تكريم الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتسولو في مراكش

صاحب أقصوصة «الرجال اللقالق» ووصفات «طبيب الحشرات»

من تكريم خوان غويتسولو بمراكش
من تكريم خوان غويتسولو بمراكش
TT

تكريم الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتسولو في مراكش

من تكريم خوان غويتسولو بمراكش
من تكريم خوان غويتسولو بمراكش

شكل التكريم، الذي خصص، أول من أمس، بمراكش، للكاتب الإسباني خوان غويتسولو، فرصة لتأكيد أهمية المغرب في حياة وأعمال هذا الكاتب العالمي، واستحضار أعماله الأدبية ومواقفه الإنسانية، وإبراز العلاقة الحميمة التي ربطها مع مراكش بساحتها وناسها.
ولم يخف غويتسولو، يوماً، أن مراكش صارت جزءاً لا يتجزأ من حياته، بعد أن شكل انجذابه للمغرب ومعايشته اليومية لأمكنته وتنوعه الهائل انعطافة أساسية في حياته ومساره الأدبي، الشيء الذي ساعده على تجاوز الحدود القائمة بين الكتابة والتراث الشفوي، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس المشاعة في الساحات والحواري، كما مكنه من تشكيل رؤية جديدة للإبداع ودوره في بناء الجسور بين الثقافات.
وسبق لليونيسكو أن منحت الكاتب الإسباني شرف كتابة نص إعلان اعتبار ساحة جامع الفنا ضمن التراث الثقافي غير المادي للإنسانية، اعترافاً منها بجهوده في الدفاع عن حق الساحة في التحلي بكثير من الحس الجمالي عند كل محاولة لتوسيعها أو التغيير في ملامحها، هو الذي سبق له أن أهدى مخطوط «مقبرة»، إحدى أهم رواياته، للمدينة المغربية؛ وهي رواية استلهم عوالمها من فضاء جامع الفنا، بإيقاعاته وأصواته ومتخيلاته، ومن الحرية التعبيرية لكل ما يتحرك فيه، تقديراً رمزياً منه لما يشكله المغرب ومدينة مراكش خصوصاً في حياته وفي كتاباته، وتكريماً لروح المكان ولأهله.

حضور نوعي
نظراً للحضور النوعي، الذي تقدمه مسؤولون مغاربة وإسبان، بينهم محمد الأعرج، وزير الثقافة والاتصال المغربي، وريكاردو دييز هوشلايتنر رودريغيز، سفير إسبانيا لدى المغرب، وخوان مانويل بونيت، المدير العام لمعهد سيرفانتيس، ومحمد العربي بلقايد، رئيس المجلس الجماعي لمراكش، علاوة على عدد من المثقفين المغاربة والأجانب من أصدقاء الراحل، يمكن القول إن الحدث، الذي نظم بمبادرة من معهد سرفانتس بمراكش والسفارة الإسبانية بالمغرب، بمساهمة من وزارة الثقافة والاتصال المغربية وولاية جهة مراكش آسفي والمجلس الجماعي للمدينة، قد نجح، إلى حد كبير، في استعادة كثير من المميزات التي طبعت مسيرة الرجل، سواء فيما يتعلق بقيمته الأدبية أو مواقفه النبيلة أو علاقة العشق التي ربطها بمراكش، المدينة التي عشقها فأقام بها منذ 1975، قبل أن توافيه المنية بها، في 4 يونيه الماضي، عن سن ناهز 86 عاماً.
وفضلاً عن الجلسة الافتتاحية والندوة، اللتان احتضنهما فضاء قصر الباهية، والندوتين اللتين خصصتا لتحليل العمل الأدبي والنقدي للكاتب، بمعهد سرفانتس، والمعرض التشكيلي الذي افتتح بمشاركة عدد من الفنانين المغاربة، من أصدقاء ومحبي الكاتب الراحل، بينهم محمد مرابطي، ماحي بنبين، حسان بورقية وأحمد بن إسماعيل، وذلك بالبناية القديمة لبنك المغرب بساحة جامع الفنا، شكلت «حلقة» الحكواتي محمد باريز، لحظة متعة، أعادت الكاتب الراحل إلى عوالم جامع الفنا، استعاد فيها باريز علاقة هذا الكاتب الإسباني بالساحة المغربية، والطريقة التي استثمر بها هذا العشق في كتاباته وعلاقاته.

قصة زهرة اليهودية
تحدث باريز عن علاقة العشق التي ربطها عدد من الكتاب العالميين مع ساحة جامع الفنا، مشيراً، على الخصوص، إلى خورخي لويس بورخيس، الذي زار مراكش في 1970 و1985، وكان مفتوناً بحركيتها، يستمتع بحكايات «ألف ليلة وليلة»، يرويها بعض الرواة والناس متحلقون حوله ينصتون باهتمام شديد؛ وإدموند عمران المالح، من خلال قصة زهرة اليهودية؛ وخوان غويتسولو، الذي حين حل بمراكش، أول مرة، وجدها ساحرة وهواءها صحياً، فيما ساحة الشهيرة عامرة بفنون القول، لا تتوقف الحياة فيها على مدار ساعات الليل والنهار.
قال باريز إن غويتسولو كان معجباً بعدد من رموز الفكاهة والحكي بالساحة، مشيراً بالاسم إلى محمد الشرقاوي (الملقب بـ«مول لحمام») وعبد السلام الصاروخ، قبل أن يستدرك، قائلاً: «كلما رغب خوان في الضحك، كان يقصد عبد السلام الصاروخ أو طبيب الحشرات».
تحدث باريز عن عدد من كتابات غويتسولو التي توسل فيها عوالم الساحة المغربية، قبل أن يربط ذكراه بـ«دار بلارج» وأقصوصة «الراجل اللقالق» وسوزان بيدرمان، المهندسة السويسرية التي جاءت إلى مراكش في بداية تسعينات القرن الماضي، برفقة زوجها المهندس ماكس إليوت، لتجد نفسها مفتونة ومأخوذة بسحر المدينة الحمراء، بألوانها وأسواقها، حيث شعرت بانجذاب غريب نحو مراكش، من خلال عيون أطفالها المشعة بالحاجة إلى شيء ما، لذلك فكرت في أن تقوم بعمل ما لصالح المدينة وأطفالها، فسعت، في بداية الأمر، إلى إنشاء دار للأيتام، ولما التقت سفيراً ألمانياً سابقاً في المغرب، استقر، بدوره، بمراكش، بعد انتهاء مهامه الدبلوماسية، اقترح عليها التفكير في الاستثمار في الفن والثقافة، بعد أن بين لها أن هناك عطشاً فنياً وثقافياً بالمدينة. وبعد أن أرشدها غويتسولو إلى «دار بلارج»، ستقتني سوزان بيدرمان البناية، قبل أن تقوم بترميمها وإصلاحها.
توسع باريز في الحديث عن مضامين أقصوصة «الرجال اللقالق»، التي ينطلق فيها غويتسولو من «حكاية مغربية عتيقة تروي أن الفلاحين البربر كانوا يعتبرون اللقالق كائنات بشرية تتلبس مؤقتاً شكلها كطيور بغية السفر والتعرف على مناطق أخرى، فإذا عادت إلى بلدانها استعادت شكلها الأول».
وفي مقدمة وضعها غويتسولو لهذه الأقصوصة، نقرأ أنه، ما بين 1803 و1804، «عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان محمد بن عبد الله، وكان رجلا فقيها يهوى الموسيقى والشعر، إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (لعله «دار بلارج» الحالية) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة. ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد «الفنادق». لقد أعيد بناء الملجأ القديم، بعد خرابه، في ثلاثينات القرن الماضي، حسب قواعد المعمار التقليدي في مراكش، ... وفيما بين 1950 و1985 تم استعمال المبنى كمدرسة، ثم ترك مجدداً يواجه مصيره، بعد ذلك التاريخ. عندما زرت المكان، في أواسط التسعينات، وجدت أن الحمام قد احتله، كما ألفيت ساحته الجميلة مغطاة بجثامين طيور قضت نحبها، وبالريش والفضلات. واقتنت السيدة سوزان بيدرمان، في سنة 1998، ملجأ اللقالق القديم لإحداث مؤسسة لرعاية الثقافة بالمغرب تحمل اسم «دار بلارج».

حدود زجاجية
يصنف غويتسولو، الذي ولد في برشلونة، في 5 يناير (كانون الثاني) 1931، بحسب عدد من المهتمين، من بين أهم الكتاب الإسبان المعاصرين، عرف بمساهماته الكثيرة في التعريف بالعالم العربي والإسلامي، سواء من خلال كتاباته ومقالاته الأدبية أو عبر البرامج التلفزيونية والإذاعية، كما يعتبر من القليلين في العالم الذين التزموا بخط واضح في الإبداع الأدبي، مع الحرص على الانتصار لحقوق الشعوب.
وخلال مسيرته الأدبية، عرف غويتسولو بغزارة إنتاجه الأدبي وتنوعه، حيث كتب المقالة التحليلية والرواية والتحقيقات والمذكرات، كما ساعده عمله بدار النشر الفرنسية في الانتشار بين الأوساط الثقافية فأصبح أكثر الإسبان تأثيراً في الخارج، كما حصل على عدد من أرفع الجوائز العالمية، آخرها جائزة «سرفانتس»، في 2014، هو الذي رفض، في 2009، «جائزة معمر القذافي الدولية للآداب»، التي كانت قيمتها تناهز 150 ألف دولار، «لأسباب سياسية وأخلاقية».



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل أمس، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.