«عناقيد الغضب» (1940) الدراما اليسارية التي احتضنها اليمين

سنوات السينما

هنري فوندا وجين دارول في «عناقيد الغضب»
هنري فوندا وجين دارول في «عناقيد الغضب»
TT

«عناقيد الغضب» (1940) الدراما اليسارية التي احتضنها اليمين

هنري فوندا وجين دارول في «عناقيد الغضب»
هنري فوندا وجين دارول في «عناقيد الغضب»

عندما اشترى المنتج الأميركي المعروف داريل ف. زانوك حقوق رواية جون شتاينبك The Grapes of Wrath المنشورة سنة 1939، وقبل أن يمنح جون فورد الضوء الأخضر لنقل الرواية إلى الشاشة، قام بإرسال تحريين إلى المناطق الأميركية المنكوبة بالبطالة ليعرف ما إذا كان شتاينبك غالى في تصوير آثار سنوات اليأس الاقتصادي ومعاناة الفقر الشديد الذي شمل مزارعي الولايات الوسطى (مثل أوكلاهوما التي تبدأ الأحداث فيها). لكن التقارير التي رفعت إليه مرفقة بصور فوتوغرافية أكدت له شيئا واحداً: الكاتب الأميركي لم ينقل الحقيقة كاملة بل وأرى الكثير منها.
نانلي جونسون آل إليه كتابة النص السينمائي وكريغ تولاند التصوير، وكلاهما من خيرة محترفي العمل كل في حقله. شخصية توم جود التي تقود الرواية أداها هنري فوندا ووالدته هي الممثلة المساندة دوما جين داروِل وهي نالت أوسكار أفضل ممثلة مساندة وهو أحد أوسكارين استحوذهما الفيلم في العام التالي لإنتاجه. الثانية كانت من نصيب المخرج جون فورد.
فحوى هذا العمل الأدبي المميّز هو الرحلة التي قامت بها عائلة من فلاحي الوسط الأميركي إلى ولاية كاليفورنيا بسيارة متهالكة تحمل ما تيسر حمله من متاع، بحثاً عن العمل تحت وطأة ما سمي بسنوات «الكساد الكبير» في العشرينات. مثل سواها من العائلات النازحة، هربت من أسباب الفقر لتقع في مخلب المتاجرين بالمأساة.
الفيلم يحافظ بالتأكيد على هذا المضمون الاجتماعي الصارخ ضد الفترة وضد المتاجرين فيها ومن استغلها ووظفها لمصالحه المادية. بل وينقل الرسالة السياسية التي وقفت مع المعدمين ضد المستغلين وأصحاب المصالح. إنه فيلم يساري من المخرج جون فورد المعروف جداً بانتمائه اليميني. تناقض لم يتكرر كثيراً لا معه ولا مع سواه.
بعض هذا المضمون مترجم إلى الحوار اللاذع الذي يلقيه الشاب توم في أحد أهم مشاهد الفيلم فيقول: «أفكر فينا أيضاً. في الناس الذين يعيشون كالخنازير بينما أرض خصبة مرمية ضياعاً. أو تنتمي لشخص واحد يملك مليون فدان بينما مائة ألف مزارع يتضوّرون جوعاً. وأتساءل لو أن كل جماعتنا اتحدت وصرخت...».
عندما تشي والدته بخوفها عليه من أفكاره المناهضة لاستغلال البعض للوضع المزري الذي يعيشه المهاجرون، يجيب بأنه لن يكف: «سأكون في الجوار. في الظلام. سأكون في كل مكان تستطيعين النظر إليه. أينما كان هناك قتال لكي يتمكن الجياع من الأكل. سأكون هناك. أينما تواجد شرطي يضرب رجلاً. سأكون هناك».
هذه رسالات خطيرة مرّت تحت الرادار والثابت هو أنه لو قدر للفيلم أن يُـنتج بعد خمس سنوات أو نحوها لاشتعلت الأضواء الحمر وانطلقت أصوات أجراس الخطر المكارثي. لكن ما شفع للفيلم هو أنه أميركي صميم ونقل عن واقع غير مستورد. الأحداث حقيقية وقلم شتاينبك كان تسجيلياً.
فوندا كان رائعاً في الدور (ورشح للأوسكار ولم ينله). كلما تحدث عصر الجو الذي يعيش فيه بكلماته. أدرك الممثل من البداية أهمية هذا الدور بالنسبة إليه وعرف زانوك رغبته فأشاع أنه سيعطي الدور لتايرون باور وذلك لأن فوندا، آنذاك، لم يكن يريد ربط نفسه بعقد طويل الأمد لا مع زانوك ولا مع سواه. حين سمع بأن زانوك يفكر في باور للدور وافق على توقيع العقد طمعاً في الدور.
«عناقيد الغضب» يبقى فنياً مرتعاً خصباً لأساليب التعبير الكلاسيكية في أوانها. فورد، رغم تدخله لتغيير النهاية من متشائمة إلى متفائلة، يحترم الضرورة التقنية وينوّع لقطاته تبعاً للمناسبات وأحداثها مبتعداً عن استخدام مؤثرات درامية غير عضوية. وفي حال قام أحدنا بحصر ما تم إنتاجه من أفلام واقعية في تاريخ السينما الأميركية فإنه لزاماً عليه وضع هذا الفيلم الدرامي الاجتماعي كأحد أبرز الأمثلة.
فيه أيضاً تخلّى المخرج جون فورد عن مثالياته الآيرلندية. تلك التي كانت تشمل ملامح حياة البيض في الغرب الأميركي القديم وتميّز أعماله بإعجاب المخرج المفرط بخلفيته وخلفية شخصياته الوطنية والثقافية. كعادته انصرف لتأكيد دور الكاميرا في الإيحاء العام بالمكان وما يقع فيه. في هذا الصدد صوّر كريغ تود مشاهده بإضاءة خافتة ومناسبة جداً للحدث وللمكان وللتاريخ.



هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
TT

هوليوود ترغب في صحافيين أقل بالمهرجانات

جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)
جوني دَب خلال تصوير فيلمه الجديد (مودي بيكتشرز)

عاش نقادُ وصحافيو السينما المنتمون «لجمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» (كنت من بينهم لقرابة 20 سنة) نعمة دامت لأكثر من 40 عاماً، منذ تأسيسها تحديداً في السنوات الممتدة من التسعينات وحتى بُعيد منتصف العشرية الثانية من العقد الحالي؛ خلال هذه الفترة تمتع المنتمون إليها بمزايا لم تتوفّر لأي جمعية أو مؤسسة صحافية أخرى.

لقاءات صحافية مع الممثلين والمنتجين والمخرجين طوال العام (بمعدل 3-4 مقابلات في الأسبوع).

هذه المقابلات كانت تتم بسهولة يُحسد عليها الأعضاء: شركات التوزيع والإنتاج تدعو المنتسبين إلى القيام بها. ما على الأعضاء الراغبين سوى الموافقة وتسجيل حضورهم إلكترونياً.

هذا إلى جانب دعوات لحضور تصوير الأفلام الكبيرة التي كانت متاحة أيضاً، كذلك حضور الجمعية الحفلات في أفضل وأغلى الفنادق، وحضور عروض الأفلام التي بدورها كانت توازي عدد اللقاءات.

عبر خطّة وُضعت ونُفّذت بنجاح، أُغلقت هذه الفوائد الجمّة وحُوّلت الجائزة السنوية التي كانت الجمعية تمنحها باسم «غولدن غلوبز» لمؤسسة تجارية لها مصالح مختلفة. اليوم لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة بعدما فُكّكت وخلعت أضراسها.

نيكول كيدمان في لقطة من «بايبي غيرل» (24A)

مفاجأة هوليوودية

ما حدث للجمعية يبدو اليوم تمهيداً لقطع العلاقة الفعلية بين السينمائيين والإعلام على نحو شائع. بعضنا نجا من حالة اللامبالاة لتوفير المقابلات بسبب معرفة سابقة ووطيدة مع المؤسسات الإعلامية المكلّفة بإدارة هذه المقابلات، لكن معظم الآخرين باتوا يشهدون تقليداً جديداً انطلق من مهرجان «ڤينيسيا» العام الحالي وامتد ليشمل مهرجانات أخرى.

فخلال إقامة مهرجان «ڤينيسيا» في الشهر التاسع من العام الحالي، فُوجئ عدد كبير من الصحافيين برفض مَنحِهم المقابلات التي اعتادوا القيام بها في رحاب هذه المناسبة. أُبلغوا باللجوء إلى المؤتمرات الصحافية الرّسمية علماً بأن هذه لا تمنح الصحافيين أي ميزة شخصية ولا تمنح الصحافي ميزة مهنية ما. هذا ما ترك الصحافيين في حالة غضب وإحباط.

تبلور هذا الموقف عندما حضرت أنجلينا جولي المهرجان الإيطالي تبعاً لعرض أحد فيلمين جديدين لها العام الحالي، هو «ماريا» والآخر هو («Without Blood» الذي أخرجته وأنتجته وشهد عرضه الأول في مهرجان «تورونتو» هذه السنة). غالبية طلبات الصحافة لمقابلاتها رُفضت بالمطلق ومن دون الكشف عن سبب حقيقي واحد (قيل لبعضهم إن الممثلة ممتنعة لكن لاحقاً تبيّن أن ذلك ليس صحيحاً).

دانيال غريغ في «كوير» (24A)

الأمر نفسه حدث مع دانيال كريغ الذي طار من مهرجان لآخر هذا العام دعماً لفيلمه الجديد «Queer». بدءاً بـ«ڤينيسيا»، حيث أقيم العرض العالمي الأول لهذا الفيلم. وجد الراغبون في مقابلة كريغ الباب موصداً أمامهم من دون سبب مقبول. كما تكرر الوضع نفسه عند عرض فيلم «Babygirl» من بطولة نيكول كيدمان حيث اضطر معظم الصحافيين للاكتفاء بنقل ما صرّحت به في الندوة التي أقيمت لها.

لكن الحقيقة في هذه المسألة هي أن شركات الإنتاج والتوزيع هي التي طلبت من مندوبيها المسؤولين عن تنظيم العلاقة مع الإعلاميين ورفض منح غالبية الصحافيين أي مقابلات مع نجوم أفلامهم في موقف غير واضح بعد، ولو أن مسألة تحديد النفقات قد تكون أحد الأسباب.

نتيجة ذلك وجّه نحو 50 صحافياً رسالة احتجاج لمدير مهرجان «ڤينيسيا» ألبرتو باربيرا الذي أصدر بياناً قال فيه إنه على اتصال مع شركات هوليوود لحلّ هذه الأزمة. وكذلك كانت ردّة فعل عدد آخر من مديري المهرجانات الأوروبية الذين يَرون أن حصول الصحافيين على المقابلات حقٌ مكتسب وضروري للمهرجان نفسه.

لا تمثّل «جمعية هوليوود للصحافة الأجنبية» إلّا قدراً محدوداً من نشاطاتها السابقة

امتعاض

ما بدأ في «ڤينيسيا» تكرّر، بعد نحو شهر، في مهرجان «سان سيباستيان» عندما حضر الممثل جوني دَب المهرجان الإسباني لترويج فيلمه الجديد (Modi‪:‬ Three Days on the Wings of Madness) «مودي: ثلاثة أيام على جناح الجنون»، حيث حُدّد عدد الصحافيين الذين يستطيعون إجراء مقابلات منفردة، كما قُلّصت مدّة المقابلة بحدود 10 دقائق كحد أقصى هي بالكاد تكفي للخروج بحديث يستحق النشر.

نتيجة القرار هذه دفعت عدداً من الصحافيين للخروج من قاعة المؤتمرات الصحافية حال دخول جوني دَب في رسالة واضحة للشركة المنتجة. بعض الأنباء التي وردت من هناك أن الممثل تساءل ممتعضاً عن السبب في وقت هو في حاجة ماسة لترويج فيلمه الذي أخرجه.

مديرو المهرجانات يَنفون مسؤولياتهم عن هذا الوضع ويتواصلون حالياً مع هوليوود لحل المسألة. الاختبار المقبل هو مهرجان «برلين» الذي سيُقام في الشهر الثاني من 2025.

المديرة الجديدة للمهرجان، تريشيا تاتل تؤيد الصحافيين في موقفهم. تقول في اتصال مع مجلة «سكرين» البريطانية: «الصحافيون مهمّون جداً لمهرجان برلين. هم عادة شغوفو سينما يغطون عدداً كبيراً من الأفلام».

يحدث كل ذلك في وقت تعرّضت فيه الصحافة الورقية شرقاً وغرباً، التي كانت المساحة المفضّلة للنشاطات الثقافية كافة، إلى حالة غريبة مفادها كثرة المواقع الإلكترونية وقلّة عدد تلك ذات الاهتمامات الثقافية ومن يعمل على تغطيتها. في السابق، على سبيل المثال، كان الصحافيون السّاعون لإجراء المقابلات أقل عدداً من صحافيي المواقع السريعة الحاليين الذين يجرون وراء المقابلات نفسها في مواقع أغلبها ليس ذا قيمة.

الحل المناسب، كما يرى بعض مسؤولي هوليوود اليوم، هو في تحديد عدد الصحافيين المشتركين في المهرجانات. أمر لن ترضى به تلك المهرجانات لاعتمادها عليهم لترويج نشاطاتها المختلفة.