الصحافة في إيران... مهنة شائكة وغير مجدية

في يومها السنوي بحثت أهم التحديات

الصحافة في إيران... مهنة شائكة وغير مجدية
TT

الصحافة في إيران... مهنة شائكة وغير مجدية

الصحافة في إيران... مهنة شائكة وغير مجدية

تزامن يوم السلطة الرابعة في إيران هذا العام بالحدثين البارزين هذا الأسبوع، اليمين الدستوري للرئيس الإيراني وإعلان تشكيلة الحكومة. لكن الأحداث السياسية لم تمنع الصحافة الإيرانية والأوساط الإعلامية من الاحتفال بيومها بنكهة مختلفة مقارنة بالأعوام الماضية. المناسبة دفعت أغلب الصحف الصادرة الثلاثاء، لفتح الباب على مصراعيه أمام حديث ذي شجون لأصحاب المهنة عن أحوال الصحافة الإيرانية والهواجس والتحديات والتهديدات المتربصة بالصحافيين كما استغل الخبراء في مجال الإعلام الفرصة للحديث عن قطار الصحافة الذي خرج عن سكة الاحترافية.
وفي ظل ضغوط النظام الحاكم وأجهزته المخابراتية والتكنولوجيا الحديثة التي تلزم الصحافة بتمزيق ثياب الأمس وضبط الإعدادات بما يناسب العصر، لا مناص أمام الصحافي الإيراني سوى الحفاظ على وجوده بأقل ما يملك من إمكانيات والبحث عن حلول جذرية للأزمة الحالية التي تعيشها الأوساط الإعلامية الإيرانية.
«عمل صعب وموقع مزلزل ومشوه» هكذا تصف صحيفة «إيران» الناطقة باسم الحكومة الوضع الحالي للصحافة وأهلها في إيران. لسان حال الصحافي في هذا اليوم «أكتب على مدار العام عن مشكلات الآخرين، يجب أن أكتب عن معاناتي في اليوم الخاص بي». يتفق خبراء الإعلام الإيرانيون على أن العمل الصحافي أشبه بالسير في ميادين الألغام.
تعددت القضايا التي تطرقت لها الصحف الإيرانية، ركزت أغلب الملاحق على الوضع المهني والوضع الهش للصحافيين وضعف قانون الصحافة في حماية الصحافي من المضايقات الأمنية إضافة إلى تردي الوضع المعيشي وتراجع مستوى الاحترافية واستقلالية الصحافي بسبب غياب الصحافة المستقلة والنمو المتزايد للإعلام الحكومي.

الصحف تحتفي بيومها
وتناولت صحيفة «آفتاب يزد» اليوم الصحافي علی صفحتها الأولى برسم كاريكاتير يظهر الصحافي في زورق ورقي في بحر متلاطم تحت عنوان «الزمن الرمادي للصحافيين». وفي ملف نشرته بهذه المناسبة، وجهت الصحيفة انتقادا ضمنيا إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني لعدم تنفيذ وعوده لتحسين أوضاع الصحافة. واستطلعت الصحيفة آراء بعض الصحافيين الإيرانيين حول أوضاع العمل في ظل إدارة روحاني.
في نفس الاتجاه، خصصت صحيفة «جهان صنعت» الاقتصادية صفحاتها الأولى والأخيرة لنشر هموم الصحافيين في البلاد بما فيها رفض السلطات نشاط نقابة الصحافيين منذ ثمانية أعوام ونشرت على الصفحة الأولى رسما كاريكاتيريا في إشارة للمضايقات الأمنية التي يتعرض لها الصحافيون كما نشرت أجزاء من رسالة مفتوحة وجهها أعضاء في اتحاد الصحافيين إلى الرئيس الإيراني.
من جانبها، نشرت صحيفة «همدلي» كاريكاتيرا على صفحتها الأولى حول يوم الصحافي تحت عنوان «الصحافة في ميدان الألغام» ورسمت الصحافي في زورق ورقي بين أسماك القرش. في نفس السياق، تناولت صحيفة «آرمان أمروز» في صفحتين أهم قضايا الصحافة الإيرانية مع خبراء وأساتذة جامعيين وتشير الصحيفة إلى مشكلة تزايد وكالات الأنباء الحكومية وأثرها السلبي على الصحافة.
صحفیة «بهار» في ملفها الرئيسي تشير إلى أول مؤتمر صحافي لحسن روحاني بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2013 وأسئلة وجهت له حول أوضاع الصحافة رد عليها بالوعود. من بين أسئلة الصحافيين حول رفع القيود المفروضة منذ فترة الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد على نشاط اتحاد الصحافيين المحظور بأوامر قضائية.

قانون الصحافة لا يحمي الصحافيين

صحيفة «قانون» الإيرانية فتحت أحد الملفات الشائكة في إيران حول أمن الصحافيين وقانون الصحافة الذي يقتصر على ضمان صاحب الامتياز من دون أن يشمل رؤساء التحرير والمحررين والصحافيين.
وبعد مقدمة تاريخية مطولة عن علاقة الصحافيين بالسلطة واغتيالات طالت الصحافيين على مدى القرن الماضي في إيران، يرى كاتب المقدمة أن علاقة الوسط الإعلامي في مواجهة السلطة تتراوح بين النسبية والمطلقة وسبب ذلك هو رسالة الصحافي والصحافة في حين حاولت الحكومات الإيرانية المتعاقبة عرقلة النشاط الفكري في الأوساط الإعلامية والنخبوية وعلى حد تعبير الصحيفة حاولوا إعماء العين البصيرة للمجتمع.
انطلاقا من ذلك لجأت الصحيفة إلى قانونيين ومحامين امتهنوا الصحافة وعاشوا معاناة الصحافي لشرح الوضع القانوني للصحافيين ومسار قانون الصحافة، بهدف مطالبة المشرعين والمسؤولين بوضع حد للمشكلات الصحافية والحيلولة دون المضايقات التي يتعرض لها الصحافيون. في هذا الخصوص، يشرح أستاذ الجامعة والمحامي والصحافي، نعمت أحمدي، دور الصحافة في إنجاح الثورة وما واجه الصحف لاحقا من منع وقمع الصحافيين على يد محكمة «الثورة». ويعتبر نعمت زادة أن ظهور صحيفتي «سلام» و«جامعة» كانت ولادة جديدة للصحافة في إيران بعد الثورة وإن منعتهما السلطات من الإصدار بعد سنوات من النشر.
ويعتقد نعمت زادة أن الفترة الذهبية للصحافة الإيرانية بعد الثورة بدأت بوصول محمد خاتمي للرئاسة إلى نهاية فترته الرئاسية الأولى وهي الفترة التي شهدت ولادة صحف مثل «صبح أمروز» و«جامعة» و«خرداد» و«عصر ازادغان» و«نشاط» (جميعها موقوفة). بحسب الأستاذ الجامعي فإن أشخاصا مسؤولين دقوا آخر مسمار في نعش حرية التعبير وقانون الصحافة في ذلك الحين. وتحديدا بعد تعديل المادة 168 من قانون الصحافة واختصارها على أصحاب الامتياز وحرمان الكوادر التحريرية مثل الصحافيين والكتاب ورؤساء التحرير من القانون. وفق نعمت زادة قانون الصحافة الحالي لا يقدم أي حماية للصحافيين كما أنه لا يتطابق مع الظروف والإمكانيات الصحافية الحالية. ويضيف قائلا: إن قنوات التواصل الاجتماعي تنشر حاليا أنواعا شتى من الأخبار بينما المسؤولون ما زالوا يواصلون السياسات السلبية والإقصائية بحق الصحافيين. ويعتقد أن استمرار الأخطاء جعل مهمة الصحافيين والإعلاميين في النشاط الحر مستحيلة، مضيفا أنه «يجب ألا نتوقع أن يثق الرأي العام بالسلطة». ويلفت إلى أن المواجهة القضائية مع الصحافيين جعلت الصحف في إيران أرضا سبخة.
لكن المحامي عبد الصمد خرمشاهي في حديثه للصحافة قال بأن السلطات لم تتعامل سلميا مع الصحافة خلال السنوات الأخيرة ويقول: إن الصحافي يواجه التهم بمجرد قيامه بالمهام الصحافية. من جانب آخر يشير إلى الخطر المحدق بالصحافة بسبب وقف إصدار الصحف مشددا على أن القضاة يفسرون القانون بشكل شخصي في القضايا المتعلقة بقانون الصحافة وبناء على النظرة الشخصية يصدرون أحكاما قاسية ضد الصحافيين لدوافع سياسية خلف الستار. ومن بين التهم الخطيرة التي تهدد الصحافيين الإيرانيين «تهديد الأمن القومي» وهي تهمة يملك القضاء تعيين حدود العقوبة لها.
ويحذر المحامي الإيراني من تبعات تجاهل أمن الصحافيين المهني والنفسي على صعيدين أساسيين الأول هو خيبة أمل أصحاب الصحف لإنتاج المواد الإخبارية الدقيقة والموثوقة والثاني تشكيك الإيرانيين بوجود حرية التعبير في البلاد.

الرقابة والأمن الوظيفي وتراجع الاحترافية

الضغوط الأمنية التي يتعرض لها الصحافي في إيران، تثير مخاوف الخبراء من فرض رقابة ذاتية نتيجة الخوف على المستقبل والتبعات التي لا تحمد عقباها في بلد لا توجد به ضمانات لحماية الصحافيين من الأجهزة الأمنية. بحسب الخبير القانوني بهمن كشاورز فإن المجتمع ضحية عدم انتشار الأخبار الصحيحة نتيجة الرقابة الذاتية.
وأشارت الصحف الإيرانية التي توقفت عند أهم المشكلات الحالية إلى أن إغلاق الصحف تسبب في حالة من عدم الاستقرار الوظيفي بين الصحافيين.
بدورها تعتقد صحيفة «إيران» الناطقة باسم الحكومة أن النظرة الاقتصادية في المجتمع الإيراني للعلاقات الاجتماعية تدفع الصحافيين المحترفين إلى هجرة المهنة إلى مجالات أخرى وأن من يفتقرون للخبرة لا يقلقون المسؤولين.
وفي حين تتعرض حكومة الرئيس الإيراني لانتقادات الصحافيين بسبب تأخر وعوده السابقة في الاهتمام بأحوال الصحافيين فإن صحيفة «إيران» الناطقة باسم إدارته حاورت عددا من رؤساء التحرير في الصحف الإيرانية لتسليط الضوء على أبرز تلك المشكلات ويتحدث رئيس تحرير صحيفة «اعتماد» جواد دليري عن «النظرة القاسية والأداتية والدعائية للصحافة». باعتقاده أن النظرة الضيفة تفوت على الصحافيين فرصة تجريب الصحافة الحرة والمستقلة والتعددية مشددا على أنها مشكلات قديمة تعاني منها الصحافة الإيرانية منذ الولادة.
ويقول دليري إن صحف إيران تعاني من مشكلات قانونية وسياسية واقتصادية وتعليمية. بنفس الوقت يشير إلى أن المشكلات الاحترافية تتلخص في الخطوط الحمر التي تواجه الصحف الإيرانية. ويرى أنه كلما كانت القيود أقل في المقابل يزداد تأثير الصحف. ويتابع أن «الخطوط الحمر» أفقدت الصحف الإيرانية فاعليتها وقدرتها على التأثير في الشارع الإيراني.
كما لفت دليري الانتباه إلى تراجع المستوى الاحترافي الصحافي في البلد بسبب القوانين وحرمان الصحف من استقطاب الطاقات المختصة وعدم تطوير قدرات الإعلاميين.
من جانبه يقول رئيس تحرير صحيفة «شهروند» مهدي افروزمنش إن الصحافة الإيرانية تمر بمرحلة متأزمة لأنها عاجزة عن توفير التعليم المطلوب لتطوير قدرات الصحافيين. ومن المشكلات أيضا عدم الانتقال الصحي للخبرات بسبب انقطاع الأجيال القديمة والجديدة، مشيرا إلى أبعاد مختلفة من معاناة الصحافة ويقول «الصحافي يفقد كل شيء: اسمه الأمن وهو مصدر كل المشكلات».
وباعتقاد افروزمنش فإن فقدان الأمن الوظيفي في السنوات الأخيرة أدى إلى هجرة الصحافي المحترف إلى قطاعات أخرى في أول فرصة متاحة أمامه، وذلك لأسباب اقتصادية ومالية. ويتحدث عن تدهور أحوال الصحافة بعد هجرة الصحافيين إثر ملاحقة الصحافيين في أثناء احتجاجات الحركة الخضراء في 2009، موضحا أن «الصحافة بلغت مستوى يفضل أصحاب الامتياز إدارة الصحف بأقل النفقات». وفق الصحافي الإيراني فإن الحالة زادت من حظوظ الصحافيين قليلي الخبرة بينما يواجه الصحافيون المحترفون فرصا أقل في الحصول على وظيفة.
استقلالية الصحافي مهددة
في حديثه لصحيفة «ابتكار» يرفض أستاذ الإعلام في جامعات طهران فريدون صديقي تسييس الصحافي ويقول: إن من حق الصحافي أن تكون له علاقاته الحزبية وسلوكه الشخصي واعتقاداته واتجاهه الخاص لكن في إطار العمل الصحافي يجب ألا يعلن حضوره في السياسة.
كذلك يرفض وجود صحافيين إصلاحيين أو محافظين في البلاد ويقول: إن التسميات تحت تأثير الاتجاهات السياسية لوسائل الإعلام إلا أنه بنفس الوقت يذكر أن الصحافي المستقل غير مرحب به في إيران وهو الصحافي الذي يقول الواقع ويطرح تساؤلات ومطالب الشعب من المسؤولين وينقل رسائل المسؤولين إلى الشعب. نتيجة لذلك تعاني الصحف من الضعف والخمول وتخفق في بلوغ الأهداف على حد تعبيره.
من جانبها تقول رئيس تحرير وكالة «إيلنا» فاطمة مهدياني في تصريح لصحيفة «إيران»: إن تعرض الصحافيين للمشكلات النقابية والمعيشية يعرض استقلاليتهم للخطر وفي إشارة إلى الهواجس الأساسية للصحافيين في فقدان الأمن الوظيفي، تنتقد الازدواجية في تعامل الأجهزة الأمنية مع الصحافيين وتقول: إن الأجهزة الأمنية تستهدف صحافيين ينتمون لتيار سياسي بعينه في حال يتمتع صحافيو التيار المقابل بالحصانة.
من جهته، يوجه أستاذ الإعلام في جامعة طهران جلال خوش جهره في تصريح لصحيفة «قانون»، الاتهام إلى وسائل الإعلام واتجاهاتها السياسية التي تحول الصحافي إلى أداة بيد الأحزاب لكي يحافظ على لقمة العيش. من جهة ثانية يقف عند معاناة الصحافيين المستقلين وكيف أن من يفتقرون للخبرة يتقدمون على حساب صحافيين يرفضون التنازل للانتماءات الحزبية.



جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
TT

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)

بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.

وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.

تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.

جهود مبتكرة

من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.

تحليل أساليب الإقناع

مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.

وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.

التشديد على أهمية تقنيات التحليل والكشف و"فلترة" المعلومات لجعل شبكة الانترنت مكاناً آمناً. (رويترز)

تقنية التأطير الإعلامي

أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».

ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».

التحيزات الإعلامية

من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.

وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.

وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.

مكافحة «الأخبار المزيّفة»

في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.

كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.

التحديات المستقبلية

ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.