الشارقة عاصمة عالمية للكتاب 2019

بعد اختيارها عاصمة للثقافة العربية والإسلامية

شعار معرض الشارقة الدولي للكتاب 2017
شعار معرض الشارقة الدولي للكتاب 2017
TT

الشارقة عاصمة عالمية للكتاب 2019

شعار معرض الشارقة الدولي للكتاب 2017
شعار معرض الشارقة الدولي للكتاب 2017

«المعرفة خيار إنساني يتجاوز الفنون والآداب، ليكون مساحة من الحوار الأساسي بين العالم العربي بكل ما يكتنزه من تاريخ وتنوع ثقافي، وما يقابله من ثقافات العالم، سواءً الغربية منها، أو الشرقية».. بهذه الكلمات عبّرت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، مؤسس ورئيس جمعية الناشرين الإماراتيين، عن سعادتها باختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب لعام 2019. من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، تقديراً لدورها البارز في دعم الكتاب وتعزيز ثقافة القراءة، وإرساء المعرفة كخيار في حوار الحضارات الإنسانية.
هذا الحوار بين مختلف الثقافات التي تشكل النسيج الإنساني ظل دائماً صفة لازمة لإمارة الشارقة، التي ظلت فعالياتها السنوية، وفي مقدمتها معرض الشارقة الدولي للكتاب، من بين أكثر الأحداث حضوراً وتفاعلاً من قبل النخب الثقافية في المنطقة والعالم، بفضل ذلك الاهتمام المباشر بالثقافة، بجميع مجالاتها وأنواعها، من قبل حاكم الإمارة، الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الحاكم المثقف، المهتم بتاريخ بتراث وحضارة العالمين العربي والإسلامي.
لذلك لم يكن اختيار «اليونيسكو» للشارقة غريباً، لتكون أول مدينة خليجية تنال لقب العاصمة العالمية للكتاب، والثالثة في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، بعد الإسكندرية عام 2002 وبيروت عام 2009، فلطالما كان هدف المنظمة الدولية المتمثل في تعزيز التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات وثقافة السلام، حاضراً ضمن أجندة الشارقة، فهي تؤمن بأن الكتاب يسهم في تعزيز الحوار الإنساني بين مختلف الشعوب، ومد جسور التواصل الحضاري والتبادل الثقافي لنشر قيم المحبة والسلام.
لذلك قررت اللجنة المكلّفة باختيار «العاصمة العالمية الأقدر على جمع سكانها وزوارها على حب الكتاب، والاحتفاء بما يحمله من أفكار حرة»، في أعقاب اجتماعها بمقر الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات في لاهاي بهولندا، أن تمنح الشارقة هذا اللقب لعام 2019 اعترافاً بالجهود الكبيرة التي تقوم بها الإمارة في مجال نشر ثقافة القراءة على المستوى العربي والدولي، حيث رصدت اللجنة حجم العمل الثقافي الذي تقوم به الإمارة للنهوض بالكتاب ونشر القراءة وتكريس حضورهما لدى جميع أفراد المجتمع من الجنسيات كافة.
الشارقة التي فازت سابقاً بلقبين ثقافيين مهمين، هما عاصمة الثقافة العربية لعام 1998، وعاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2014، تضم اليوم عدداً كبيراً من المؤسسات والجمعيات والهيئات الفاعلة على مستوى النهوض بالمعرفة، ودعم صناعة الكتاب، كما تطلق مؤسسات الإمارة الكثير من الجوائز التقديرية الأدبية والثقافية على المستوى المحلي والعربي والدولي، وهذه الجهات والجوائز تشكل مع بعضها البعض حالة عربية مشهود له، بإسهاماتها الفاعلة في تشجيع الحوار من خلال الكلمة المقروءة.
وبالعودة إلى معرض الشارقة الدولي للكتاب، فقد ظل هذا المعرض منذ انطلاقته في عام 1982، حدثاً سنوياً يفتح أبواب الحرية الفكرية المجردة من كل قيود، إذ يُسجل للمعرض على مدى دوراته الـ35 الماضية، أنه لم يمنع أي كتاب، فهو - وفقاً لأحمد العامري، رئيس هيئة الشارقة للكتاب المشرفة عليه - يحارب «الفكر الظلامي بالفكر المستنير»، مبرراً ذلك بأن «أفضل وسيلة لمحاربة الكتب التي قد تحتوي على أفكار هدامة أو ظلامية هو أن لا تمنعها، لأن المنع يدفع الناس للتهافت عليها والبحث عنها».
لذلك حرصت هذه «الإمارة الباسمة»، كما تعرف على المستوى الشعبي لحفاوتها في استقبال زوارها، على جعل الكتاب محوراً للحياة فيها، فنظمت المعارض والمهرجانات، ونفذت المشاريع والمبادرات، التي تعزز جميعها من فعل القراءة وتزيد من انتشاره بين جميع فئات المجتمع، بل خصصت للصغار حدثاً تحت اسم «مهرجان الشارقة القرائي للطفل»، ينظم سنوياً أكثر من 2000 فعالية، ويستقطب ما يتجاوز الـ300 ألف زائر، ويتيح للصغار، بطرق تفاعلية ومبتكرة، التعرف على الحكايات والقصص المشتركة في الثقافات الأخرى.
أما «ثقافة بلا حدود»، فهي مبادرة أخرى غير مسبوقة عربياً انطلقت من الشارقة، وتمثلت بتوزيع 42 ألف مكتبة مجانية على الأسر الإماراتية، ضمت كل واحدة منها 50 كتاباً جزء منها مترجم عن لغات أخرى، ليتجاوز إجمالي ما وزعته هذه المبادرة في غضون أعوام قليلة 2.1 مليون كتاب. فيما حصلت خمسة آلاف سيدة من أولئك اللاتي ينتظرن مولودهن الأول، على مجموعة متنوعة تناسب الصغار في أشهرهم وأعوامهم الأولى، ضمن مبادرة «كتاب الأول» الرامية إلى غرس عادة القراءة لدى الأطفال وربطهم بالكتاب منذ الولادة.
وإذا كان الكتاب بحاجة إلى «وسيط» لتمكينه من تحقيق هدفه في تعزيز الحوار بين مختلف الثقافات، أطلقت الإمارة في عام 2011 صندوق منحة معرض الشارقة الدولي للكتاب للترجمة والحقوق، بقيمة إجمالية تقدر بنحو 300 ألف دولار أميركي سنوياً، ويقدم هذا الصندوق منحاً مالية للناشرين حول العالم لمساعدتهم على ترجمة أبرز إصداراتهم إلى لغات أخرى، وتتراوح قيمة المنحة الواحدة بين 1500 - 4000 دولار أميركي تغطي تكلفة ترجمة الكتاب، كلياً أو جزئياً. وقد أسهم هذه الصندوق في ترجمة مئات الكتب التي أثرت الثقافة العالمية.
إلى جانب ذلك، ومع عدد لا حصر له من المشاريع والمبادرات والجوائز التي تطلقها، تستعد الإمارة لافتتاح المرحلة الأولى من مدينة الشارقة للنشر - الأولى من نوعها في العالم، التي ستكون وجهة لجميع العاملين في صناعة الكتاب، تأليفاً وتحريراً وتدقيقاً وترجمة وإخراجاً ونشراً وتوزيعاً، إضافة إلى جائزة اتصالات لكتاب الطفل - أكبر جائزة لأدب الأطفال في العالم، والتي يشرف عليها المجلس الإماراتي لكتب اليافعين، مستهدفاً منها تكريم مؤلفي ورسامي وناشرين كتب الأطفال واليافعين في العالم العربي.
هذا الحراك الفاعل على الساحة الثقافية والمعرفية، يبشر بأن احتفالات «الشارقة العاصمة العالمية للكتاب» التي ستنطلق في 23 أبريل (نيسان) 2019، بالتزامن مع اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف، وستتواصل على مدار عام كامل، ستكون حدثاً بارزاً لكل من يرغب في اكتشاف متعة القراءة، والاستمتاع بالعالم الكبير والواسع للكتب وما يحيط بها، سعياً من الشارقة، إلى التأسيس لأجيال من القراء، والمؤلفين، والناشرين، الذين سيسهمون في إرساء دعائم سلام يحتاجه العرب قبل غيرهم.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!