الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

التعصب إشكالية حاضنة يولد من رحمها العنف

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
TT

الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)

من جديد يستهدف الإرهاب والإرهابيون بعض المواقع والمواضع في أوروبا، وهذا ما رأيناه الأسبوع الماضي في فرنسا، وزعم «داعش» أنه كان وراء إصابة ستة جنود فرنسيين في حادثة «دهس» بإحدى الضواحي الباريسية... عطفاً على ذلك انطلق حوار واسع حول علاقة الإرهاب والتطرف بالأمراض النفسية والعقلية، وفي ألمانيا تحديداً بدا وكأن هناك جدلاً كبيراً يسود الأجواء حول كارثية استخدام الإرهابيين والقيادات المتقدمة في صفوفهم للمضطربين عقليّاً، والمتعصبين آيديولوجيّاً في عملياتهم الانتحارية لـ«سهولة غسل أدمغتهم»، وهي أزمة لا تتصل بأوروبا فقط، بل تمتد حول قرارات القارات الست، فالمتعصب سلس الانقياد، لا سيما إزاء الإشكاليات الدوغمائية المطلَقَة، بخلاف المتسامح الذي يقبل بالآخر وبآرائه دونما أدنى شوفينية.
هذا السياق الفكري قد يُحتِّم علينا أن نتوقف ونتساءل: هل هزيمة «داعش» في العراق وسوريا وتضييق الخناق على الفارين من معارك التنظيم الخاسرة، هي نهاية المد الأصولي لهذه الجماعة الإرهابية أم أن الإشكالية أوسع وأعقد، وتتصل بالطب النفسي أكثر مما تتصل بتحليلات رجالات الأمن والاستخبارات، على أهمية هذه الأخيرة؟
السؤال المتقدم يقودنا إلى قراءتين؛ الأولى عن إشكالية التعصب الحاضنة التي من رَحِمها يُولَد الإرهاب، والثانية العدد المقبل بإذن الله، حول التعاطي مع يتامى «داعش» العائدين من ميادين الحرب الظلامية إلى بقية دول العالم، وكيفية التعامل معهم وأي سبيل أنجح؛ الاحتواء أم الردع؟ ثم ما هي أفعل الآليات لمقابلة الخطر الآيديولوجي الكامن تحت جلد البشرية في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
يعد كتاب «المتعصبون جنون الإيمان» الصادر حديثاً عن «دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع» في دمشق، أحدث الأعمال الفكرية والنفسية التي تعالج الأزمة التي نحن بصدد تشريحها.
الكتاب من تأليف البروفسور برنار شوفييه الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، ومن ترجمة د. قاسم المقداد، أستاذ السيميائية والترجمة في قسم اللغة الفرنسية (كلية الآداب - جامعة دمشق).
يتساءل المرء: ما حاجتنا اليوم للحديث عن التعصب؛ الخلية الأولى للأصولية وللإرهاب؟
الجواب باختصار غير مخلٍّ: لأن التعصب ينحو نحو الاتساع والراديكالية في أيامنا هذه، وكأنه ينبعث من رماده بأشكال متنوعة ومتعددة، كالعنقاء المتوحشة التي لا يتوقف سعيها وراء طرائد جديدة.
يفتح البروفسور شوفييه عيون قلوبنا على أنه خلف هذه الأعمال الإرهابية وهذا العنف رجال ونساء يناضلون من أجل قيم عالية إلى حد ما (بالنسبة لهم على الأقل كمسألة الخلافة في حالة «داعش») ويعبرون عنها، لكنهم يضعون دائما فكرة معينة عن الإنسانية في مقدمة مطالباتهم.
السؤال الذي ينبغي لدول العالم (إذا أرادت أن تكافح الإرهاب بطريقة جذرية) أن تطرحه على موائد النقاش: كيف لنا أن نفهم أن أشخاصاً يؤمنون بقضية ينتقلون بقوة إلى ممارسة العمل التدميري؟
مؤلف الكتاب يجزم بأن رَسْمَ لوحة للمتعصب هو أمر يعني أن نضع له وجهاً، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع، ومقاربة الأفكار التي يجسدها أناس ويبعثون الحياة فيها.
كارثة التعصب أنه قد يكون في بعض المرات جنوناً عابراً، لكن في كثير من الأحايين يضحي طريقة في التفكير وطريقة في الفعل بشكل منهجي، فأن يعيش المرء متعصباً، فهذا لا يعني أن التعصب يصبح وسيلة فحسب، بل يصبح هدفاً أيضاً وغاية أخيرة.
يقدم لنا الكاتبُ المتعصِّبَ بوصفه «إنسان المقدس»، لكنه ليس أي إنسان، ولا المقدس أي المقدس، فهذا الإنسان يهب نفسه جسداً وروحاً فيغالي في افتداء قضيته، بل يستبدّ به، وله جنون بما يؤمن به، وعليه، فالمقدس المعنيّ هنا يتقمص المثال والمطلق، لدرجة يغطي معها حتى ذلك المجال الذي يفترض به أن يكون بعيداً عنه، أي مجال المدنس، فلا يعود المتعصب يفرق بينهما، لأنه تحول إلى كتلة كيانية واحدة.
كما يبين البروفسور شوفييه كيف أن مشكلة المغالاة لدى المتعصب فيما يترتب على فعله من نتائج مأساوية يخلقها تصرفه، وقد لا يكون الأمر بهذه الخطورة إذا توقفت النتائج عنده، لكن هيهات، إذ تتوالد آثار أفعاله فتدمر الآخرين أيضاً.
هل «داعش» وقبله «القاعدة» وما سبقهما من حاضنة أكبر للإخوان المسلمين كجماعات متعصبة هي نتاج طبيعي لـ«سلطان التعصب»؟
الشاهد أن المتعصب يتصف بقراءته للقيم بشكل معكوس، ما يفقد الحياة بالنسبة له قيمتها، ويصبح للسلبية عنده معنى، إن لم تكن غاية، فهي وسيلة على الأقل، والتدمير ضرورة لانبعاث الصحوة.
ويفرد المؤلف الفصل الخامس من مؤلفه لمناقشة إشكالية «الإرهابي ومتاهات النزعة التدميرية»، وفيه يعتبر أن الإرهاب شكل خاص من التعصب حيث لم تعد القناعة الخاصة للعارف مقتصرة عليه، فصار بحاجة إلى تقاسم أفكاره مع آخرين، والتقاسم هنا بحجم القناعة، أي بلا حدود، فإما أن يخضع الآخر لأفكار المتمسك بالآيديولوجيا، أو يتم إخضاعه هو نفسه.
تفيدنا سطور هذا الفصل تحديداً في إسقاط ما بها على الواقع الإرهابي العالمي؛ فالإرهابي بالمعنى المحدد للبروفسور شوفييه يعني المتعصب المقتنع جدّاً بصدق أفكاره والمستعد لاستخدام العنف من أجل نقل تلك الأفكار للآخرين أو فرضها عليهم.
والشاهد أننا حال طبقنا الرؤية النفسية لسطور الكتاب على «داعش»، نعرف كيف ظهرت «إدارة التوحش» والأخطر كيف يمكن أن تطفو على السطح جماعات أخرى مشابهة، فالإرهابي يرى أن قيمة النظرية تجعل هذه الطرق مشروعة وللإرهابي تصور للإرهاب حتى على مستوى الملموس للحياة الجماعية: اللجوء إلى التدمير، والتحطيم، والإلغاء، السجن، وبتر الأعضاء، والقتل لتشييد نظام الحرية.
كثيراً ما نتساءل: كيف لـ«داعش» وبقية الجماعات الأصولية والإرهابية أن تجد معيناً بشريّاً تستجلب منه عناصرها؟
خطورة علامة الاستفهام المتقدمة أنها ماضية في الزمن، بمعنى أنها لم تتوقف عند لحظة بعينها، بل تستمر ويمكن أن تنتج لنا طبعات جديدة من «داعش» بأسماء مختلفة، لا سيما إذا لم يتم التعامل مع «منكسري داعش» بطريقة عقلانية وعلمية.
يقدم لنا أستاذ علم النفس المرضي الفرنسي مصطلحاً جديداً يساعدنا على فهم أسطورة التجنيد عند كل الجماعات الأصولية وهو «التعصيب»، أي الدفع إلى (وفي) طريق التعصب، وهي عملية نفسية قد تطول أو تقصر.
ولعل الفخ الأكبر الذي ينبه إليه الكتاب هو فخ «التضليل الإعلامي»، فالمهمة الأولى التي يفرضها مجندو الجماعات المتعصبة على أنفسهم تقوم على خلخلة المعتقدات العادية لدى تابعهم المستقبلي، فحينما يستندون إلى الثغرات والتناقضات الخاصة بالأزمات الحياتية، كالمراهقة أو التهميش الاجتماعي أو صعوبات الحياة تراهم يدخلون في علاقة مع الأشخاص الباحثين عن أجوبة على دوافع ضيقهم الوجودي. ولتحقيق هذه الغايات يبثون اليوم على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بنحو خاص، رسائل وإشارات ومعلومات مجتزأة أو مغيرة، هدفها الزرع البطيء للشك في الوعي، لا سيما أن وسائل الإعلام العادية لا تقول كل شيء.
الذين حاولوا تفكيك إشكالية الانتحاريين من الإرهابيين تساءلوا عن القناعات التي تلبَّسَت القائمين بها، والتي أدت بهم إلى إنهاء حياتهم بأيديهم، بل وحياة أقرب المقربين إليهم، فقد شهدنا كيف يقوم الأب بلف حزام ناسف حول وسط ابنه وأحياناً ابنته ليفجره وسط من يراهم الأعداء.
يقدم لنا المنظر الفرنسي رؤيته للمتعصب، بوصفه الساعي لتطبيق الألم والتدمير على نفسه، في محاولة منه لتأكيد عمق تعلقه بالمعتقد، ويظهر علامات ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن فهمه في إطار تعزيز معتقدات الجماعة كلها.
والتحليل النفسي العميق لمشهد تحريف المقدس عند المتعصب يجدر أن يكون أداة مستقبلية للتعاطي الأمني والاستخباراتي مع الأصوليين من الإرهابيين، إذ يبين لنا كيف تنتظم تصرفات هذا النمط من التعصب وتتخذ معناها، حيث يصبح المجند شبه مضطر للقيام بفعل يجنبه الانفجار الداخلي، الذي من شأنه توليد فائض من اليقين، ويكون عنف الفعل المرتكب بمقدر التشبع بالتصورات المدخلة، وكلما كان المتعصب خاضعاً لقانون المعبود الذي يسكنه تزداد حاجته إلى المطابقة بين الواقع الخارجي وإيمانه أو معتقده، فسفك الدماء، وبتر الأعضاء فعلان يبينان للآخرين مقدار قناعة الشخص بإيمانه.
يقدم لنا المؤلف نوعاً مثيراً عن أنواع التعصب، وإن كان التاريخ مليئاً بنماذجه، غير أنه لم يعد الآن يشغل حيزاً كبيراً، ضمن سلسلة الإرهاب المعاصر؛ إنه التعصب الناشئ عن الالتزام العاطفي والإلهامي، وهو نوع من أنواع التعصب التي لا تحتاج إلى ما يطلق عليه البروفسور شوفييه الإرشاد العقدي المعمق، ولا يحتاج إلى هرمية جماعية متطورة هذا النوع من أنواع التعصب يكاد يكون الأخطر في أيامنا الحالية، ومرد ذلك أن الإرهاب بات ينتشر انتشاراً غير عنقودياً، إذ يكفي أن تؤمن بالفكرة، والآن بالقائد... هنا يبذل المريدون قوتهم الضاربة لخدمة القائد ويتفانون في سبيله جسداً وروحاً. في هذه الحالة يكون تنظيم الجماعة ذا طابع عسكري أكثر منه عقدياً.
يقترب المتعصب هنا من حدود الشخص الساخط الذي هو مقاتل من أجل القائد في المقام الأول وشخصية هذا القائد أكثر تأثيراً من أفكاره على الحياة والعالم، والعقيدة هنا ليست سوى غطاء مؤقت ولازم لضبط التلاميذ.
كارثة هذا النوع من التعصب أن القائد فيه يضحي بطلاً جذاباً يعرف كيف يبني مدرسة تأهيلية يمكن لأي عضو فيها أن يتحول إلى آلة للقتل يستخدمها كما يشاء، ولا وجود عنده لقضية كبرى، أو قيم مطلقة، وليس ثمة غير العمل، ولا شيء غير العمل، وينبغي أن يكون هذا العمل فعالاً لا مجال للفشل فيه.
المتعصب الساخط، قد يقودنا إلى الحديث الدائر في ألمانيا أخيراً؛ فهو مضطرب العقل سيكوباتي الشخصية مبرمج وفق مشروع رسمته سلطة عليا، وغالباً ما يكون قد فقد ضميره بسبب استخدام مواد مهيجة ومثيرة للنشوة والغبطة.
يفك لنا صاحب الكتاب الذي يقع في نحو ثلاثمائة صفحة شفرة ما عُرِف بـ«الذئاب المنفردة»، التي أرجعها إلى نوع من أنواع «التعصب الخاص»، المغاير للتعصب العام أو التعصب الجمعي إن جاز التعبير.
ويؤكد أن هذا النوع من التعصب له علاقة بالمجال الفردي فقط، وفيه يقوم الفرد بحل مشكلاته النفسية من خلال بث الرعب في محيطه. هذا المتعصب الخاص الجديد رأيناه في شوارع فرنسا وألمانيا وبروكسل، وهو يتمركز كلياً حول ذاته، ويسقط عنفه الداخلي الذي يعجز عن معالجته وضبطه بنفسه على القريبين منه، وحجته في هذا تتلخص على النحو الآتي: «بما أن الآخرين لا يفهمونني، وبما أنهم يضطهدونني ويدفعونني إلى أقصى الحدود، فسأحقق رغبتهم بشطب نفسي من هذا الكوكب، لكن عليهم أيضاً أن يدفعوا ثمن ذلك دماً ودموعاً». يطلق شوفييه على المتعصب الخاص لفظه «كاميكاز»، ونحن نطلق عليه «ذئباً منفرداً»، وفي كل الأحوال هو شخص لا ينتمي لأي مجموعة إلا إلى نفسه، فهو مجموعة بمفرده، والقضية التي يدافع عنها هي قضية شهرته المستقبلية بوصفه فرداً، لكن إذا تعمقنا في الآليات النفسية الكامنة خلف البواعث الواعية، نجد هذه التصرفات تعبيراً عن ضيق حقيقي، ونتيجة إهمال إنساني متعمد، وحصاد رفض اجتماعي، وقع ضحيته هذا النمط من المنحرفين المتعصبين. خلاصة هذا العمل الفكري الذي يستحق مؤلفه البروفسور شوفييه ومترجمه القدير د. قاسم المقداد كل الشكر والتقدير هي أن معرفتنا بالطريقة التي يعمل التعصب من خلالها، والأسباب الكامنة وراء نشأته في عقل الإنسان، هي الطريقة الوحيدة الممكنة للقضاء على الإرهاب والأصولية بشكل فعال لاجتثاث جذوره من دون انتظار المصائب التي يمكن أن تترتب عليه.
يقدم لنا المؤلف قبل الرحيل صيغتين للعمل على مجابهة الإرهاب: «الوقاية والقمع»، ويؤكد على أن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً دولياً أسوأ بكثير - كما بين لنا التاريخ من حيث شراسته واتساعه من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية.
التعصب كذلك في الخلاصات «مرض يصيب النفس» التي يجب دراستها منذ نشوئها، وقد تكون التربية وإقامة المؤسسات المرنة والتشاركية أفضل اللقاحات لاتقاء الفيروس التعصبي.
ومن التوهم أو الخطر السعي إلى اجتثاث العنصرية، لأنها أولاً موقف الآخر الذي ننظر إليه بوصفه متعصباً، والاضطلاع بمهمة القضاء على التعصب يعني خلق تعصبات جديدة، قد تكون مثار قلق أكبر من الأولى لأنها تزعم تبني مبادئ العقل.
السور الأوحد في وجه التعصب والأصولية هو غياب السور، لأن المتعصب لا يحلم إلا بالهجوم والغزو.



«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.