أنا وأبو الفهد سارق الكتب

رحلتي مع الكتاب

أسامة العيسة
أسامة العيسة
TT

أنا وأبو الفهد سارق الكتب

أسامة العيسة
أسامة العيسة

في مخيم الدهيشة، واسطة عقد المثلث المقدس: القدس، بيت لحم، الخليل، وعيت في بيت والدين أميين، أنهكهما طول اللجوء، على ضرب الحجارة على جيش الاحتلال والقراءة. وتبادل الكتب سرا، وكأنها مناشير. قائمة الكتب الممنوعة في ظل الحكم العسكري الاحتلالي، لم تكن تناسب احتلالا لطالما وصف نفسه بالاحتلال «الليبرالي»، وتشمل كل الكتب تقريبا التي تصدر في الدول العربية. وسط الحصار الثقافي، عثرت على كنوز صغيرة، ولكنها هامة في مكتبة مدرسة الدهيشة الإعدادية، منها مثلا أرشيف لمجلة «الأفق الجديد» لصاحبها أمين شنار، التي صدرت في القدس قبل احتلال 1967. لم يكن لجيلي نافذة سوى صحافة الحزب الشيوعي الإسرائيلي «الاتحاد»، و«الجديد»، و«الغد»، التي يمكن تهريبها من القدس، ولكن عليك تحمل العواقب. في هذه الفترة شدتني أعمال إميل حبيبي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وجنيكز إيتماتوف، وجون شتاينبك، وهمنغواي، ورسول حمزاتوف، وغيرهم. في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ظهر شخص شديد العنف، يهودي من كردستان العراق، في منصب مستشار حاكم بيت لحم العسكري، وأطلق على نفسه اسما كرديا (أبو الفهد)، على الأغلب رأى أنه يناسب الدور المكلف به. يجيد العربية، كواحد من أبنائها، وكان يضطلع بدور قامع المظاهرات البشع. وضع أبو الفهد، لسبب ما، مطاردة الكتب في بيوتنا هدفا له، مما ضيق حلقة الحصار الثقافي علينا، وعلمنا أنه يتمتع بقراءة كتبنا، وبعضنا رد على ذلك الحصار بحيلة، وهي زيارة مكتبة الجامعة العبرية بالقدس، التي كانت توفر لطلابها جميع المنشورات الفلسطينية بما فيها مجلات فصائل المقاومة في بيروت، ويمكن تصور متعة الواحد منا وهو يقلب بأمان صفحات مجلات مثل «الحرية»، أو «فلسطين الثورة»، أو «الهدف»، بعيدا عن صفعات أبو الفهد الخشنة. في عام 1984 خيم أمام مخيمنا الحاخام ليفنغر، مطالبا سلطات الاحتلال باتخاذ إجراءات رادعة لمنع أولاد المخيم من رشق سيارات المستوطنين، وتم فرض حظر تجوال طويل على المخيم. وفي يوم، وأنا في غرفتي محبوسا مثل باقي أهالي المخيم، دخل الأديب الإسرائيلي سامي ميخائيل ومعه مصور، وقال لي بأنه جاء ليكتب عن معاناة السكان. وباغتني بسؤال: الكاتب تكون لديه على الأقل مكتبة، أين مكتبتك؟ أجبته، بأنني أخبئ كتبي تحت الأرض، لأن كل اقتحام من قبل الجيش يؤدي ليس فقط إلى مصادرتها، ولكن أيضا إلى ضرب، وأحيانا المحاكمة بتهمة حيازة مواد ممنوعة، ورويت له كيف داهم أبو الفهد، أخيرا المنزل، وصادر كتاب «عرس بغل» للطاهر وطار، واستدعاني للتحقيق، من دون أن يعلم أن أحداثها تدور في ماخور، وليس لها علاقة بشيء اسمه فلسطين، وبقيت مرميا من الصباح حتى المساء أمام مكتبه في مقر الحاكم العسكري الذي كون فيه مكتبة لا بأس بها من كتبنا المصادرة، وفي نهاية كل يوم يخرج أبو الفهد من دون كلمة ليسألني: الكتاب لك؟ فأقول له نعم، فيطلب مني أن أعود في الغد، وهكذا توالى اعتقالي النهاري. ضحك سامي ميخائيل، وقال: أنتم تخبئون الكتب تحت الأرض، ونحن نخبئ الدولارات تحت الأرض، ترى لمن سيكون المستقبل؟ في تلك الفترة، شاع أن كثيرا من الإسرائيليين يخبئون الدولارات بعيدا عن البنوك للتحايل على قوانين نظمت التعامل مع العملة الصعبة. آخر مرة شوهد فيها أبو الفهد، بعد تقاعده، وهو يبيع الخضار على بسطة في سوق محني يهودا الشعبي في القدس الغربية، يمضي وقته في مجادلة العجائز اليهوديات. يبدو أن القراءة لم تفده، بعكسي، فهي أنقذتني من أن لا أكون أي شيء سوى نفسي، ونفسي فقط. * كاتب من فلسطين، من أعماله: «المسكوبية» و«قبلة بيت لحم الأخيرة» و«مجانين بيت لحم» و«امرأة العشق المقبل»



أحصنة برونزية من شبه جزيرة عُمان

حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
TT

أحصنة برونزية من شبه جزيرة عُمان

حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان

يحوي مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة من اللقى البرونزية الصغيرة الحجم، تشكّل في الواقع جزءاً من أوانٍ أثرية جنائزية خرجت من مقابر أنشئت بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الميلادي الأول. تتميّز بعض هذه القطع بطابعها التصويري، وتبدو أشبه بمنحوتات منمنمة، وأشهرها قطعة على شكل رأس حصان، تتبنّى تقليداً فنياً شاع في مناطق متفرقة من شبه جزيرة عُمان، كما تشهد مجموعة من القطع الفنية تماثل في تكوينها هذا الحصان.

كشفت أعمال المسح المستمرة منذ بضعة عقود عن مجموعة من المناطق الأثرية في إمارة الشارقة، منها مليحة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشرق. بدأ استكشاف هذه المنطقة في 1986، وتبيّن سريعاً أنها تمثّل مدينة احتلت مركزاً تجارياً مهماً في شمال شرقي الجزيرة العربية، خلال الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. تحتضن هذه المدينة المندثرة عدداً من المواقع الأثرية، منها سلسلة من المدافن خرجت منها مجموعات متنوّعة من اللقى، بينها مجموعة من القطع البرونزية تمثّل أواني متعدّدة، استعادت بريقها بعد أن خضعت لعملية ترميم دقيقة نقّتها من الأكسدة التي طغت عليها مع مرور الزمن.

وصل بعض من هذه الأواني بشكل كامل، ووصل البعض الآخر بشكل مجتزأ. في هذا الإطار، تبرز قطعة منمنمة على شكل رأس حصان يبلغ طولها 4 سنتيمترات، تُعرض اليوم في مركز مليحة للآثار الذي خُصّص للتعريف بميراث هذه المدينة المندثرة. بدت هذه القطعة عند اكتشافها أشبه بقطعة حديدية غشاها الصدأ، وتظهر التقارير الخاصة بترميمها كيف استعادت تدريجياً معالمها الأصلية، فظهرت أدق تفاصيلها، وتحوّلت إلى قطعة تشابه في بريقها القطع الفضية. تتميّز هذه القطعة الصغيرة بطابع نحتي تصويري يعكس حرفة فنية عالية، وتجسّد رأس حصان، مع الجزء الأمامي من بدنه المتمثل بالعنق الطويل والصدر والقائمتين الأماميتين. وتبرز في مقدمة الصدر البارز فوهة كبيرة على شكل رأس أنبوب.

يرفع هذا الحصان قائمتيه إلى الأمام ويثنيهما، وتظهر في الكتلة المجسّمة مفاصل كل قائمة، وهي ساعد الساق، ومفصل الركبة، ثم مفصل الرسغ. وتبدو كل القائمة على شكل مساحة ناتئة تمتد في وسط الصدر، وتنثني عند حدود الفوهة التي تخرق مقدّمة هذا الصدر. العنق طويل ومصقول، وتزينّه 3 خطوط بيضاوية تستقرّ عند أعلى الحنجرة. في أسلوب مواز، تحضر الناصية، وهي الشعر الذي يعلو الجبهة، وتشكل قمة الشريط الذي يحد حافة العنق العليا. وتعلو هذا الشريط شبكة من الخطوط تمثّل خصل الشعر. الأذنان طويلتان ومنتصبتان. الخدان واسعان ومستديران. الأنف طويل القصبة، ومتصل بالجبهة، مع منخرين مستديرين حُدّدا بنقش غائر بسيط. الفم بارز، مع شدقين كبيرين يفصل بينهما شق عريض.

يشكّل هذا الحصان في الواقع مصبّاً لإناء من الحجم الصغير، يحضر في نسخة أُعيد تكوينها بشكل مطابق للأصل. ويمثّل هذا الإناء طرازاً عُرف كما يبدو بشكل واسع في نواحٍ متفرّقة من شبه جزيرة عُمان، كما تؤكّد مجموعة من الشواهد الأثرية تمّ اكتشافها في العقود الأخيرة. عُثر على هذه الشواهد في مقابر أثرية متفرّقة تتوزع اليوم على مواقع تتبع مناطق مختلفة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان، ممّا يؤكّد أنها أوان جنائزية، شكّلت جزءاً من الأثاث الخاص بهذه المقابر التي أنشئت في شبه جزيرة عُمان، واتبعت تقليداً جامعاً. على سبيل المثل، نقع على إناء من هذا الطراز مصدره قبر من موقع الدُّور الذي يتبع اليوم إمارة أم القيوين. وصل هذا الإناء بشكل كامل، وظهرت معالمه الأصلية بعد أن تمّ ترميمه وتنقيته، ويبدو حصانه مشابهاً لحصان مليحة، مع بروز طابع التحوير فيه بشكل خاص في تجسيم ملامحه العضوية، كما في شبكة الخطوط الزخرفية التي تزين أعلى ساقه.

في المقابل، نقع على قطع مشابهة مصدرها مقابر في سلطنة عُمان، أشهرها قطعة خرجت من مقبرة تقع في سمد الشأن، في ولاية المضيبي التابعة لمحافظة شمال الشرقية، وقطعة أخرى خرجت من مقبرة في ولاية سمائل التابعة للمحافظة الداخلية. تشكّل هاتان القطعتان نموذجين من هذه النماذج التي تتبع قالباً واحداً جامعاً، وتتشابه بشكل كبير، مع اختلاف في بعض التفاصيل. في شتاء 1919، أعلنت العالمة أليسندار أفزيني، رئيسة البعثة الإيطالية لجامعة بيزا، اكتشافات جديدة في متنزه حصن سلّوت الأثري الذي يقع في سهل وادي سيفم، بالقرب من ملتقى وادي بهلاء، ويتبع محافظة الداخلية. في هذا الموقع، تمّ التنقيب في سلسلة من القبور الأثرية حوت مجموعة من اللقى الأثرية «ارتبطت بمظاهر الترف والبذخ كأواني الشرب البرونزية، أهمّها إناء ذو مصب على شكل حصان». ظهر هذا الإناء في صور توثيقية تكشف عن حالته قبل الترميم وبعده، وبرزت معالم الحصان الذي يشكّل مصباً له بشكل جلي، وبدا أن هذا الحصان يتميّز بملامحه التي يطغى عليها طابع الاختزال والتحوير الهندسي.

تتواصل هذه الاكتشافات اليوم بالتزامن مع استمرار أعمال المسح والتنقيب في سائر نواحي شمال شرقي الجزيرة العربية. في خريف 2023، أعلنت دائرة الثقافة والسياحة في أبو ظبي اكتشاف مقبرة أثناء تطوير الطرق والبنية التحتية في شعبية الكويتات في وسط المدينة، شرق متحف منطقة العين. حوت هذه المقبرة نحو 20 قبراً فردياً، كشفت التنقيبات فيها عن عدد من القطع الخزفية، والأوعية البرونزية، والأواني الزجاجية والمرمرية. وسط هذه الأوعية البرونزية، يظهر إناء ذو مصب على شكل حصان، يماثل في تكوينه إناء موقع الدُّور في إمارة أم القيوين.

مثل سائر القطع المشابهة التي ظهرت من قبل، تأكسد إناء الكويتات مع مرور الزمن، وغشته طبقة من الصدأ، ومن المنتظر أن يستعيد ملامحه بعد أن يخضع لعملية ترميم دقيقة تزيل عنه هذه الطبقة الصدئة، وتُبرز معالم الحصان الرابض عند طرفه.

عاجل «إف.بي.آي» يحبط خطة إيرانية لاستئجار قاتل لاغتيال ترمب (أسوشييتد برس)