في نفق الشعر

قراءة في مجموعة «فتحت الباب فانهال علي العالم» لأحمد الصحيح

أحمد الصحيح
أحمد الصحيح
TT

في نفق الشعر

أحمد الصحيح
أحمد الصحيح

يحدث، بل يحدث كثيراً، أن تفتح كتاباً، دراسة، رواية، مجموعة شعرية، فينهال عليك ما يدفعك إلى الإشاحة بوجهك، مما يضطرك للتوقف، لاتقاء ما ينهال من عادية ورتابة. لكن يحدث أيضاً، ويحدث قليلاً، أن تفتح الدراسة أو الرواية أو المجموعة الشعرية فينهال عليك ما يتجاوز توقعاتك، أن ينهال عليك من مجموعة قصائد شيء اسمه الشعر لا تجده كثيراً تحت عناوين كثيرة تعد به. ويكون ذلك الحدوث أكثر ندرة حين تكون المجموعة التي بين يديك أول إصدارات الشاعر. لكن ذلك ما حدث لي بالفعل حين فتحت المجموعة الشعرية الأولى لأحمد الصحيح التي أمدتني منذ العنوان بالمدخل المناسب للحديث عنها: «فتحت الباب فانهال علي العالم». مجموعة هذا الشاعر السعودي الشاب فازت بالجائزة الأولى للكتاب الأول من مهرجان بيت الشعر الثاني (دورة فوزية أبو خالد) الذي أقامته الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بفرعها بالدمام (ديسمبر (كانون الأول)، 2016).
يكفي أن تقرأ ما قدمه الشاعر الصحيّح (بتشديد الياء) بوصفه مدخلاً لمجموعته لترى كيف يرى الكتابة الشعرية، بل نشر الشعر، من حيث يبدو ذلك مغامرة تستعصي على حساب العواقب:
كان قمحاً آمناً في الحقول
كان نسيماً بارداً يلفح أناساً ينتظرون
كان دماً، وخرائط يحملها الغرباء في الطريق
هذا الذي تشرد تماماً
وصار كلامي
لذا كنت دائماً أريد أن أكتب،
لكن الشعلة المتوثبة على صهوة الفكر انطفأت.. فانتصر النفق.
هذا الكلام كان مخططاً له أن يغير أشياء كثيرة، في العلن، أن يغير العالم، كان سيعتلي «صهوة الفكر» التي انطفأت، فكانت النتيجة أن «انتصر النفق». والنفق هنا أقرب إلى أن يكون الشعر في مقابل الفكر، الفكر بما هو موقف عقلاني، مباشر وواضح، والشعر بما هو لغة خافتة، ملتفة بالمجاز ومتوارية بالإيحاء. كثير من قصائد المجموعة ستأخذنا إلى تلك الالتفافات وذلك التواري، حين نقبل دعوة الشاعر في نهاية مدخله: «هذه نافذتي مأخوذة بك أيها الخارج / هاتِ آلامك وادخل». ولن نندم.
لنأخذ مثلاً الشعرية التي تنهال من سلسلة التنويع على الكينونة (أنا كذا ولست كذا) في قصيدة بعنوان «لست الريح في المشهد» (ورد العنوان بخطأ طباعي يزول بقراءة النص). «أنا لست الصرخة في المشهد / أنا الفراغ الذي شحنته وأربكت مفاصله»، إلى أن يصل إلى تلك الصورة الأسرة: «أنا لست التلويحة في المشهد / أنا عزلة التلويحة في الهواء بعد نزول اليد»، وإلى أن يصل إلى نهاية تضج بالخيبة والانسحاب: «إني أعيش حياتي كما لو أنني أعتذر». ويشبه هذا الاعتذار، هذا الوقوف على أهبة الانسحاب، تعبير عن القلق في قصيدة أخرى: «قلق كأني حافة»، وليس على حافة. هنا نصل إلى تنويع على القلق الأشهر، قلق المتنبي (على قلق كأن الريح) ولكن على صهوة شعرية جديرة بشهرة أخرى.
من ذلك الوقوف على أهبة الانسحاب، تنهمر شعرية غامرة يزيد من جمالها أنها تستمد من هم مألوف، بل شديد الألفة، تأتي من حضور المرأة وطغيان العشق، من الوله الدائم وتفنن الشاعر في استيلاد الصور والمجازات للإيحاء بكل ذلك. وإذا كان ذلك العشق هو القاسم المشترك في مجمل ما يصدر من الشعر العربي القديم والحديث، لأسباب ليس هذا مكان الحديث عنها، فإن الموهبة الشعرية تظل تثبت المرة تلو الأخرى قدرة القصيدة، قدرة اللغة، على الولادة من جديد مع كل امرأة تطل على موهبة تصعد مراتب الجمال:
تجيئين مضمخة بكل الذي كان لولا أنه لم يكن،
مشتعلة بكل الذي كان رغم أنه كان..
إنها تأتي باحتمالات لم تتحقق، لكنها ماثلة رغم ذلك، ليست ماثلة فيها فقط وإنما «مضمخة» بها. لكن الأجمل أنها تأتي أيضاً بالذي تحقق فعلاً لكن تحققه كان قبل أن تأتي هي بارداً وعادياً إلى أن أتت فتنبهنا إلى تحققه كما ينبغي أن يكون التحقق. كأن كل الجمال يأتي للمرة الأولى، هذا ما تقوله اللغة حين تكون عادية، لكن حتى اللغة تصبح غير عادية، كأنها كانت هي الأخرى ولم نتنبه إلى ما كانته حتى تلك اللحظة التي ولد بها المجاز.
أنت التي نسيت أن تكون أقل،
ولم تقصد أن تكون بهذه الوفرة..
وقس على هذه الوفرة الشعرية الكثير مما تحمله مجموعة الصحيح.
يهيمن الشكل النثري على قصائد هذه المجموعة الوافرة، لكن كأنما أدرك الشاعر أن هناك من يترصد لتلك النثرية، سيما وهو ابن شاعر محلّق من شعراء الإيقاع، جاسم الصحيح، فضمًن المجموعة نصاً موقعاً دون أن يكون أقل تحليقاً. يقول الجزء الأخير من قصيدة «في صوتها» وبعذوبة أكاد أقول إنها صادمة:
في صوتها نبع به يغفو ضماي
وبه نهاية كل حرب
راودتني عن دماي
ما زلت أحصي كم أنا؟!
كم مرة منذ ال (أحبك) قد ولدتُ؟!
وكم ترى
كبر احتضاري في هواي؟!

لا سقف لي إلا الذي في صوتها..
في صوتها اكتملت سماي!
لكن في حين تخرج عن الهيمنة النثرية قصيدة واحدة تخرج عن الهيمنة الأنثوية بضع قصائد يلامس فيها الشاعر هماً جماعياً وكأنه بعد أن أثبت قدراته على ضبط الإيقاع يثبت أيضاً أنه مطارد بهموم غير هم العشق. من تلك قصيدة «في وداع مدينة (بورتلاند) الأميركية» حيث كان الشاعر يدرس، وأخرى حول فتاة يابانية تعرضت للاغتصاب، وثالثة حول هموم الحرب بعنوان «الحرب تعود إلى المنزل». لكن ما سيستوقف القارئ العربي أكثر من غيره في ظني هي قصيدة «الربيع» التي يقول تنويه تحت عنوانها إنه «لا علاقة - من بعيد - للربيع في هذا النص بالربيع العربي». وسيكفي هذا ليجعل النص على علاقة - من قريب - بذات الربيع، «والربيع فصل لم يحتمل الموقف فاندلع اللون على رماد الجرح.. / فصل يعرف كيف يجمع النغمة / إذا انزلقت من فوق القيثارة وتاهت في الدرب».
أخيراً، كيف لقراءة سريعة أن تجعل ربيع الشعر يحتشد في صفحتين من النثر البارد؟ كل ما يمكن فعله هو الإيحاء أيضاً ودعوة القارئ للمضي إلى المجموعة نفسها، لكن لعله قبل مضيه يأخذ معه توصيف الشاعر لنصوصه في «ومضات»:
العصافير التي طارت من فمي،
حين نطقت اسمكِ
اشتراها غرباء
ووضعوها في قفص يشبه غيابك..
إنها تغرد الآن عندما تجوع فقط
فيمنحها الغرباء بعض الحنين.
سنمنحها نحن الغرباء ما يمكننا من الحنين إلى الشعر ومن الأمنيات بأن تأتي المجموعات الأخرى لأحمد غير محتاجة لأن تثبت حاجة القصائد لتنويع شعريتها أو همومها، أن تأتي كما يريدها الشعر لا كما يريدها بعضنا.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.