الرواية السورية في عامها الثمانين

مرت بمراحل تعتمد في تقسيمها على تواريخ أحداث سياسية كبيرة

الرواية السورية في عامها الثمانين
TT

الرواية السورية في عامها الثمانين

الرواية السورية في عامها الثمانين

نشأت الرواية السورية في مدينة حلب، هذه المدينة التي كانت آخر مدينة في طريق الحرير، والتي كان لها باع طويل في الأدب العربي؛ ففيها نبغ المتنبي، وأبو فراس الحمداني، في عهد سيف الدولة، وفي عصرنا الحديث باتت حلب عاصمة سوريا الاقتصادية المنفتحة على كل الطرق. فلا غرو أن تنشأ فيها أولى بذور فن الرواية، وفيها يبرز كتاب كثيرون في هذا الفن، ومنها سيخرج أدباء جدد يروون مأساتها في ظل حكم قام بتدميرها وارتكب مجازر بأهلها.
ثمانون حولاً مرت على مولد الرواية السورية الأولى في هذه المدينة -هذا َإذا وصفناها بالرواية- بكل ما تعنيه هذه الكلمة بالمعنى الأدبي، فرواية «نهم» للكاتب السوري شكيب الجابري (الذي كان أول سوري يتحصل على دكتوراه في علوم الفيزياء من سويسرا، وهو ابن مفتي حلب آنذاك) صدرت عام 1937، وجاءت متأخرة عن مثيلتها الأولى في العراق «جلال خالد» للكاتب العراقي محمود السيد، التي صدرت عام 1928، وبربع قرن تقريباً عن قرينتها «زينب» للكاتب المصري محمد حسين هيكل التي صدرت عام 1912، وإذا اعتبرنا أن رواية دون كيشوت لميغل دي سيرفانتس (1615) أول رواية في أوروبا الحديثة، تكون قد تأخرت رواية «نهم» عنها أكثر من ثلاثة قرون. لكن البعض يرى أن الرواية انطلقت من حلب مع فرانسيس المراش الذي أصدر روايته «غابة الحق» عام 1865 ثم أتبعها برواية «در الصدف في غرائب الصدف» عام 1872، حيث حاول الكاتب المتأثر بالثورة الفرنسية وبباريس التي زارها، إظهار افتتانه بالثقافة الأوروبية ورفضه واقع الجهل المتفشي في سوريا، لكنّ آخرين يرون أن هذين العملين لم يرتقيا إلى مستوى الرواية.
لكنّ السوريين ربما انفردوا بظاهرة لم تكن موجودة في بقاع عربية أخرى، بل حتى إنها ظاهرة دمشقية عريقة وهي الحكواتي -وكنت شخصياً أحضرها بحكم قرب منزل والدي من المسجد الأموي حيث كان مقهى «النوفرة» يقدم سهرات الحكواتي، الذي كان يسرد قصصاً مثيرة كقصص عنترة، والزير سالم، والظاهر بيبرس... ومعها يتفاعل الجمهور- غير أننا لا يمكن أن نقول إن ما كان يقدمه الحكواتي من قصص مثيرة قد شكّل وعياً أدبياً قاد إلى الوصول إلى الفن الروائي بالمعنى الأدبي للكلمة، بل كان عبارة عن سرد حدث تاريخي في قالب قصصي مثير مع شيء من المسرح. ولا ننسى هنا أن تاريخ صدور الرواية السورية الأولى تزامن مع الانتداب الفرنسي لسوريا وثورة القسام في فلسطين، وبالتالي كان هناك تأثير مباشر للجو السياسي العام الذي طبع تلك الفترة في فنون أدبية أخرى متقدمة كالشعر، والقصة القصيرة، أو فن المقالة، تزامن مع سلب لواء إسكندرون ليصبح تحت سيادة تركية، واندلاع الحرب العالمية الثانية التي جمدت الحركة الأدبية نوعاً ما.
منذ البدايات المتواضعة لنشأة الرواية السورية وحتى الآن، صدر في سوريا أكثر من سبعمائة رواية، وقد تصاعدت وتيرة الإصدارات في الفترة الأخيرة، وتنوعت أشكالها ومضامينها ومدارسها من الرواية التاريخية إلى الرواية الاجتماعية، والفلسفية، والبوليسية.
ورغم أن البعض قسم مسار الرواية السورية إلى عدة مراحل تعتمد في تقسيمها على تواريخ أحداث سياسية كبيرة كالنكبة والنكسة وحرب تشرين وتأثُّر الفن الروائي فيها، لكني أعتبر أن الرواية السورية مرت بمراحل ثلاثة أساسية:
> مرحلة ما قبل حكم عائلة الأسد (1937 - 1970).
> مرحلة حكم عائلة الأسد (2011 - 1970).
> مرحلة ما بعد الثورة (2011 - ...).
عبّرت عنها أجيال من الكتاب، متأثرين بالتراث تارة، وبتطور الفن الروائي الغربي تارة أخرى، ولكن بشكل أساسي بأيديولوجية السلطة، وممارساتها التسلطية والقمعية وسيطرتها على وسائل الإبداع من طباعة ونشر وتوزيع وإعلام، ونقابات، واتحادات، في عملية تدجين ودعاية للنظام القائم.
في المرحلة الأولى بقيت الرواية السورية مرتبطة بطابع الحنين إلى الماضي، أو الافتتان بالغرب، وموزعة بين أسلوب المقامات ولغة السجع، والوقوع تحت تأثير الروايات الغربية، والانطلاق من الحياة القروية، حيث إن القرية والوضع الاجتماعي والاقتصادي فيها والعادات الاجتماعية، والفقر، والمعاناة، والجهل، كلها موضوعات طُرحت باستمرار في الرواية السورية في تلك الفترة التي تعكس حال المجتمع الخارج لتوّه من مرحلة الاستعمار.
ومنذ بداية الخمسينات بدأت الحياة السياسية في سوريا تتأثر بشكل خاص بالقضية الفلسطينية بعد هزيمة الجيوش العربية في عام النكبة (عهد الانقلابات العسكرية والوحدة مع مصر)، فظهرت نصوص مثل «جيل القدر» و«ثائر محترف» لمطاع الصفدي، و«المهزومون» لهاني الراهب، و«في المنفى» لجورج سالم و«المغمورون» لعبد السلام العجيلي، و«مدارات الشرق» لنبيل سليمان. و«خمر شباب» لصباح محيي الدين، و«شخصيات تمر» لإدمون بصال، و«الظمأ والينبوع» لفاضل السباعي. وبرز كاتب جديد جاء من الطبقة المعدمة (شبيه بالكاتب المغربي محمد شكري صاحب الخبز الحافي من حيث المنشأ) ليملأ الساحة الأدبية السورية ويرتقي فيها إلى الروائي الأول دون منازع، وبالرواية السورية إلى مستويات تضاهي مستويات الرواية في مصر التي ارتقت إلى مستويات عالمية على أيدي نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ويوسف إدريس. إنه حنا مينه، الذي شكلت روايته «المصابيح الزرق» نقطة انعطاف مهمة من الرواية الرومانسية كـ«مكاتيب الغرام» لحسيب كيالي وسواه، إلى الاشتراكية الواقعية. وخلال نصف قرن من العمل الروائي بات حنا مينه من أغزر الكتاب إنتاجاً (ثلاثون رواية) وأيضاً أشهرهم على الإطلاق، وأكثرهم انتشاراً حتى على مستوى العالم العربي. وكانت موضوعات قسم من أعماله تدور حول البيئة الفقيرة التي عاش فيها كما في روايتيه «المستنقع» و«بقايا صور»، وكذلك حول عالم البحر حتى كُنِّي بأديب البحر، إذ خصص له مجموعة كبيرة من أعماله: «الشراع والعاصفة»، و«المرفأ البعيد»، و«الياطر». وهذه الأخيرة كانت من روائع الفن الروائي عند حنا مينه، الذي حقق عبر «الثلج يأتي من النافذة» و«الشمس في يوم غائم» شهرة كبيرة حتى أطلق عليه البعض مكسيم غوركي سوريا. وقد برز كتاب محدثون في هذه الفترة كوليد إخلاصي، في «شتاء البحر اليابس»، و«أحضان السيدة الجميلة»، وغادة السمان (أكبر وأغزر كاتبة سورية إنتاجاً من بين الكاتبات السوريات وهن كثر ككوليت خوري، وليلى بعلبكي، وسواهما)، في «كوابيس بيروت» و«ليلة المليار»، ونبيل سليمان في «هزائم مبكرة» و«ثلج الصيف»، وسليم بركات (كردي وأفضل من كتب باللغة العربية) في «هايدرا هوداهوس»، وخيري الذهبي في «صبوات ياسين».
ومع حركة الترجمة، والاطلاع على أعمال الغرب برزت أسماء جديدة تأثرت بتيارات الرواية العالمية، وبالمدارس الفكرية كالوجودية والقومية، مثل محمد راشد في «المحمومون»، و«غروب الآلهة»، وجورج سالم في «المنفى» وسواهما. في هذه الفترة من نظام حكم عائلة الأسد، أول جمهورية وراثية في العالم العربي، ظلت الرواية السورية مرتهنة إلى نفوذ أيديولوجي يساري وضيق على حساب الاجتهاد الفردي الحر في كتابةٍ منعتقةٍ من أي شروط بعد أن سُدت الطرق في وجه أي إبداع يعالج الواقع الحقيقي. فالمشكلة الأساسية في سوريا هي تسخير مجتمع بأكمله في خدمة نظام وعائلة حاكمة وليس العكس. ولكن رغم كل حالات التسلط الفكري، والرقابة، والمنع، استطاع بعض الكتاب تمرير أعمال تنبأت بالثورة وبحتمية سقوط نظام ثقافي بأكمله عبر سرود مجازية أو رمزية، كخالد خليفة في «مديح الكراهية»، و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، وممدوح عزام في «قصر المطر»، وفواز حداد في «السوريون الأعداء»، وروز ياسين في «نيجاتيف»، وحيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر»، و«القوقعة» لمصطفى خليفة التي تروي أولى تجارب أدب السجون، «وحمام زنوبيا» لكاتب المقال، و«بالخلاص يا شباب» لياسين الحاج صالح (باتت سوريا أكثر بلد منتج لأدب السجون ولا يمكننا في إطار مقال أن نورد جميع الأسماء والأعمال).
ثم جاء أدب ما بعد الثورة ليقلب النمط السائد رأساً على عقب، فظهرت أعمال كثيرة حدثية، كون الثورة ما زالت حدثاً ساخناً، وتحتاج إلى وقت من الانتظار والتروي لتبتعد عن الرواية التسجيلية أو الوثائقية. ومن وجهة نظرنا أن الرواية السورية المستقبلية ستكون رواية مهجر، كون النظام هجّر ملايين السوريين الذين انتشروا في أوروبا وتركيا، ومنهم سيبرز كتاب جدد بإبداع مبتكر بحكم احتكاكهم المباشر بالآداب الغربية، أما مع استمرارية النظام في الداخل فإن الأمور ستبقى على حالها إذا لم تكن أسوأ.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!