون الألمانية.
تقليص الخدمات العامة؟ اللاجئون.. اللاجئون.. اللاجئون…
من طروحات كورتز إبان الحملة الانتخابية لمواجهة هذه «المشاكل»، كان الحد من المعونات المقدمة للاجئين ومن هم غير نمساويين بهدف دفعهم للعمل. وتغريم الرافضين منهم أو غير القادرين على الاندماج. ومنع ارتداء النقاب... وغيرها من السياسات المتطرفة التي لاقت ترحيباً حاراً من جمهوره المتطرف. وبتكراره لوم اللاجئين كان كورتز يضرب على الأوتار الحساسة لدى مواطنيه، خاصة أنهم ما زالوا ناقمين على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لسماحها بدخول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في صيف عام 2015، عبر دول البلقان باتجاه ألمانيا، مروراً بالنمسا بقي كثيرون منهم..

أصغر وزير الخارجية
والواقع أن كورتز من خلال توليه منصب وزير الخارجية دعم جهوداً أوروبية وداخلية أدت إلى إغلاق الحدود ووقف تدفق اللاجئين. ويذكر أن تولى هذا المنصب عام 2013 عندما كان عمره 27 سنة فقط، ويومذاك كان أصغر وزير خارجية في العالم. وكانت صوره إلى جانب جون كيري، وزير الخارجية الأميركي المخضرم والأشيب الشعر - آنذاك -، تلفت الأنظار وتضيء على صغر سنه. إلا أنه تمكن من استثمار لقاءاته المتكررة بكيري السبعيني، وبقادة آخرين بينهم الرئيس الإيراني حسن روحاني إبان استضافة فيينا المباحثات النووية، ليثبت نضجه أمام ناخبيه. ومقابل لعبه على عامل صغر سنه، فإنه لعب أيضا على خبرته التي اكتسبها من سنوات عمله في الحكومة. ودأب على تذكير ناخبيه بأن له الفضل في وقف تدفق اللاجئين بعد إغلاق الحدود بجهود قادها هو شخصياً.
طبعاً، الطبع قد يجادل، بأن السبب الرئيس لوقف تدفق اللاجئين كان الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي، عندما تعهدت بروكسل بتقديم مساعدات مالية لأنقرة مقابل منعها المهرّبين من نقل اللاجئين. ولكن لا فرق بالنسبة لكورتز. فهو روّج عمداً الزعم بأنه صاحب الفضل على أوروبا، وألمانيا تحديداً، بإعادة المارد إلى القمقم... الذين انتخبوه اقتنعوا بكلامه.
«استعارة» مفيدة
اللافت أن مواقف كورتز الشديدة التطرف تجاه اللاجئين بدرجة أولى، والمسلمين بدرجة ثانية، تعد غريبة بعض الشيء عن الحزب الذي يرأسه والأحزاب الوسطية بشكل عام، وإن كانت يمينية. وهذا لأنها بالفعل ليست أفكار حزب الشعب، بل تعود لـ«حزب الحرية» اليميني المتطرف الذي أسس على أنقاض النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أول زعمائه ضابطا في وحدات الـ«إس إس» التابعة للزعيم النازي أدولف هتلر.
إلا أن كورتز عبر «استعارة» أفكار النازيين نجح في تقليص حجم الدعم المرتقب لـ«حزب الحرية» واستمال بعض ناخبيه. وهكذا، حصل حزبه على 32 في المائة من أصوات الناخبين، وحل في الطليعة بعدما كانت استطلاعات الرأي جميعها تشير إلى تقدم «حزب الحرية».
على هذا الأساس، تعتبر المحللة النمساوية بيك أن استعارة أفكار اليمين المتطرف قد لا يكون بالسوء الظاهر، «لأنه في النهاية تمكن من احتواء حزب الحرية».
إلا أن نتائج الانتخابات أظهرت أيضاً أن شعبية الحزب المتطرف (حزب الحرية) بقيت مرتفعة نسبياً، إذ فاز بـ26 في المائة من الأصوات ليتعادل تقريبا مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليساري الوسطي الذي لطالما اعتبر أحد عمودي الحياة السياسية في النمسا.
وبات بذلك ينافس على صناعة الحكم.
ومن ثم، على الرغم من تطمينات كورتز بأن التقاء الحزبين على نقاط مشتركة فيما يتعلق باللاجئين والإسلام، لا يعني أنهما يتفقان على كل شيء، وأن ثمة خلافات عميقة ما زالت تبعدهما، هناك مخاوف حقيقية من أن يصبح «حزب الحرية» شريكاً في الائتلاف الحكومي.

خلاف الحزبين التقليديين
ما يساهم بذلك، الخلافات الناشبة بين حزب الشعب والحزب الاشتراكي الديمقراطي اللذين يحكمان معاً منذ عام 2005، والتي تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة. وبلغت الخلافات الذروة إبان الحملة الانتخابية التي شهدت الكشف عن مؤامرات سياسية مذهلة. وحسب التقارير، ضُبط الاشتراكيون الديمقراطيون وهم يحيكون مؤامرات ضد كورتز لتشويه صورته… ما ساهم بخسارتهم الكثير من الأصوات لصالح مَن كانوا يحاولون الإيقاع به.
لذا قد لا تكون علاقة الحزبين العريقين ودودة بشكل كاف للاستمرار بالحكم ضمن ائتلاف واحد، ما يعني أن المستفيد الأكبر والأوحد سيكون «حزب الحرية» المتطرف بزعامة هاينز كريستيان شتراخه.
وفي الحقيقة إذا اتفق كورتز مع شتراخه على تشكيل حكومة، فإنها لن تكون المرة الأولى التي يحكم حزباهما سويا. فهناك تجربة شبيهة عام 2000 استمرت لخمس سنوات رغم الغضب الأوروبي.. والعقوبات التي فرضها حينذاك الأوروبيون على النمسا بسبب وصول «حزب الحرية» للسلطة تحت قيادة زعيمه الراحل غيورغ هايدر الذي لم يكن يخفي إعجابه بالكثير من أفكار وأعمال هتلر.
لكن «الغضبة» الأوروبية آنذاك تجاه صعود حزب يميني شعبوي ووصوله إلى السلطة، تبدو شبه غائبة هذه المرة. ربما لأن مشاركة هذا الحزب في الحكومة لم تتأكد بعد، أو ربما لأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا بات ظاهرة مقبولة، أو على الأقل ظاهرة ما عاد من الممكن نكرانها بعد الآن. وهو ما تفسره إيلا بيك بقولها «نحن نعيش الآن في عالم مختلف... في الماضي كان وصول اليميني المتطرف إلى السلطة يعتبر شائبة، اليوم تغير الوضع».

صعود اليمين المتطرف
فعلاً تغير الوضع. ففي فرنسا حل حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف بقيادة مارين لوبان ثانياً في الانتخابات التي أجرت في مايو (أيار) الماضي. وتمكن هذا الحزب الذي صعد أيضا بسبب تهجمه على اللاجئين والمسلمين، من منافسة وتحييد أحزاب فرنسا التقليدية. وفي هولندا احتل «حزب الحرية» بزعامة خيرت فيلدرز المرتبة الثانية في الانتخابات التي أجرت في مارس (آذار) الماضي، علما بأن فيلدرز منع من دخول بريطانيا عام 2009 بسبب آرائه المتطرفة المجيّشة ضد الإسلام.
بالطبع الانتخابات الهولندية والفرنسية، جاءت بعد الصدمة الذي أثارها تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد حملة قادها «حزب استقلال المملكة المتحدة» اليميني المتطرف بزعامة نايجل فراج الذي نجح في إقناع البريطانيين بالخروج خلافا لإرادة الحزبين الرئيسيين (المحافظون والعمال) ورغم أن حزبه بالكاد ممثل في البرلمان.
ومع هذه الأحداث الثلاثة المتتالية، التي هزّت أوروبا بسبب صعود الأحزاب المتطرفة فيها هدأها قليلا فوز حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في الانتخابات التشريعية التي أجرت الشهر الماضي، فإن حتى هذه الانتخابات شهدت أيضا صعودا غير مسبوق لحزب «البديل لألمانيا» المتشدد في عدائه للأجانب والمسلمين، وإن لم يكن بالشكل الذي شهده صعود المتطرفين في فرنسا وهولندا.
وهكذا، فإن فوز كورتز في النمسا، ومعه المخاوف من دخول حزب شديد التطرف (الحرية) الحكم، من التطورات التي تهدد بإيقاظ مخاوف كانت قد سكنت. ولكن رغم هذه المخاوف، فإن عجز الاتحاد الأوروبي عن مواجهة حكومة فيكتور أوروبان المتطرفة في المجر - جارة النمسا -، يجعله يدرك بأنه لن يكون باستطاعته فعل الكثير أمام دخول «حزب الحرية» الحكومة النمساوية.

خيارات كورتز
في أي حال، أمام كورتز الآن خياران متاحان: الأول تشكيل الائتلاف نفسه الذي يحكم منذ عام 2005 عبر التحالف مع الاشتراكيين الديمقراطيين، بعد تخطي الخلافات الداخلية وإن كانت عميقة. والثاني التحالف مع متطرفي «حزب الحرية»، وهو السيناريو الذي يتوقعه كثيرون ويحذّرون من أن الحنكة السياسية للزعيم المتطرف شتراخه قد تحكم قبضة اليمين المتطرف تماماً على السلطة. وهنا يحذّر مراقبون من سعي «حزب الحرية» لانتزاع حقيبتي الداخلية والعدل - أو حتى الخارجية -، وهو ما سيؤدي إلى تبني النمسا مواقف أكثر تشددا وعدائية تجاه سياسات الهجرة بطبيعة الحال، والمسلمين، خاصة، لا سيما أن شتراخه دائما ما يتحدث عن ضرورة «وقف أسلمة النمسا» ويتعهد بمنع «جعل النمساويين أقلية في بلادهم».
أيضاً، يخشى المراقبون من أن يؤدي تحالف كورتز مع «حزب الحرية» إلى انتهاج سياسة أكثر تشدداً تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يعارضه اليمين المتطرف بشدة. ويقول هؤلاء أن كورتز، رغم تأييده وحدة الاتحاد الأوروبي، فإن تحالفه مع حزب يدعو للانفصال عنه سيكون له تأثير حتماً على سياسة الحكومة الائتلافية.

ماكرون أم أوروبان؟
كثيرون شبهوا كورتز بالزعيمين الشابين في فرنسا إيمانويل ماكرون (39 سنة) وفي كندا جاستين ترودو (45 سنة)... شكلا وحيوية على الأقل. إلا أن تحالفه مع اليمين المتطرف - إذا ما حصل - قد يجعل منه زعيما أقرب إلى فيكتور أوروبان رئيس المجر اليميني المتشدد، الذي يرفض استقبال أي لاجئ سوري متحديا توصيات بروكسل، وكذلك الرئيس البولندي أندري دودا. إذ إن هذين الزعيمين يحملان أفكارا معادية للاجئين المسلمين خاصة، ويشكلان فريقاً يمينياً متشدداً غالباً ما يضع نفسه في المواجهة مع الاتحاد الأوروبي.
أخيراً، قد يجد كورتز نفسه أيضا في مكان شبيه برئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، الذي عندما تعب من مواجهة المتشددين في حزبه، رضخ... وتعهد بإجراء استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي ما كان مجبراً على إجرائه ورغم معارضته الشخصية للخروج. ومن ثم، انتهى به الأمر إلى خسارة المعركة في مواجهة المتشددين واضطراره لمغادرة السلطة باكراً.

بطاقة شخصية
- سباستيان كورتز، هو الولد الوحيد لأبوين من الطبقة الوسطى، إذ إن والده مهندس ووالدته معلمة مدرسة.
- ولد يوم 27 أغسطس (آب) 1986 في العاصمة النمساوية فيينا، وما زال يعيش في حي ميدلينغ بالمدينة حيث نشأ.
- بعد إنهائه دراسته الثانوية عام 2004 أدى الخدمة العسكرية.
- عام 2011، بعد سنة من انتخابه عضواً في بلدية فيينا، أنهى سبع سنوات من الدراسة الجامعية في جامعة فيينا (حيث درس الحقوق) من دون أن يتخرّج، وتفرّغ للعمل السياسي.
- في أبريل (نيسان) تولى منصب أمين الاندماج في وزارة الداخلية.
- عام 2013 دخل البرلمان، حاصلاً على أكبر عدد من الأصوات الفردية المباشرة في المجلس كله. وفي نهاية العام نفسه تولّى منصب وزير الخارجية، وبات أصغر وزير خارجية في العالم.
- في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي قاد حزب الشعب للفوز بالانتخابات ليفوز بالمستشارية، ويغدو أصغر رئيس وزراء في أوروبا.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟