الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

التعصب إشكالية حاضنة يولد من رحمها العنف

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
TT

الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)

من جديد يستهدف الإرهاب والإرهابيون بعض المواقع والمواضع في أوروبا، وهذا ما رأيناه الأسبوع الماضي في فرنسا، وزعم «داعش» أنه كان وراء إصابة ستة جنود فرنسيين في حادثة «دهس» بإحدى الضواحي الباريسية... عطفاً على ذلك انطلق حوار واسع حول علاقة الإرهاب والتطرف بالأمراض النفسية والعقلية، وفي ألمانيا تحديداً بدا وكأن هناك جدلاً كبيراً يسود الأجواء حول كارثية استخدام الإرهابيين والقيادات المتقدمة في صفوفهم للمضطربين عقليّاً، والمتعصبين آيديولوجيّاً في عملياتهم الانتحارية لـ«سهولة غسل أدمغتهم»، وهي أزمة لا تتصل بأوروبا فقط، بل تمتد حول قرارات القارات الست، فالمتعصب سلس الانقياد، لا سيما إزاء الإشكاليات الدوغمائية المطلَقَة، بخلاف المتسامح الذي يقبل بالآخر وبآرائه دونما أدنى شوفينية.
هذا السياق الفكري قد يُحتِّم علينا أن نتوقف ونتساءل: هل هزيمة «داعش» في العراق وسوريا وتضييق الخناق على الفارين من معارك التنظيم الخاسرة، هي نهاية المد الأصولي لهذه الجماعة الإرهابية أم أن الإشكالية أوسع وأعقد، وتتصل بالطب النفسي أكثر مما تتصل بتحليلات رجالات الأمن والاستخبارات، على أهمية هذه الأخيرة؟
السؤال المتقدم يقودنا إلى قراءتين؛ الأولى عن إشكالية التعصب الحاضنة التي من رَحِمها يُولَد الإرهاب، والثانية العدد المقبل بإذن الله، حول التعاطي مع يتامى «داعش» العائدين من ميادين الحرب الظلامية إلى بقية دول العالم، وكيفية التعامل معهم وأي سبيل أنجح؛ الاحتواء أم الردع؟ ثم ما هي أفعل الآليات لمقابلة الخطر الآيديولوجي الكامن تحت جلد البشرية في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
يعد كتاب «المتعصبون جنون الإيمان» الصادر حديثاً عن «دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع» في دمشق، أحدث الأعمال الفكرية والنفسية التي تعالج الأزمة التي نحن بصدد تشريحها.
الكتاب من تأليف البروفسور برنار شوفييه الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، ومن ترجمة د. قاسم المقداد، أستاذ السيميائية والترجمة في قسم اللغة الفرنسية (كلية الآداب - جامعة دمشق).
يتساءل المرء: ما حاجتنا اليوم للحديث عن التعصب؛ الخلية الأولى للأصولية وللإرهاب؟
الجواب باختصار غير مخلٍّ: لأن التعصب ينحو نحو الاتساع والراديكالية في أيامنا هذه، وكأنه ينبعث من رماده بأشكال متنوعة ومتعددة، كالعنقاء المتوحشة التي لا يتوقف سعيها وراء طرائد جديدة.
يفتح البروفسور شوفييه عيون قلوبنا على أنه خلف هذه الأعمال الإرهابية وهذا العنف رجال ونساء يناضلون من أجل قيم عالية إلى حد ما (بالنسبة لهم على الأقل كمسألة الخلافة في حالة «داعش») ويعبرون عنها، لكنهم يضعون دائما فكرة معينة عن الإنسانية في مقدمة مطالباتهم.
السؤال الذي ينبغي لدول العالم (إذا أرادت أن تكافح الإرهاب بطريقة جذرية) أن تطرحه على موائد النقاش: كيف لنا أن نفهم أن أشخاصاً يؤمنون بقضية ينتقلون بقوة إلى ممارسة العمل التدميري؟
مؤلف الكتاب يجزم بأن رَسْمَ لوحة للمتعصب هو أمر يعني أن نضع له وجهاً، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع، ومقاربة الأفكار التي يجسدها أناس ويبعثون الحياة فيها.
كارثة التعصب أنه قد يكون في بعض المرات جنوناً عابراً، لكن في كثير من الأحايين يضحي طريقة في التفكير وطريقة في الفعل بشكل منهجي، فأن يعيش المرء متعصباً، فهذا لا يعني أن التعصب يصبح وسيلة فحسب، بل يصبح هدفاً أيضاً وغاية أخيرة.
يقدم لنا الكاتبُ المتعصِّبَ بوصفه «إنسان المقدس»، لكنه ليس أي إنسان، ولا المقدس أي المقدس، فهذا الإنسان يهب نفسه جسداً وروحاً فيغالي في افتداء قضيته، بل يستبدّ به، وله جنون بما يؤمن به، وعليه، فالمقدس المعنيّ هنا يتقمص المثال والمطلق، لدرجة يغطي معها حتى ذلك المجال الذي يفترض به أن يكون بعيداً عنه، أي مجال المدنس، فلا يعود المتعصب يفرق بينهما، لأنه تحول إلى كتلة كيانية واحدة.
كما يبين البروفسور شوفييه كيف أن مشكلة المغالاة لدى المتعصب فيما يترتب على فعله من نتائج مأساوية يخلقها تصرفه، وقد لا يكون الأمر بهذه الخطورة إذا توقفت النتائج عنده، لكن هيهات، إذ تتوالد آثار أفعاله فتدمر الآخرين أيضاً.
هل «داعش» وقبله «القاعدة» وما سبقهما من حاضنة أكبر للإخوان المسلمين كجماعات متعصبة هي نتاج طبيعي لـ«سلطان التعصب»؟
الشاهد أن المتعصب يتصف بقراءته للقيم بشكل معكوس، ما يفقد الحياة بالنسبة له قيمتها، ويصبح للسلبية عنده معنى، إن لم تكن غاية، فهي وسيلة على الأقل، والتدمير ضرورة لانبعاث الصحوة.
ويفرد المؤلف الفصل الخامس من مؤلفه لمناقشة إشكالية «الإرهابي ومتاهات النزعة التدميرية»، وفيه يعتبر أن الإرهاب شكل خاص من التعصب حيث لم تعد القناعة الخاصة للعارف مقتصرة عليه، فصار بحاجة إلى تقاسم أفكاره مع آخرين، والتقاسم هنا بحجم القناعة، أي بلا حدود، فإما أن يخضع الآخر لأفكار المتمسك بالآيديولوجيا، أو يتم إخضاعه هو نفسه.
تفيدنا سطور هذا الفصل تحديداً في إسقاط ما بها على الواقع الإرهابي العالمي؛ فالإرهابي بالمعنى المحدد للبروفسور شوفييه يعني المتعصب المقتنع جدّاً بصدق أفكاره والمستعد لاستخدام العنف من أجل نقل تلك الأفكار للآخرين أو فرضها عليهم.
والشاهد أننا حال طبقنا الرؤية النفسية لسطور الكتاب على «داعش»، نعرف كيف ظهرت «إدارة التوحش» والأخطر كيف يمكن أن تطفو على السطح جماعات أخرى مشابهة، فالإرهابي يرى أن قيمة النظرية تجعل هذه الطرق مشروعة وللإرهابي تصور للإرهاب حتى على مستوى الملموس للحياة الجماعية: اللجوء إلى التدمير، والتحطيم، والإلغاء، السجن، وبتر الأعضاء، والقتل لتشييد نظام الحرية.
كثيراً ما نتساءل: كيف لـ«داعش» وبقية الجماعات الأصولية والإرهابية أن تجد معيناً بشريّاً تستجلب منه عناصرها؟
خطورة علامة الاستفهام المتقدمة أنها ماضية في الزمن، بمعنى أنها لم تتوقف عند لحظة بعينها، بل تستمر ويمكن أن تنتج لنا طبعات جديدة من «داعش» بأسماء مختلفة، لا سيما إذا لم يتم التعامل مع «منكسري داعش» بطريقة عقلانية وعلمية.
يقدم لنا أستاذ علم النفس المرضي الفرنسي مصطلحاً جديداً يساعدنا على فهم أسطورة التجنيد عند كل الجماعات الأصولية وهو «التعصيب»، أي الدفع إلى (وفي) طريق التعصب، وهي عملية نفسية قد تطول أو تقصر.
ولعل الفخ الأكبر الذي ينبه إليه الكتاب هو فخ «التضليل الإعلامي»، فالمهمة الأولى التي يفرضها مجندو الجماعات المتعصبة على أنفسهم تقوم على خلخلة المعتقدات العادية لدى تابعهم المستقبلي، فحينما يستندون إلى الثغرات والتناقضات الخاصة بالأزمات الحياتية، كالمراهقة أو التهميش الاجتماعي أو صعوبات الحياة تراهم يدخلون في علاقة مع الأشخاص الباحثين عن أجوبة على دوافع ضيقهم الوجودي. ولتحقيق هذه الغايات يبثون اليوم على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بنحو خاص، رسائل وإشارات ومعلومات مجتزأة أو مغيرة، هدفها الزرع البطيء للشك في الوعي، لا سيما أن وسائل الإعلام العادية لا تقول كل شيء.
الذين حاولوا تفكيك إشكالية الانتحاريين من الإرهابيين تساءلوا عن القناعات التي تلبَّسَت القائمين بها، والتي أدت بهم إلى إنهاء حياتهم بأيديهم، بل وحياة أقرب المقربين إليهم، فقد شهدنا كيف يقوم الأب بلف حزام ناسف حول وسط ابنه وأحياناً ابنته ليفجره وسط من يراهم الأعداء.
يقدم لنا المنظر الفرنسي رؤيته للمتعصب، بوصفه الساعي لتطبيق الألم والتدمير على نفسه، في محاولة منه لتأكيد عمق تعلقه بالمعتقد، ويظهر علامات ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن فهمه في إطار تعزيز معتقدات الجماعة كلها.
والتحليل النفسي العميق لمشهد تحريف المقدس عند المتعصب يجدر أن يكون أداة مستقبلية للتعاطي الأمني والاستخباراتي مع الأصوليين من الإرهابيين، إذ يبين لنا كيف تنتظم تصرفات هذا النمط من التعصب وتتخذ معناها، حيث يصبح المجند شبه مضطر للقيام بفعل يجنبه الانفجار الداخلي، الذي من شأنه توليد فائض من اليقين، ويكون عنف الفعل المرتكب بمقدر التشبع بالتصورات المدخلة، وكلما كان المتعصب خاضعاً لقانون المعبود الذي يسكنه تزداد حاجته إلى المطابقة بين الواقع الخارجي وإيمانه أو معتقده، فسفك الدماء، وبتر الأعضاء فعلان يبينان للآخرين مقدار قناعة الشخص بإيمانه.
يقدم لنا المؤلف نوعاً مثيراً عن أنواع التعصب، وإن كان التاريخ مليئاً بنماذجه، غير أنه لم يعد الآن يشغل حيزاً كبيراً، ضمن سلسلة الإرهاب المعاصر؛ إنه التعصب الناشئ عن الالتزام العاطفي والإلهامي، وهو نوع من أنواع التعصب التي لا تحتاج إلى ما يطلق عليه البروفسور شوفييه الإرشاد العقدي المعمق، ولا يحتاج إلى هرمية جماعية متطورة هذا النوع من أنواع التعصب يكاد يكون الأخطر في أيامنا الحالية، ومرد ذلك أن الإرهاب بات ينتشر انتشاراً غير عنقودياً، إذ يكفي أن تؤمن بالفكرة، والآن بالقائد... هنا يبذل المريدون قوتهم الضاربة لخدمة القائد ويتفانون في سبيله جسداً وروحاً. في هذه الحالة يكون تنظيم الجماعة ذا طابع عسكري أكثر منه عقدياً.
يقترب المتعصب هنا من حدود الشخص الساخط الذي هو مقاتل من أجل القائد في المقام الأول وشخصية هذا القائد أكثر تأثيراً من أفكاره على الحياة والعالم، والعقيدة هنا ليست سوى غطاء مؤقت ولازم لضبط التلاميذ.
كارثة هذا النوع من التعصب أن القائد فيه يضحي بطلاً جذاباً يعرف كيف يبني مدرسة تأهيلية يمكن لأي عضو فيها أن يتحول إلى آلة للقتل يستخدمها كما يشاء، ولا وجود عنده لقضية كبرى، أو قيم مطلقة، وليس ثمة غير العمل، ولا شيء غير العمل، وينبغي أن يكون هذا العمل فعالاً لا مجال للفشل فيه.
المتعصب الساخط، قد يقودنا إلى الحديث الدائر في ألمانيا أخيراً؛ فهو مضطرب العقل سيكوباتي الشخصية مبرمج وفق مشروع رسمته سلطة عليا، وغالباً ما يكون قد فقد ضميره بسبب استخدام مواد مهيجة ومثيرة للنشوة والغبطة.
يفك لنا صاحب الكتاب الذي يقع في نحو ثلاثمائة صفحة شفرة ما عُرِف بـ«الذئاب المنفردة»، التي أرجعها إلى نوع من أنواع «التعصب الخاص»، المغاير للتعصب العام أو التعصب الجمعي إن جاز التعبير.
ويؤكد أن هذا النوع من التعصب له علاقة بالمجال الفردي فقط، وفيه يقوم الفرد بحل مشكلاته النفسية من خلال بث الرعب في محيطه. هذا المتعصب الخاص الجديد رأيناه في شوارع فرنسا وألمانيا وبروكسل، وهو يتمركز كلياً حول ذاته، ويسقط عنفه الداخلي الذي يعجز عن معالجته وضبطه بنفسه على القريبين منه، وحجته في هذا تتلخص على النحو الآتي: «بما أن الآخرين لا يفهمونني، وبما أنهم يضطهدونني ويدفعونني إلى أقصى الحدود، فسأحقق رغبتهم بشطب نفسي من هذا الكوكب، لكن عليهم أيضاً أن يدفعوا ثمن ذلك دماً ودموعاً». يطلق شوفييه على المتعصب الخاص لفظه «كاميكاز»، ونحن نطلق عليه «ذئباً منفرداً»، وفي كل الأحوال هو شخص لا ينتمي لأي مجموعة إلا إلى نفسه، فهو مجموعة بمفرده، والقضية التي يدافع عنها هي قضية شهرته المستقبلية بوصفه فرداً، لكن إذا تعمقنا في الآليات النفسية الكامنة خلف البواعث الواعية، نجد هذه التصرفات تعبيراً عن ضيق حقيقي، ونتيجة إهمال إنساني متعمد، وحصاد رفض اجتماعي، وقع ضحيته هذا النمط من المنحرفين المتعصبين. خلاصة هذا العمل الفكري الذي يستحق مؤلفه البروفسور شوفييه ومترجمه القدير د. قاسم المقداد كل الشكر والتقدير هي أن معرفتنا بالطريقة التي يعمل التعصب من خلالها، والأسباب الكامنة وراء نشأته في عقل الإنسان، هي الطريقة الوحيدة الممكنة للقضاء على الإرهاب والأصولية بشكل فعال لاجتثاث جذوره من دون انتظار المصائب التي يمكن أن تترتب عليه.
يقدم لنا المؤلف قبل الرحيل صيغتين للعمل على مجابهة الإرهاب: «الوقاية والقمع»، ويؤكد على أن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً دولياً أسوأ بكثير - كما بين لنا التاريخ من حيث شراسته واتساعه من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية.
التعصب كذلك في الخلاصات «مرض يصيب النفس» التي يجب دراستها منذ نشوئها، وقد تكون التربية وإقامة المؤسسات المرنة والتشاركية أفضل اللقاحات لاتقاء الفيروس التعصبي.
ومن التوهم أو الخطر السعي إلى اجتثاث العنصرية، لأنها أولاً موقف الآخر الذي ننظر إليه بوصفه متعصباً، والاضطلاع بمهمة القضاء على التعصب يعني خلق تعصبات جديدة، قد تكون مثار قلق أكبر من الأولى لأنها تزعم تبني مبادئ العقل.
السور الأوحد في وجه التعصب والأصولية هو غياب السور، لأن المتعصب لا يحلم إلا بالهجوم والغزو.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».