{داعش}... «خلافة» تموت وتنظيم على قيد الحياة

الانعطاف التاريخي نحو التوحش ظاهرة تتجاوز التعصب الديني

مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
TT

{داعش}... «خلافة» تموت وتنظيم على قيد الحياة

مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)

تثير الهزائم المتتالية التي تلقاها تنظيم داعش تبايناً واضحاً بين الباحثين والمتخصصين الغربيين بخصوص مستقبل التنظيم وطبيعة تحولاته الداخلية بعد فقدان «داعش» المحتمل لقائده أبو بكر البغدادي، وعاصمة دولته بالعراق. ويعد عالم السياسة الفرنسي فرنسوا بورغا، مدير الأبحاث في «معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي» في «إيكس أون بروفانس»، وأحد أبرز الخبراء المتابعين للمسار التاريخي للتنظيم المتوحش؛ أن الهزيمة القاسية للتنظيم بالموصل، لا تعني نهاية «داعش»، لأن الأسباب السياسية التي أنتجت التنظيم ما زالت قائمة.
في واقع الأمر، توجد 3 عوامل سياسية تجعل من «داعش» تنظيما قادرا على الاستمرار والتجدد، وإعادة بناء المشروعية الوجودية في زمن قياسي. العامل الأول تمثله ظاهرة الاستعمار والاستعمار الجديد بالشرق الأوسط، التي تحول دون تراجع «المتطرفين»، وتنظيماتهم المتعددة، لأن نتائجها على الجغرافيا الاجتماعية العربية في الشرق الأوسط، أنتجت خليطا من الإسلام السياسي والحركات الإرهابية.
وفي هذا السياق، يشير بورغا في كتابه «رايات سُود: صعود تنظيم داعش» الصادر سنة 2016، إلى أن جذور «داعش» تعود لطبيعة السياسة الدولية بالمنطقة، إضافة للعامل المحلي. فمنذ إطلاق السلطات الأردنية سنة 1999 سراح «أبو مصعب الزرقاوي»، تطور الأمر ليجد المجتمع الدولي نفسه أمام «حماسة هذا الرجل، والأخطاء الاستراتيجية للرئيسين بوش وأوباما أفضت إلى أن ترفع راية (داعش) على مناطق واسعة من العراق وسوريا.
وبناء على ذلك، يؤكد فرنسوا بورغا، مدير أبحاث في «المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية»، أن «جميع النظريات التفسيرية للحركات المتشددة، التي لا تأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتّبة على علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب، تعد غير فعّالة، لأنها تركّز المسؤولية على فاعل العنف، دون التساؤل أو الدعوة إلى التساؤل بمنهجية عن الظروف التي أنتجت هذا الفاعل.
من جهته، تماشى الباحث بـ«مركز بروكينغز» شادي حميد، مع هذا التفسير لاستمرارية توالد الظاهرة الإرهابية بالشرق الأوسط؛ ففي مقالة له بعنوان: «هل الإسلام دين استثنائي؟» نشرت بمجلة «ذي أتلنتك» الأميركية، بتاريخ 11 - 9 – 2016، نبه شادي حميد إلى أنه «لا يمكن فهم الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، دون العودة إلى عام 1924؛ من أجل الوصول إلى نظام سياسي شرعي بدرجات مختلفة، وربما كان ظهور (داعش) آخر تلك المحاولات التي أخفقت في الإجابة عن السؤال الأساسي».
وفي ما يخص العامل الثاني، يرى الخبير الفرنسي أن الانعطاف التاريخي نحو التوحش الحاصل اليوم، هو ظاهرة تتجاوز التعصب الديني، لكنها في الوقت نفسه وليدة أزمة سياسية، عنوانها الأبرز حاليا «المعضلة السورية». فالنظام السياسي السوري بقيادة الأسد، يعد الخميرة الأساسية لتوالد فطريات التوحش الداعشي، ذلك أن «صعود (داعش) بلا جدال كان مراداً من قبل استراتيجية النظام، وكانت ولادته على هذا النحو، بكل وضوح، بمساعدة متعددة الطرق قامت بها مختلف دوائره التابعة له. ذلك معطى لا جدال فيه، فقد فعل بشار الأسد منذ أيام الأزمة الأولى كل شيء كي تتمكن هذه الفزّاعة من لعب دورها بأكبر قدر من السرعة والإذهال إزاء الرأي العام الدولي من جهة، ثم بعد ذلك إزاء السكان الذين يديرهم (داعش)» من جهة أخرى.
أما العامل الثالث فهو فرعي وثانوي، فالتعصب ليس وليد الظاهرة الإرهابية، بل العاملان المشار إليهما أعلاه. ولهذا يعده بورغا البعد الإيديولوجي المقدس، والمعجم الديني القادم من ظرف «داعش»، مجرد عامل مساعد؛ لكن هذه «القراءة الأكثر شيوعا، ليس في الغرب فحسب، لظاهرة (الجهادية)، تتمثّل في اعتبار الجهاديين (متعصّبين)، وهذا ما يشكل وسيلة لإنكار أن العملية التي أنتجت هؤلاء (المتعصّبين) هي، في الواقع، سياسوية»؛ رغم أن تجربة الجزائر بشمال أفريقيا، وتجربة العراق وسوريا حاليا تثبت أن الأزمات السياسية هي التي تخلق الإرهاب وتنعش جغرافية انتشار التنظيمات الإرهابية.

«داعش» يستمر في العراق
وبناء على ما تقدم، فإن الأزمة السياسية الحالية التي تعصف بالعراق وسوريا، هي التي تفسر وجود سيطرة تنظيم داعش على بعض المناطق التي يعدها ولايات تابعة لدولته المزعومة رغم الهزيمة النكراء التي مني بها في عاصمة «خلافته المعلنة». على المستوى العملي، لا يزال تنظيم البغدادي موجودا في ولاية دجلة (شمالي وسط العراق) وولاية الفرات (غربي وسط العراق)، وولاية كركوك التي تتمتع بموقع استراتيجي ونشاط كبير للتنظيم حاليا، وتقع شمالي وسط العراق؛ وولاية الجزيرة (شمال غربي العراق) وهي منطقة يعاني فيها التنظيم من صعوبات كبيرة جراء الحصار وضعف القاعدة الشعبية للتنظيم بالمنطقة. واقعيا لا يسيطر تنظيم البغدادي الإرهابي في «ولاية الجزيرة»، إلا على مدينة تلعفر ونواحيها، فيما تعاني هذه السيطرة من حصار تفرضه «البيشمركة الكردية» شمالا، والجيش العراقي جنوبا وشرقا وغربا. وجراء هذه العزلة يعاني التنظيم في هذه المنطقة من صعوبات تنظيمية داخلية وصلت لدرجة إعلان جزء من مسلحي «داعش» تلعفر ولاية مستقلة عن «دولة الخلافة»؛ مما أدى إلى نشوب مواجهة مسلحة بين مقاتلي التنظيم الإرهابي يوم 14 يوليو (تموز) 2017 أسفرت عن 4 قتلى.
أما في ولاية كركوك، فالتنظيم كذلك يتمتع بوجود مهم في منطقة لها أهمية في الجغرافيا السياسية العراقية؛ حيث إن «داعش» يوجد على التماس مع «قوات البيشمركة الكردية»، من جهة الشمال؛ ولا تخفي هذه القوات رغبتها في التوسع على حساب المناطق الخاضعة لـ«داعش»، لأسباب سياسية، وهذا ما يجعل المواجهة بين الطرفين مستمرة، وتشهد تنسيقا بين الأكراد والولايات المتحدة الأميركية التي توفر الغطاء الجوي للبيشمركة. ورغم ذلك، فإن تنظيم البغدادي يعرف نشاطاً في مناطق الرياض والحويجة ودوكمات والرشاد، مستغلا بذلك الطموحات القبلية بالمنطقة، وقدرته الجيدة في إدارة الموارد بين السكان.
وعلى مستوى «ولاية الفرات»، تعد منطقتا القائم ورواة، محل نشاط مهماً للتنظيم لتوفر الموارد الفلاحية، كما أن الولاية منفتحة على سوريا حيث يتمتع التنظيم بحرية الحركة، مما يحافظ للمنطقة على نوع من التوازن والسيطرة الداعشية.

لماذا يستمر الإرهابيون؟
هذا الاستمرار على أرض العراق وسوريا رغم المواجهة الدولية والمحلية للإرهابيين، لا يعود لما يسميه عالم السياسيّة الفرنسي أوليفييه روا «أسلمة التعصب» وولادة «ظاهرة جيليّة عدميّة»، هدفها الانتقام من الآخر، بل إن الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، باعتبارها ظاهرة خلقتها الأزمة السياسية، تتقوى باستمرار؛ نظرا لعامل معقد، يتلخص في استحالة فصل الأسباب الداخلية للتنظيمات، عن طبيعة السياسة الخارجية للدول الغربية بمنطقة الشرق الأوسط، حسبما يؤكد فرنسوا بورغا.
ولذلك يلاحظ المتخصص في التنظيمات الإرهابية أنها تخلق آليات جديدة للتكيف مع طبيعة تحولاتها الداخلية، كما تنوع من طرق مواجهتها مع القوى الغربية التي تعدها مستعمرة للمنطقة. وفي هذا السياق، تظهر التحركات الأخيرة لتنظيم داعش، أنه واع بقسوة الهزائم التي تلقاها في المعارك الأخيرة، وما صاحبها من فقدان قيادييه العسكريين والماليين وصولا لمزاعم مقتل زعيمه البغدادي؛ كما أن التنظيم يحاول «تجاوز» الصعوبات التي يعانيها بالعراق، ولذلك عمل على خلق مركز جديد بمدينة الميادين بمحافظة دير الزور السورية، حيث حرية الحركة والقدرة على رص الصفوف.
من جهة أخرى، يقاوم التنظيم بالرقة السورية، كما يستعد للمعركة المقبلة مع الجيش العراقي والتحالف الدولي، وستكون مدينة تلعفر وبمشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي»، ولا يعرف لحد اليوم ما إذا كان التنظيم سيتشبث بالمدينة في حال الهجوم عليها؛ خصوصا أن القيادي البارز في التنظيم «أبو البراء الموصلى»، أكد أن ما وقع بالموصل هزيمة، فيما قالت مصادر أمنية عراقية إن عدد مقاتلي «داعش» بتلعفر، نقص إلى نحو 350 مقاتلا، وكان قبل معركة الموصل للتنظيم نحو ألف مقاتل بالمدينة.
عموما يمكن القول إن الخبراء والمتخصصين في الظاهرة الإرهابية متفقون على أن المعركة الدولية مع تنظيم البغدادي، تحقق هدفها تدريجيا بالتحطيم المستمر لخرافة صناعة «داعش» وقدرة التنظيم على الإمساك بالأرض وبناء الإدارة والمؤسسات. إلا أن هذه الهزائم المتوالية، كما يقول الباحث الأميركي المتخصص في الإرهاب «هارون.ي. زيلين» لن تؤدي «إلى القضاء على الجماعة، التي ستستمر في تشكيل تهديد من ناحية التمرد والإرهاب، لكنها ستزيل أي حجج قد يميل (الجهاديون) إلى تقديمها لتبرير استمرارية دولتهم؛ حتى لو كانت تلك الدولة عبارة عن مجرد صورة مضمحلة لكيانها السابق».
أما بالنسبة لعالم السياسة والخبير، فرنسوا بورغا، مدير الأبحاث في «معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي» في «إيكس أون بروفانس»؛ فإن «ما حدث في الموصل هو أن العالم قدّم مفاتيح أبواب ركام مدن سنية إلى ميليشيات شيعية أو كردية، وبهذا الشكل فقد تمّ التأجيل زمنيا والتوزيع جغرافيا للمشكلات التي لم تقدر المنظومة الدّولية على حلها. في العراق، كما في سوريا وغيرها من الدّول المُشابهة لها، لطالما لم يتم بناء مُؤسّسات سياسية صلبة قادرة على معالجة الأسباب العميقة للتطرّف في الموصل. انتصرت القوة المُطلقة العمياء وفشلت السياسة».
وهذا الفشل يجعل من تنظيم داعش مظهرا بارزا للأزمة السياسة العامة التي تضرب العراق منذ سنة 2003، وسوريا بعد سنة 2011. وبالتالي، فإن عجز المؤسسات السياسية للدولتين، على تجاوز البنية الطائفية العنيفة، وضمان المشاركة السياسية للجميع وتحقيق المواطنة، وبناء ديمقراطية تشاركية؛ يجعل من فرص القضاء على الإرهاب شبه منعدمة، حسب ما يطرحه عالم السياسة والخبير في الظاهرة الإرهابية، فرنسوا بورغا.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية
بجامعة محمد الخامس



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».