{داعش}... «خلافة» تموت وتنظيم على قيد الحياة

الانعطاف التاريخي نحو التوحش ظاهرة تتجاوز التعصب الديني

مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
TT

{داعش}... «خلافة» تموت وتنظيم على قيد الحياة

مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)
مسلح يحمل علم «داعش» في وسط الموصل قبل طرد الإرهابيين منها (رويترز)

تثير الهزائم المتتالية التي تلقاها تنظيم داعش تبايناً واضحاً بين الباحثين والمتخصصين الغربيين بخصوص مستقبل التنظيم وطبيعة تحولاته الداخلية بعد فقدان «داعش» المحتمل لقائده أبو بكر البغدادي، وعاصمة دولته بالعراق. ويعد عالم السياسة الفرنسي فرنسوا بورغا، مدير الأبحاث في «معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي» في «إيكس أون بروفانس»، وأحد أبرز الخبراء المتابعين للمسار التاريخي للتنظيم المتوحش؛ أن الهزيمة القاسية للتنظيم بالموصل، لا تعني نهاية «داعش»، لأن الأسباب السياسية التي أنتجت التنظيم ما زالت قائمة.
في واقع الأمر، توجد 3 عوامل سياسية تجعل من «داعش» تنظيما قادرا على الاستمرار والتجدد، وإعادة بناء المشروعية الوجودية في زمن قياسي. العامل الأول تمثله ظاهرة الاستعمار والاستعمار الجديد بالشرق الأوسط، التي تحول دون تراجع «المتطرفين»، وتنظيماتهم المتعددة، لأن نتائجها على الجغرافيا الاجتماعية العربية في الشرق الأوسط، أنتجت خليطا من الإسلام السياسي والحركات الإرهابية.
وفي هذا السياق، يشير بورغا في كتابه «رايات سُود: صعود تنظيم داعش» الصادر سنة 2016، إلى أن جذور «داعش» تعود لطبيعة السياسة الدولية بالمنطقة، إضافة للعامل المحلي. فمنذ إطلاق السلطات الأردنية سنة 1999 سراح «أبو مصعب الزرقاوي»، تطور الأمر ليجد المجتمع الدولي نفسه أمام «حماسة هذا الرجل، والأخطاء الاستراتيجية للرئيسين بوش وأوباما أفضت إلى أن ترفع راية (داعش) على مناطق واسعة من العراق وسوريا.
وبناء على ذلك، يؤكد فرنسوا بورغا، مدير أبحاث في «المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية»، أن «جميع النظريات التفسيرية للحركات المتشددة، التي لا تأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتّبة على علاقات الهيمنة بين الشمال والجنوب، تعد غير فعّالة، لأنها تركّز المسؤولية على فاعل العنف، دون التساؤل أو الدعوة إلى التساؤل بمنهجية عن الظروف التي أنتجت هذا الفاعل.
من جهته، تماشى الباحث بـ«مركز بروكينغز» شادي حميد، مع هذا التفسير لاستمرارية توالد الظاهرة الإرهابية بالشرق الأوسط؛ ففي مقالة له بعنوان: «هل الإسلام دين استثنائي؟» نشرت بمجلة «ذي أتلنتك» الأميركية، بتاريخ 11 - 9 – 2016، نبه شادي حميد إلى أنه «لا يمكن فهم الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، دون العودة إلى عام 1924؛ من أجل الوصول إلى نظام سياسي شرعي بدرجات مختلفة، وربما كان ظهور (داعش) آخر تلك المحاولات التي أخفقت في الإجابة عن السؤال الأساسي».
وفي ما يخص العامل الثاني، يرى الخبير الفرنسي أن الانعطاف التاريخي نحو التوحش الحاصل اليوم، هو ظاهرة تتجاوز التعصب الديني، لكنها في الوقت نفسه وليدة أزمة سياسية، عنوانها الأبرز حاليا «المعضلة السورية». فالنظام السياسي السوري بقيادة الأسد، يعد الخميرة الأساسية لتوالد فطريات التوحش الداعشي، ذلك أن «صعود (داعش) بلا جدال كان مراداً من قبل استراتيجية النظام، وكانت ولادته على هذا النحو، بكل وضوح، بمساعدة متعددة الطرق قامت بها مختلف دوائره التابعة له. ذلك معطى لا جدال فيه، فقد فعل بشار الأسد منذ أيام الأزمة الأولى كل شيء كي تتمكن هذه الفزّاعة من لعب دورها بأكبر قدر من السرعة والإذهال إزاء الرأي العام الدولي من جهة، ثم بعد ذلك إزاء السكان الذين يديرهم (داعش)» من جهة أخرى.
أما العامل الثالث فهو فرعي وثانوي، فالتعصب ليس وليد الظاهرة الإرهابية، بل العاملان المشار إليهما أعلاه. ولهذا يعده بورغا البعد الإيديولوجي المقدس، والمعجم الديني القادم من ظرف «داعش»، مجرد عامل مساعد؛ لكن هذه «القراءة الأكثر شيوعا، ليس في الغرب فحسب، لظاهرة (الجهادية)، تتمثّل في اعتبار الجهاديين (متعصّبين)، وهذا ما يشكل وسيلة لإنكار أن العملية التي أنتجت هؤلاء (المتعصّبين) هي، في الواقع، سياسوية»؛ رغم أن تجربة الجزائر بشمال أفريقيا، وتجربة العراق وسوريا حاليا تثبت أن الأزمات السياسية هي التي تخلق الإرهاب وتنعش جغرافية انتشار التنظيمات الإرهابية.

«داعش» يستمر في العراق
وبناء على ما تقدم، فإن الأزمة السياسية الحالية التي تعصف بالعراق وسوريا، هي التي تفسر وجود سيطرة تنظيم داعش على بعض المناطق التي يعدها ولايات تابعة لدولته المزعومة رغم الهزيمة النكراء التي مني بها في عاصمة «خلافته المعلنة». على المستوى العملي، لا يزال تنظيم البغدادي موجودا في ولاية دجلة (شمالي وسط العراق) وولاية الفرات (غربي وسط العراق)، وولاية كركوك التي تتمتع بموقع استراتيجي ونشاط كبير للتنظيم حاليا، وتقع شمالي وسط العراق؛ وولاية الجزيرة (شمال غربي العراق) وهي منطقة يعاني فيها التنظيم من صعوبات كبيرة جراء الحصار وضعف القاعدة الشعبية للتنظيم بالمنطقة. واقعيا لا يسيطر تنظيم البغدادي الإرهابي في «ولاية الجزيرة»، إلا على مدينة تلعفر ونواحيها، فيما تعاني هذه السيطرة من حصار تفرضه «البيشمركة الكردية» شمالا، والجيش العراقي جنوبا وشرقا وغربا. وجراء هذه العزلة يعاني التنظيم في هذه المنطقة من صعوبات تنظيمية داخلية وصلت لدرجة إعلان جزء من مسلحي «داعش» تلعفر ولاية مستقلة عن «دولة الخلافة»؛ مما أدى إلى نشوب مواجهة مسلحة بين مقاتلي التنظيم الإرهابي يوم 14 يوليو (تموز) 2017 أسفرت عن 4 قتلى.
أما في ولاية كركوك، فالتنظيم كذلك يتمتع بوجود مهم في منطقة لها أهمية في الجغرافيا السياسية العراقية؛ حيث إن «داعش» يوجد على التماس مع «قوات البيشمركة الكردية»، من جهة الشمال؛ ولا تخفي هذه القوات رغبتها في التوسع على حساب المناطق الخاضعة لـ«داعش»، لأسباب سياسية، وهذا ما يجعل المواجهة بين الطرفين مستمرة، وتشهد تنسيقا بين الأكراد والولايات المتحدة الأميركية التي توفر الغطاء الجوي للبيشمركة. ورغم ذلك، فإن تنظيم البغدادي يعرف نشاطاً في مناطق الرياض والحويجة ودوكمات والرشاد، مستغلا بذلك الطموحات القبلية بالمنطقة، وقدرته الجيدة في إدارة الموارد بين السكان.
وعلى مستوى «ولاية الفرات»، تعد منطقتا القائم ورواة، محل نشاط مهماً للتنظيم لتوفر الموارد الفلاحية، كما أن الولاية منفتحة على سوريا حيث يتمتع التنظيم بحرية الحركة، مما يحافظ للمنطقة على نوع من التوازن والسيطرة الداعشية.

لماذا يستمر الإرهابيون؟
هذا الاستمرار على أرض العراق وسوريا رغم المواجهة الدولية والمحلية للإرهابيين، لا يعود لما يسميه عالم السياسيّة الفرنسي أوليفييه روا «أسلمة التعصب» وولادة «ظاهرة جيليّة عدميّة»، هدفها الانتقام من الآخر، بل إن الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، باعتبارها ظاهرة خلقتها الأزمة السياسية، تتقوى باستمرار؛ نظرا لعامل معقد، يتلخص في استحالة فصل الأسباب الداخلية للتنظيمات، عن طبيعة السياسة الخارجية للدول الغربية بمنطقة الشرق الأوسط، حسبما يؤكد فرنسوا بورغا.
ولذلك يلاحظ المتخصص في التنظيمات الإرهابية أنها تخلق آليات جديدة للتكيف مع طبيعة تحولاتها الداخلية، كما تنوع من طرق مواجهتها مع القوى الغربية التي تعدها مستعمرة للمنطقة. وفي هذا السياق، تظهر التحركات الأخيرة لتنظيم داعش، أنه واع بقسوة الهزائم التي تلقاها في المعارك الأخيرة، وما صاحبها من فقدان قيادييه العسكريين والماليين وصولا لمزاعم مقتل زعيمه البغدادي؛ كما أن التنظيم يحاول «تجاوز» الصعوبات التي يعانيها بالعراق، ولذلك عمل على خلق مركز جديد بمدينة الميادين بمحافظة دير الزور السورية، حيث حرية الحركة والقدرة على رص الصفوف.
من جهة أخرى، يقاوم التنظيم بالرقة السورية، كما يستعد للمعركة المقبلة مع الجيش العراقي والتحالف الدولي، وستكون مدينة تلعفر وبمشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي»، ولا يعرف لحد اليوم ما إذا كان التنظيم سيتشبث بالمدينة في حال الهجوم عليها؛ خصوصا أن القيادي البارز في التنظيم «أبو البراء الموصلى»، أكد أن ما وقع بالموصل هزيمة، فيما قالت مصادر أمنية عراقية إن عدد مقاتلي «داعش» بتلعفر، نقص إلى نحو 350 مقاتلا، وكان قبل معركة الموصل للتنظيم نحو ألف مقاتل بالمدينة.
عموما يمكن القول إن الخبراء والمتخصصين في الظاهرة الإرهابية متفقون على أن المعركة الدولية مع تنظيم البغدادي، تحقق هدفها تدريجيا بالتحطيم المستمر لخرافة صناعة «داعش» وقدرة التنظيم على الإمساك بالأرض وبناء الإدارة والمؤسسات. إلا أن هذه الهزائم المتوالية، كما يقول الباحث الأميركي المتخصص في الإرهاب «هارون.ي. زيلين» لن تؤدي «إلى القضاء على الجماعة، التي ستستمر في تشكيل تهديد من ناحية التمرد والإرهاب، لكنها ستزيل أي حجج قد يميل (الجهاديون) إلى تقديمها لتبرير استمرارية دولتهم؛ حتى لو كانت تلك الدولة عبارة عن مجرد صورة مضمحلة لكيانها السابق».
أما بالنسبة لعالم السياسة والخبير، فرنسوا بورغا، مدير الأبحاث في «معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي» في «إيكس أون بروفانس»؛ فإن «ما حدث في الموصل هو أن العالم قدّم مفاتيح أبواب ركام مدن سنية إلى ميليشيات شيعية أو كردية، وبهذا الشكل فقد تمّ التأجيل زمنيا والتوزيع جغرافيا للمشكلات التي لم تقدر المنظومة الدّولية على حلها. في العراق، كما في سوريا وغيرها من الدّول المُشابهة لها، لطالما لم يتم بناء مُؤسّسات سياسية صلبة قادرة على معالجة الأسباب العميقة للتطرّف في الموصل. انتصرت القوة المُطلقة العمياء وفشلت السياسة».
وهذا الفشل يجعل من تنظيم داعش مظهرا بارزا للأزمة السياسة العامة التي تضرب العراق منذ سنة 2003، وسوريا بعد سنة 2011. وبالتالي، فإن عجز المؤسسات السياسية للدولتين، على تجاوز البنية الطائفية العنيفة، وضمان المشاركة السياسية للجميع وتحقيق المواطنة، وبناء ديمقراطية تشاركية؛ يجعل من فرص القضاء على الإرهاب شبه منعدمة، حسب ما يطرحه عالم السياسة والخبير في الظاهرة الإرهابية، فرنسوا بورغا.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية
بجامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.