في كتابه التاريخي: «فن الحرب»، يختصر المفكر العسكري الصيني سن تزو كل فلسفته حول فنون واستراتيجيات القتال أثناء الحروب في عبارة واحدة: «التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال». وهنا تكمن معضلة استمرارية تنظيم داعش، فعلى الرغم من أن غالبية الظروف المحيطة تشي بانهيار كيانه، فإن مقاتليه يظهرون إصراراً على المقاومة ومواصلة الصراع دون اكتراث بمحاصرتهم في مناطق كانت تحت سيطرتهم، وبرفض للاستسلام نتيجة مقتل أعداد كبيرة منهم تحت غارات أثقلت كاهلهم، وفرار آخرين، وعودة جزء منهم إلى أوطانهم.
وعلى الرغم من سقوط أهم معاقل «داعش»، بدءاً بالموصل، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عقب استعادة مسجد النوري ومنارة الحدباء انتهاء سيطرة التنظيم فيها، وهو المكان ذاته الذي أعلن فيه أبو بكر البغدادي عن قيام «دولة الخلافة المزعومة» في العراق وسوريا قبل ثلاثة أعوام، وتبعها فيما بعد استعادة الرقة في سوريا. يشكل كل ذلك تحولاً مفصلياً للتنظيم يشي بتدهور أوضاعه وتخبّط استراتيجياته، فبعد أن نقل ساحة أعماله من منطقة شاسعة يسود فيها الحكم الداعشي، تبرز عملياته عبر هجمات مبعثرة في مناطق مختلفة ينفذها أعضاء متناثرون وذئاب منفردة، باستهداف للأقباط تارة والشيعة تارة أخرى، ومن ثم الالتفات إلى الغربيين بشكل عام وإدراج المسلمين معهم بعد تكفيرهم، لتتم بذلك شيطنة كل من ليس جزءاً من المنظومة الداعشية.
يتجلّى القلق الوجودي لـ«داعش» من خلال رسائله الإعلامية، إذ انتهج في الآونة الأخيرة أسلوباً دفاعياً مستميتاً ينم عن توجس من اعتقاد العالم أجمع بأفول وهج التنظيم وانحسار المناصرين له، من بعد فقدانه لكمّ ضخم من مقاتليه وأراضيه. وظهرت عدة تسجيلات تحاول تأكيد استمرار التنظيم في استراتيجيته القائمة على إنشاء خلافة إسلامية «داعشية» مع التشديد على كونها لا تحدد عبر منطقة معينة.
المتحدث الرسمي السابق للتنظيم أبو محمد العدناني، الذي قتل في غارة جوية في شهر أغسطس (آب) من عام 2016، تحدث في تسجيل صوتي له في العام ذاته مخاطبا الأميركيين، متسائلاً باستنكار إن كانوا يحسبون أن «الهزيمة خسارة مدينة أو خسارة أرض؟». تحور الهدف الاستراتيجي المحوري لـ«داعش» وإن كان يسعى لإخفاء إخفاقاته، إلا أنه يسبغ على التنظيم طابعاً براغماتياً تتلوّن عبره أهدافه وخططه، حسب حيثيات الوضع العام للتنظيم. ذلك الطابع يمد الداعشيين بطاقة تمكنهم من استغلال النجاح الذي تم تحقيقه في السابق في كل من الموصل والرقة، ليستحيل من مجرد بكاء على الأطلال، إلى التباهي والظهور بمظهر التنظيم الأقوى في الآونة الأخيرة، إذ تمكن وإن لفترة زمنية قصيرة، من إقامة خلافته المزعومة التي شكّلت ملاذاً يستقطب المقاتلين المتطرفين من كل العالم. فبتلك السمعة من الممكن أن يسعى إلى الاستمرار في جذب تنظيمات أخرى للتحالف معه، وتجنيد المتعاطفين مع أهدافهم وآيديولوجيتهم، في بقاع تشهد ضعفاً أمنياً وتطرفاً دينياً، كما حدث مؤخراً في أفغانستان ونيجيريا. وتظهر عشوائية الهجمات الداعشية المباغتة ومحاولة الاستفادة من كل الفرص من أجل إعمال الرعب والتخريب.
يواجه تنظيم داعش من جهة أخرى معضلة أخرى أهم؛ إذ إن إحدى أهم ركائزه تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً عبر الوسائل الإعلامية والترويج للتنظيم، والتواصل عبر العالم الافتراضي الإلكتروني. وقد تميز التنظيم عن غيره بقدرته على التغلغل في عقول الآخرين عن بعد واستدراجهم. واعتمد على تقنيات من أجل تجنيد الآخرين من خلال استلهام عاطفتهم، أو التأثير على حس المغامرة لديهم، ليصبح ذلك معرضاً للانقراض، لا سيما أنه أصبح من السهل ترصد المتطرفين إلكترونياً ومعرفة مواقع تواجدهم. تبدّى خفوت نشاط التنظيم في الفضاء الإلكتروني، بشح التسجيلات الصوتية والمرئية، وقلة الحراك الداعشي الإلكتروني بعد تكثيف الجهات الأمنية الحملات المناوئة لها. ويتجلى ذلك عبر تعميم للتنظيم صدر في الآونة الأخيرة لحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مقاتليه، واستخدام لهجة الوعيد لمن يخالف التعليمات؛ إذ إن الجهات الأمنية تجاوزت القدرة على ترصد الأنشطة الإلكترونية المتطرفة، عبر اتفاقيات دولية لمحاربة أجندة التنظيمات الإرهابية، ومهاجمة منصات التواصل الاجتماعي الداعشية وحظر حساباتها، وتمكنت الجهات الأمنية من إنشاء تطبيقات إلكترونية موازية لتطبيقات أنشأها التنظيم من أجل التمكن من أجل اختراقهم وجمع معلوماتهم. وقد نتج عن مثل هذه الهجمات ظهور وعي نوعي ما بين المقاتلين حول ماهية محاولات ترصدهم، لا سيما أن عدداً منهم تميز بحيازته قدرات تقنية متطورة تمكنه من تفاصيل الهجمات الأمنية الموجهة لهم. وقد عزز من ذلك استهداف وقتل عدد من مقاتليهم في معاقلهم، وقد تمكنوا من معرفة مواقع وجودهم، وتوجيه غارات جوية مصوبة ناحيتهم، نتيجة تعقبهم، إثر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن المحاولات المناوئة للحملات الأمنية لا تزال مستمرة من قبل «داعش»، وقد برزت على الساحة الإلكترونية نقاشات حوت مناصرين للتنظيم لدراسة سبل الاستمرار في استخدام المنصات الاجتماعية الإلكترونية في ظل الترصد العالمي لهم. وإن لم تختف الأنشطة الإلكترونية، إذ لا تزال هناك صحف ومنشورات إلكترونية تنقل أخبار وكالة أعماق للتنظيم. ويتصدر «التيليغرام» التطبيقات الأخرى في استخدام الداعشيين له كوسيلة للتواصل عبر الرسائل المشفرة. في ظل شح الرسائل المتطرفة للتنظيم عبر المنصات، تظهر الاستعاضة عنها ببيانات داخلية تهم شؤون أماكن تمركزهم، كما حدث مؤخرا في دير الزور، حيث أعلن التنظيم افتتاح «مكتب المستنفرين»، من خلال بيان رسمي لما أطلق عليه مسمى «النفير العام»، الذي يجبر فيه جميع الشبان في أحياء دير الزور من الفئة العمرية الممتدة التي تشمل العشرين والثلاثين عاماً، لا سيما أن البيان حمل لهجة وعيدية، بإشارته إلى تعرض من لا يعلن انضمامه خلال أسبوع للمساءلة والتعزير. وعلى خلاف المعتاد من اشتراط إنجاز المقاتلين تدريباً مكثفاً عبر تدريبات شرعية وعسكرية ونفسية قاسية، اقتصر التدريب الحالي في دير الزور على دورة شرعية وعسكرية قصيرة، ليؤكد ذلك محاولة التنظيم المستميتة الحفاظ على وجوده.
,يعكس لجوء تنظيم داعش إلى التجنيد الإجباري حالة انهياره وتغاضيه عن الكثير من الشروط والطرق التي ينضم فيها المقاتلون الجدد إليه. كما يشي إلى ازدياد أعداد المقاتلين الجدد في صفوفه ممن يفتقرون إلى الولاء للتنظيم والاقتناع بمبادئه، وهو مؤشر خطير يحمل في طياته محاولات للانقلاب عليه، والبحث عن منقذ لهم من الوضع الراهن.
ومع فقدان «داعش» لبريقه في الآونة الأخيرة، فلا بد من أن موارده وقدراته قد تضاءلت، مما يشير إلى أن التنظيم سيلجأ إلى النهب والتقتير في الموارد على الأهالي من أجل السيطرة على المنطقة. أضف إلى ذلك النجاح الأخير المتمثل في تحرير الموصل من «داعش»، مما يشكل أملاً لسكان دير الزور يدفعهم لتأمل الخلاص من السيطرة الداعشية. هذه النظرة السلبية تأتي مغايرة لتوجه سكان المناطق التي كانت تحت براثن تنظيم القاعدة من قبل. إذ في تلك الفترة ظهر حرص القاعدة الظفر بـ«قلوب وأفئدة» سكان المنطقة التي يمتد فيها نفوذهم، مما أدى إلى حيازة القاعدة على شعبية كبيرة أدت إلى استقبال الأهالي لهم بحفاوة وصلت إلى السعي في إخفائهم عن السلطات، كما حدث في العراق من قبل في الفترة التي وصل فيها نفوذ القاعدة أوّجه نتيجة استخدامه شعارات محاربة قوات الاحتلال الأميركية، وحرصهم ليس فقط على إمداد الأهالي بالمؤن والذخائر والأموال، بل إعادة بناء المدن والبنى الهيكلية لها. من جهته فإن تنظيم داعش لم يتكبد مشقة اكتساب تعاطف الآخرين معهم، بل اكتفى باستغلال العامل النفسي عبر إثارة الرعب والبطش والتهديد وتأجيج الغضب والطائفية، بالأخص وأن سمعة الداعشيين قائمة على توحشهم وسعيهم لإبادة أعدائهم.
على الرغم من أن المؤشرات تشير إلى أن تضاؤل التنظيم ونهايته شبه محتمة، فإن إصرار المقاتلين على الاستمرار في القتال يبدو أشبه بمحاولة لإطالة المدة الزمنية، والعودة إلى نطاق أصغر، من خلال استخدام تقنيات أشبه بحرب العصابات، بهدف استكمال القتال، ومحاولة استنزاف الطرف الآخر، حتى وإن كان احتمال الوصول إلى ذلك واهياً. وهو الأمر الذي حذر المفكر الصيني سن تزو من الوصول إليه، إذ تطرق في شرحه لمبادئ الحرب إلى أن «الهم الأكبر في الحرب هو تحقيق النصر، لا إطالة أمد الحملات العسكرية».
بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع
أهم ركائز التنظيم تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً بالترويج والتواصل عبر العالم الافتراضي
بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة