كان من المفترض أن تكون مجرد مغامرة بالدراجات النارية عبر القارة الأفريقية تلك التي بدأها جون غوستفسون، المهندس البالغ من العمر آنذاك 36 عاما. فقد انطلق بصحبة صديقيه لمشاهدة القارة على الطبيعة بعد أن قرر ألا «يكتفي بالقراءة عنها في الكتب»، وفق ما صرح به غوستفسون مؤخرا. كانت حوادث الطرق أكثر ما يقلقه، لكن ما حدث له كان أكثر من ذلك بكثير. فقد وصل غوستفسون إلى مدينة تمبكتو، مالي، وما إن وصل إلى الفندق حتى قامت مجموعة مسلحة باختطافه تحت تهديد السلاح ووضعه هو واثنين آخرين من السياح في مؤخرة شاحنة كبيرة، وكان هناك سائح رابع ألماني الجنسية قاوم المختطفين وتلقى إثر ذلك بضع رصاصات أردته قتيلا في مكانه.
كان ذلك في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، وكان هذا التاريخ بداية لمحنة غوستفسون التي دامت ست سنوات بعد أن احتجزه ما يعرف بتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، فرع «القاعدة» في المغرب العربي، في الصحراء الكبرى للمساومة عليه مقابل فدية إلى أن جرى تحريره العام الجاري.
وفي 26 يونيو (حزيران)، عاد غوستفسون (42 عاما حاليا) إلى السويد ليصبح ثاني ثلاثة يجرى تحريرهم. وكانت القوات الخاصة الفرنسية تمكنت من إنقاذ مختطف هولندي يدعى سجيم ريجك في أبريل (نيسان) 2015، فيما أطلق التنظيم الإرهابي سراح الجنوب أفريقي ستسيفن ماغون في أغسطس (آب) من نفس العام.
وبعد شهرين من تحريره من قبضة خاطفيه في الصحراء الكبرى، قام غوستفسون بعرض تجربته لأول مره بمتحف بمدينة ستوكهولم. قضي غوستفسون وباقي المختطفين شهور الرعب الأولى في الصحراء معصوبي الأعين ومكبلين ونقلوا من مكان لآخر مرات كثيرة، وكان كان كابوس الإعدام ينتابهم في كل مرة. وفي أحد المقاطع المصورة الكثيرة التي أجبروا على الظهور فيها، كان عليهم ارتداء بدلات «غوانتانامو» البرتقالية التي تشبه تلك التي يرتديها معتقلو السجن العسكري الأميركي الشهير في كوبا والظهور أمام الكاميرات لاستجداء خاطفيهم للإبقاء على حياتهم. وقال غوستفسون: «حاولت أن أوضح لهم أنني سويدي وأننا كشعب نرى أن غوانتانامو مكان بشع وأنه يؤدي إلى نتائج عكسية».
وعندما حاول سؤال خاطفيه عن دوافعهم، كانت الإجابات دائما مقتضبة وغالبا ما اكتفوا بالإشارة إلى أشياء مثل غزو العراق والحرب في أفغانستان والرسوم الكاريكاتيرية التي تسخر من النبي محمد والتي أثارت موجة احتجاجات واسعة عقب نشر صحيفة دنمركية لها عام 2005.
وبعد مرور أربعة أشهر في الأسر، اتخذ المختطفون قرارا استراتيجيا باعتناق الإسلام، وبحسب غوستفسون: «كان الغرض إنقاذ حياتنا». كان التحول إلى الإسلام سببا لإنهاء عزلتهم وفك قيودهم، ولم يجبروا بعدها على الظهور في المقاطع المصورة لاستجداء خاطفيهم للإبقاء على حياتهم. وأشار غوستفسون إلى أنه أبلغ خاطفيه بأن حكومة بلاده لن تدفع مقابل إطلاق سراحه، وأن ذلك ساعد «في تغيير وضعه»، وعندما أطلق سراحه، صرحت وزارة خارجية بلاده بأن ذلك جاء نتيجة لجهود دبلوماسية استمرت لسنوات، وأن ذلك لم يتم مقابل فدية. بيد أن ماغنوس رانتسبورت، الخبير الأمني وخبير مكافحة الإرهاب بكلية الدفاع السويدية، أفاد بأنه من غير المرجح ألا يكون قد جرت عملية مقايضة. وأضاف أن «الشيء الوحيد المؤكد حدوثه هو أنه لم يجر إطلاق سراح أي مختطف من دون سداد فدية. فهو (تنظيم القاعدة) ليس منظمة خيرية». وكشف مسؤول استخباراتي أوروبي طلب عدم الكشف عن اسمه أن مبلغ 3.5 مليون يورو (ما يعادل 4.2 مليون دولار) قد سدد من خلال وساطة قامت بها منظمة «غيفت أوف ذا غيفرز» الجنوب أفريقية الخيرية لإطلاق سراح ماك غاون. ورغم تعهد الولايات المتحدة وبريطانيا بالالتزام بسياسة عدم سداد فدية لإطلاق سراح مواطنيها، فإن دولا مثل فرنسا وألمانيا كلفت مندوبيها بحمل حقائب معبئة بالمال والسير بها في الصحراء في صورة مساعدات إنسانية.
من وجهة نظره ومن داخل معسكراتهم، أفاد غوستفسون بأن مختطفيه لديهم مصادر تمويل، مشيرا إلى أنه «يجرى تمويلهم بسخاء هذه الأيام»، وأنهم لم يكونوا بهذا الثراء، لكن مصادر تمويلهم باتت أكبر حاليا، «وليس من الصعب أن تخمن أن مصدر تلك الأموال هي الحكومات الأوروبية». فقد كشفت إحصائية أعدتها صحيفة «نيويورك تايمز» أن إجمالي أموال الفدية التي تحصل عليها منتسبي تنظيم القاعدة بلغت 125 مليون دولار على الأقل منذ عام 2008.
خرج فرع تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» إلى الوجود منذ أكثر من عقد بسبب مبالغ الفدية الباهظة التي تلقتها بدءا من عام 2003 عندما اختطف التنظيم 32 سائحا أوروبيا أطلق سراحهم عقب سداد حكوماتهم لنحو 5 ملايين يورو (6 ملايين دولار). وعقب اعتناقهم الإسلام، أدى المختطفون الصلاة وسمح لهم بتناول الطعام والجلوس مع مختطفيهم. في الحقيقة، لم تكن هناك حاجة إلى جدران للسجن لأن الصحراء الكبرى تمتد مئات الأميال في كل اتجاه. وخلال السنوات الخمس التالية، جرى نقل المختطفين مئات المرات، وعاشوا في الخلاء في ظل رقابة نحو عشرة حراس وصبية دائمي الحركة.
أشار غوستفسون إلى أن «الحياة في الصحراء كانت مزيجا من عقوبة السجن وحياة روبنسون كروسو. كنا مجموعة من الشباب عالقين وسط الرمال، نعيش وسط أشياء تشبه بعضها البعض كل يوم: رمال وعواصف وأعطال السيارة. إن شح الماء لدينا، فكلنا نعاني من نفس المشكلة».
وبين أوقات الصلاة، كان غوستفسون يشغل نفسه بالتمارين الرياضية وتعلم لغات خاطفيه، وهي خليط من اللغات المحلية، والعربية والفرنسية.
شهدت مالي التي كانت مستعمرة فرنسية في السابق عقودا من التوتر بين الجنوب، حيث تركز الاقتصاد والنفوذ السياسي، وبين الشمال حيث تعيش الأقليات. وفي بداية عام 2012، اجتاحت جماعة انفصالية شمالية تدعى «توريغ» البلاد سعيا لتأسيس دولة جديدة، وفي نفس العام انقلب الجيش على الرئيس وقام بعزله بسبب طريقه تعامله مع التمرد. ونتيجة لذلك، خضع الشمال لسيطرة المتمردين، فيما استغل تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» فراغ السلطة ونما حجمه واستولى على مدينة تومبوكتو لفترة.
في يناير (كانون الثاني) عام 2013، تحركت القوات الفرنسية شمالا، وشوهدت الطائرات المقاتلة في الجو، وهرب الخاطفون لدى مشاهدتهم لأول طائرة استطلاع. وشاهد غوستفسون الطائرات التي تحوم منه فوقه كفرصة ذهبية للهرب، وبالفعل انطلق عدوا في الصحراء ظنا أن خاطفيه لن يجرءوا على ملاحقته. لكن بعدما سار في الصحراء لليلتين نجح الخاطفون في اقتفاء أثره، وبحسب غوستفسون: «اعتقدت أنني هربت إلى موتي».
ورغم إطلاق سراحه في يونيو (حزيران) 2013، لم يتوقف غوستفسون عن النطق بكلمة «بسم الله» قبل كل وجبة سوى مؤخرا. لكن هناك عادات أخرى مرتبطة بحياة الصحراء استمرت تلازمه وربما تحتاج إلى المزيد من الوقت لكي يتوقف عنها مثل تغطيه وجهه أثناء النوم، «لتحاشى الرمال المتناثرة» والخوف من وضع يديه أسفل الوسادة خشية أن تكون العقارب قد اتخذت من الأرض تحتها وكرا.
واستطرد غوستفسون: «بالطبع هذه الحياة تغيرك كثيرا، وأحاول أن أعود إلى ما كنت عليه»، لكن عند سؤاله عما إذا كان سيقبل العودة إلى الصحراء حال سنحت له الفرصة مجددا، أجاب بأنه سيفعل لو أن الصحراء كانت آمنة. أضاف: «لن أفتقد خاطفي، لكنني سأفتقد الصحراء الشاسعة، والسماء في الليل»، مضيفا: «عندما تعيش هناك ستعلم كل شيء عن البيئة، عن اختلاف اتجاه الريح في كل فصل من فصول العام. ما أروع تلك الحياة».
* «نيويورك تايمز»
رهينة سابق يروي مأساة ست سنوات لدى «القاعدة» في الصحراء الكبرى
ارتدى بدلة «غوانتانامو» البرتقالية وظهر أمام الكاميرات لاستجداء الخاطفين للإبقاء على حياته
رهينة سابق يروي مأساة ست سنوات لدى «القاعدة» في الصحراء الكبرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة