في إناء من الماس على طبق من ذهب جاءت إلى كرد العراق فرصة تاريخية نادرة، بل فريدة، انبثقت من قلب فاجعة الهجرة المليونية نحو الحدود مع تركيا وإيران مطلع عام 1991، فراراً من قمع وحشي مرتقَب، وهلعاً من تهديد السلاح الكيماوي الذي أُبِيد به في يوم واحد نحو أربعة آلاف كردي من سكان حلبجة (1988). في تلك الأيام زحف الكرد على دروب الجلجلة في الوديان العميقة والسفوح الوعرة، ولم يكن للبعض منهم الوقت الكافي لدفن موتاهم من الأطفال والشيوخ في طقس عاصف شديد البرودة.
كأنّما الرسالة لم تصل، فلم يتحقّق مبتغاها. بل كأنما لم تكن ثمة رسالة في الأساس، كيما تصل إلى المرسل إليه. والمرسل إليه هو الطبقة السياسية المتنفّذة في العراق، المستغرقة في محاولاتها المتكررة لتشكيل حكومة جديدة بعد مرور نحو خمسة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية، التي كان يمكن في غضون شهر واحد بعدها، أو حتى أقل، الانتهاء من تأليف الحكومة.
يستشكل على البعض كيف أن العراق، بعد خمس عشرة سنة من الخلاص من نظام صدام حسين، لم ينجح في أن يكون بلداً مستقرّاً ينعم سكانه بثرواته الطائلة حال نظرائه من الدول النفطية. هنا محاولة لحلّ الاستشكال.
في لحظة انهيار أكبر تمثال لصدام، في ساحة الفردوس وسط بغداد في 9 أبريل (نيسان) 2003، ظنّ الكثير من العراقيين، المقيمين في البلاد أو الفارّين منها هرباً من القمع والحروب المتتالية وسوء الأحوال المعيشية، أن ساعة النحس العراقية الطويلة قد ولّت لتبدأ ساعة السعد.
بعدما بُحّ صوته، مثل عشرات الآلاف من سكان محافظة البصرة العراقية، من دون أن يتلقّى ردّاً إيجابياً من الحكومتين المحلية والاتحادية، ابتكر الناشط المدني البصري هاشم أحمد، المنخرط في أكبر وأطول حركة احتجاجية في المحافظة، طريقة جديدة للاحتجاج لم يسبقه إليها أحد.
على الضفة الغربية لنهر شط العرب ينتصب منذ سنين تمثال برونزي لشاعر البصرة والعراق الأشهر، بدر شاكر السياب أحد روّاد القصيدة الحرّة في الشعر العربي.
لا يحدث شيء كهذا إلا في بلد لا تتمتّع دولته بتمام سيادتها ولا سلطات الدولة بكامل صلاحياتها. الشيء المقصود هنا هو أن يتدخّل شخص من رعايا دولة أجنبية، مقيم في هذا البلد، وليست له أي صفة رسمية، في شأن داخلي لهذا البلد ودولته. العراق «الجديد» المنبثق بعد إسقاط نظام صدام حسين في 2003 أنموذج حي وصارخ.
في مدينة النجف العراقية، التي يفضّل رجال دين شيعة من بلدان مختلفة العيش فيها، بوصفها مقرّ المرجعية العليا للطائفة الشيعية، يقيم رجل دين إيراني هو آية الله مجتبى خامنئي الذي لا صلة دم بينه وبين المرشد الإيراني علي خامنئي، لكنه ممثله في النجف منذ العام 2015.
يتعجب كثير من الناس كيف أن ثاني أكبر دولة منتجة للنفط في «أوبك»، بعد السعودية، والرابعة دولياً لا تستطيع تأمين كفايتها من الكهرباء، بل تعاني من نقص فادح، حيث لا تستطيع الشبكة الوطنية تأمين توزيع الكهرباء لأكثر من ثماني ساعات في اليوم، وبخاصة في صيف العراق اللاهب؟!
ويتضاعف هذا العجب لأنّ سكان هذه الدولة، وهم العراقيون، يعانون في الوقت عينه من شحّ شديد في مياه السقي والشرب في الصيف أيضاً، مع أن في بلادهم نهرين عظيمين بروافد عدة، هما دجلة والفرات اللذان يُعزى إليهما الفضل في نشوء وتطور ثلاث من أعظم الحضارات في تاريخ البشرية: السومرية والبابلية والعباسية.
بخلاف غيرهم، العراقيون ليسوا على أي درجة م
لم يقرّر أحد مسبقاً أن يقدح شرارة انتفاضة جديدة في العراق، ولم يخترْ أحد موعداً لاشتعالها، لكنّ انتفاضة الصيف الحالي التي اندلعت من تلقاء نفسها جاءت في توقيت مناسب للغاية، بل مثالي جداً.
في مرّات سابقة كان الصيف موعداً لحركات احتجاجية عدة، أكبرها تلك التي اندلعت في نهاية يوليو (تموز) 2015، واستمرت عدة أيام، ثم تواصل إحياؤها أسبوعياً، كل يوم جمعة، في العاصمة بغداد ومدن أخرى في الوسط والجنوب، وبلغت ذروتها باجتياح الآلاف من المتظاهرين مقرّي مجلس النواب ورئيس الحكومة، والاعتصام أياماً عدّة عند مداخل المنطقة الخضراء، وهي منطقة معزولة في قلب بغداد ومحصّنة بحصن مكين.
ما كان العراقيون، أو أغلبيتهم في الأقل، ينتظرون إعلاناً من المفوضية الجديدة (المؤقتة) للانتخابات في العراق، ليدركوا أو يتأكدوا أن التزوير في نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12 مايو (أيار) الماضي حقيقة واقعة. هذه الحقيقة يعرفها الكثير من العراقيين قبل أن تتوصل إليها المفوضية الجديدة التي شكّلها هذه المرّة مجلس القضاء الأعلى من تسعة قضاة تنفيذاً لقرار من البرلمان المنتهية ولايته، الذي شكّل المفوضية الموقوف عملها الآن، ورفضَ كلّ المطالب بأن يدخل القضاة في قوامها لضمان نزاهة عملها...