نجاة... بصوتها كالضوء المسموع قادرة على تبديد الوحشة والنشاز

في هدوء يليق بها أطفأت الشمعة الـ79

نجاة الصغيرة
نجاة الصغيرة
TT

نجاة... بصوتها كالضوء المسموع قادرة على تبديد الوحشة والنشاز

نجاة الصغيرة
نجاة الصغيرة

هل كانت هناك تورتة وأصدقاء وشموع واحتفالية خاصة؟ أظن أنّ الأمر لم يصل أبداً لهذه الدرجة، أحد أهم الملامح التي ترتبط بالفنانة الكبيرة نجاة هي العزلة. تفضل نجاة أن يظل عالمها كإنسانة بعيداً تماماً عن العيون، فلا أحد من الممكن أن يراها، وهي غير مطروحة أبداً إعلامياً، وهكذا أتخيل عيد الميلاد لم يتجاوز عدداً قليلاً جداً من المكالمات التليفونية، وحفلاً لو حقاً أقامته، لا يزيد عدد مدعويه على أصابع اليد الواحدة.
تقطن نجاة قبل قرابة نصف قرن في حي الزمالك بالقاهرة، المكان الذي كان يفضله في الماضي مشاهير أهل الفن، قبل أن يتغير الحال ويهاجر أغلبهم بعيداً عن العاصمة بزحامها للسكن في المدن الجديدة حيث الهدوء. نجاة لا تبرح منزلها إلا قليلاً، ولكن هل يراها مثلاً البواب أو الجيران؟ تبذل نجاة من الجهد الكثير حتى تظل محتفظة بخصوصيتها ولا يراها أحد حتى ولو صدفة.
تعيش نجاة في دائرة محدودة جداً من الأفراد، وصيفة في البيت ومحامي تلجأ إليه لو استشعرت أنّ هناك ما يستحق، ولكنّها تُغلق تماماً باب التواصل مع الإعلام، بل أحياناً ترتدي زياً مغربياً عندما تضطر لمغادرة بيتها وكأنّها لا تريد أن يتعرف عليها أحد في الشارع. صنعت نجاة جزيرة من الصمت ولا تسمح لأحد أن يخترقها إلّا نادراً ولفترة زمنية محدودة جداً، وهي حتى في سنوات نشاطها الفني التي بدأت مع مطلع الخمسينات لم تكن تفتح الباب للإعلام، رصيدها من الأحاديث المكتوبة والمسموعة والمرئية قليل جداً، ممّا يؤدي بالفعل إلى قدر من الحيرة أمام أي باحث يريد توثيق معلومة ما، وهكذا كثيراً ما تتضارب المعلومات بشأن موقف ما أقدمت عليه نجاة. فقد حاول عدد من عشاقها قبل بضع سنوات إقامة جمعية تحمل اسم «محبي نجاة»، ولكنّها لم ترحب، فاضطرت الجمعية لإعلان توقف نشاطها.
تكتفي نجاة بأن يعبر فنها عنها، حتى أنّها عندما اعتزلت عام 2002، حرصت أيضاً على أن يحدث ذلك بهدوء، ولم يتجاوز الأمر نشر خبر، سمحت نجاة فقط للكاتبة والصحافية وصديقتها الأقرب وربما الوحيدة سناء البيسي بإعلانه في مقال لها على صفحات جريدة «الأهرام». والغريب أن البيسي مثل نجاة تماماً، في علاقتها بالإعلام فهي لا توجد خارج نطاق صفحتها في الأهرام، فلا أحاديث تلفزيونية أو صحافية ولا صوراً ولا لقاءات أو مهرجانات، وربما لهذا السبب أصبحتا صديقتين، وللعلم فقط فإن البيسي كاتبة قصص «هي وهو» المسلسل الوحيد الذي لعبت بطولته سعاد حسني.
تضاءل بل ندر وجود نجاة في الحياة العامة، إلا أنها عندما ذهبت قبل نحو 10 سنوات إلى (دبي) لتكريمها بجائزة (الإنجاز) عن مشوارها، حرصت على ألّا يزيد الأمر عن حضور التكريم واعتذرت عن إقامة مؤتمر صحافي، حتى الحفل الذي قدمه الإعلامي الكبير حمدي قنديل لم يزد ما قاله عنها كلمة واحدة «أقدم لكم نجاة»، وذلك بناء على طلبها.
إلّا أنّها عادت للغناء في مطلع هذا العام بأغنية «كل الكلام» لتعلن عملياً أنّها لا تزال تمارس هوايتها الأولى والوحيدة، عثرت نجاة على الكلمات بين أوراقها، فالشاعر عبد الرحمن الأبنودي، قد ترك لها أكثر من أغنية لم تُنفّذ، الأغنية تلحين الموسيقار السعودي طلال.
وهي كما ترى أغنية الأطراف الثلاثة الرئيسية فيها مبتعدين عن الأضواء، الأبنودي بحكم الرحيل وطلال لأنه يفضل البقاء بعيداً عن الإعلام، ونجاة التي كانت إطلالاتها الإعلامية قليلة جداً، وعندما اختارت الابتعاد صارت عاشقة أكثر للصمت، ولهذا تركت الأغنية تتولى الإجابة عنها.

- لماذا عادت نجاة؟
البعض قرر أن يحيل السؤال إلى كم تقاضت نجاة ثمناً للعودة وليس لماذا عادت؟ ولن أفعل مثلهم، ولكنّني سأجيب عن السؤال الأهم؟ ببساطة عادت لأن لديها حقيقة ما تضيفه لنا، بالفعل لا يزال صوتها يحمل لنا الكثير من الومضات التي تعرف الطريق إلى قلوبنا، وأضيف أنّ الفنان الذي يختار الابتعاد ويترك كل ما وراءه من الإغراءات المادية، لا يمكن أن يعود من أجل حفنة من الأموال.
البعض ينتظر أن تتوقف عجلة الزمن بالفنان عند لحظة الابتعاد، وعندما يغيب يعود من دون أن تترك السنوات أي بصمة سواء على الصوت أو الصورة، فهو يريد أن يستمع إلى نجاة التي غنّت في الخمسينات «ليه خلتني أحبك»، وينسى أنّ بينهما أكثر من 60 سنة، عادت نجاة بصوت منحه الزمن عمقاً وألقاً.
فلا تنسَ أنّها في هدوء يليق بها وتجاهل لا يليق بنا، أطفأت الشمعة رقم 79 لتبدأ قبل ساعات، رحلتها إلى نهايات العقد الثامن من العمر، وبالطبع الزمن يترك بصمته على الأحبال الصوتية، يجب أن نضع أمامنا الكثير من المؤشرات أن الفنان الذي يبتعد عن الأضواء كل هذه السنوات، لن يجازف بتاريخه من أجل فقط الوجود على الخريطة، ولكن لأنه يريد إضافة شيء، نجاة هي المطربة العربية الثانية في جيلها التي لا تزال في الميدان بعد فيروز، وكالعادة بمجرد تصوير الأغنية ملأت الفضائيات ثم فجأة اختفت وكأنّها قد أنهت كل الكلام بينما الناس لا تزال تنتظر.
نجاة مثل فيروز تختفي تماماً عن الإعلام، ولكن ثمة اختلافات جوهرية، لفيروز ابنتها ريما التي تتولى بين الحين إصدار رسالة إعلامية توضح شيئاً أو تتحدث عن موقف أو أحياناً تصحّح معلومة، بينما نجاة لا صلة لها أبداً بهذا العالم، هي تختفي بلا سبب معروف وعندما تعود تلجأ أيضاً للهمس، حالياً لا أحد يعرف بالضبط ما الذي تنويه فهل في الجعبة شيء غنائي قادم؟ كان من المعروف أنّها بعد «كل الكلام» ستواصل الغناء، ولم تكن فقط تلك هي أغنيتها الوحيدة، إلا أن الأسئلة تظل أسئلة ولا أحد يملك اليقين.
كان الموزع يحيى الموجى ابن الموسيقار محمد الموجي، حلقة الوصل مع الإعلام بعد أن سمحت له نجاة بذلك، فهو من بشّر بعودتها وقد كان مسؤولاً عن توزيع الأغنية موسيقياً وسافر عدة مرات إلى أثينا لأنّها قرّرت أن تبتعد عن العيون تماماً أثناء البروفات.
سألت يحيى عن جديد نجاة فقال لي إنّه حالياً غير مصرح له بالحديث، سألته لماذا لم تعد الفضائيات تعرض «كل الكلام» هل بناء على طلب من نجاة؟ أجابني أنّه ليس قرار نجاة، وهناك اتفاقات مالية هي التي تتحكم بالمنظومة برمتها وهو لا يعرف لماذا لا تعرض الأغنية، ولكن المؤكد أن نجاة ليست هي المسؤولة.
أعدت سماع الأغنية على «اليوتيوب»، وأنا أكتب هذا المقال ليزداد يقيني أنّ الزمن لم ينل أبداً من صوتها، ولا تزال قادرة على أن تجد لها مساحة في القلوب. نجاة التي وصفوها بالمعجزة والطفلة الصغيرة لأنّها غنت قصائد لأم كلثوم وهي لم تبلغ بعد السابعة من العمر، تخيلوا طفلة تردد قصيدة أبي فراس الحمداني «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر» التي غنتها أم كلثوم وتبهر الجميع.
أغلب المراجع تقول إن لقب الصغيرة أضيف لاسمها بسبب وجود مطربة أخرى اسمها نجاة علي، وتحسباً لأي تشابه أو اختلاط في الاسم صار وصف صغيرة لصيقاً بها، إلا أنك تكتشف أنّها حظيت باللقب بعيداً عن هذا التشابه، لأنّها كانت طفلة صغيرة في العمر وأيضاً في الجسم فصارت الصغيرة «اسماً على مسمّى».
عندما صورت «كل الكلام» اشترطت على المخرج هاني لاشين، أن يستعين بمشاهد من أفلامها القديمة أو صوراً فوتوغرافية لها، وبالفعل وقع اختياره على فيلم «ابنتي العزيزة»، بل أخذ مشاهد كما هي من أغنية قديمة لها رددتها في نفس الفيلم «ليلة من الليالي فاتونا»، وهو من وجهة نظري خطأ فني، كانت نجاة تفكر في البداية في الاستعانة بمخرج آخر وبالفعل التقى بها كما روى لي وطلب منّي ألّا أذكر اسمه. حاول المخرج أن يقنعها بمواجهة الكاميرا في لقطات وبعد ذلك في المونتاج النهائي سيتولى هو وضع اللمسة الأخيرة، ولكنّ نجاة لم تتحمس على الرغم من أنه أكد لي أنّ وجه نجاة لا يزال يتمتع بالجاذبية والكاريزما، ولكنّها بحثت عن المخرج الذي يحقق لها أفكارها ويبعدها عن التصوير، فكانت النتيجة ليست في صالح الأغنية، بينما فيروز التي تكبر نجاة بثلاث سنوات، لا تخفي وجهها، وتتيح للجمهور بأن يراها على «اليوتيوب» كما تسمح للكاميرا بالاقتراب منها. وهذا هو الفارق الهام عندما يقترب من الفنان فكر آخر مثل زياد وريما العاصي، من المؤكد أنّهما يضيفان لفيروز بينما نجاة من الواضح أنّها لا تسمح لأحد بالرأي سوى فقط لنجاة.
نجاة التي وصف الشاعر والصحافي الكبير كامل الشناوي صوتها بأنّه كالضوء المسموع، فلقد تعلمت أصول الغناء قبل أن تتعلم قواعد النطق، عندما علموها المشي، كانوا يقصدون أن تخطو من عتبة البيت إلى عتبة خشبة المسرح، الأطفال في عمرها يحذرونهم من تجاوز سور الشرفة، لكنّهم كانوا يحذرونها من تجاوز حدود المقام الموسيقي، سنوات عمرها الزمني هي نفسها سنوات غنائها... فهي تتنفس أكسجين الحياة المعطر بالسيكا والصبا والبياتي والنهاوند!!
نجاة كل لحظة ونغمة وغنوة وأنت طيبة، ودائماً الضوء المسموع كان ولا يزال قادراً على أن يبدد من الدنيا الوحشة والظلمة والنشاز.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».