في استوديو ماتيس... تأثيرات أفريقية وصينية وإسلامية

36 قطعة من مقتنيات الفنان وإبداعه وتجسيدها في 65 لوحة وعملاً

عمل بعنوان «ميموسا» يبرز مرحلة متأخرة من فن هنري ماتيس (أ.ف.ب) - مزهرية أندلسية من الزجاج (فرنسوا فيرنانديز - نيس) - إناء لصنع الشكولاتة الساخنة من مقتنيات ماتيس الأثيرة  يظهر في أكثر من لوحة (الشرق الاوسط)
عمل بعنوان «ميموسا» يبرز مرحلة متأخرة من فن هنري ماتيس (أ.ف.ب) - مزهرية أندلسية من الزجاج (فرنسوا فيرنانديز - نيس) - إناء لصنع الشكولاتة الساخنة من مقتنيات ماتيس الأثيرة يظهر في أكثر من لوحة (الشرق الاوسط)
TT

في استوديو ماتيس... تأثيرات أفريقية وصينية وإسلامية

عمل بعنوان «ميموسا» يبرز مرحلة متأخرة من فن هنري ماتيس (أ.ف.ب) - مزهرية أندلسية من الزجاج (فرنسوا فيرنانديز - نيس) - إناء لصنع الشكولاتة الساخنة من مقتنيات ماتيس الأثيرة  يظهر في أكثر من لوحة (الشرق الاوسط)
عمل بعنوان «ميموسا» يبرز مرحلة متأخرة من فن هنري ماتيس (أ.ف.ب) - مزهرية أندلسية من الزجاج (فرنسوا فيرنانديز - نيس) - إناء لصنع الشكولاتة الساخنة من مقتنيات ماتيس الأثيرة يظهر في أكثر من لوحة (الشرق الاوسط)

للفنان العالمي هنري ماتيس جاذبية خاصة ومكانة لا ينازعه فيها أحد من الفنانين؛ فهو فنان لا يمكن حصره في دائرة واحدة، تغيرت أعمالة وتشكلت بحسب التيارات الفنية التي تأثر بها ومن خلال فنانين أعجب بأعمالهم واستلهمها في أعماله، وأيضا من المنسوجات ومن العمارة والفن الإسلامي، وغيرها كثير من المؤثرات التي تجعل زيارة أي معرض للفنان بمثابة اكتشاف جديد لفنه الخالد.
ويأتي المعرض الحالي الذي تستضيفه الأكاديمية الملكية للفنون بلندن (رويال أكاديمي أوف آرتس) ليستكشف جانبا مختلفا في عالم هذا الفنان الثري بالإبداع. المعرض بعنوان «ماتيس في الاستوديو» ويمتد على مساحة خمس غرف في «رويال أكاديمي»، مستكشفا كيف أثرت قطع اقتناها الفنان في مراحل مختلفة من حياته في تكوين لوحاته ومنحوتاته. والمعروف عن ماتيس أنه كان شغوفا بجمع القطع المختلفة، ليست بالضرورة قطعا ثمينة، لكنها جميلة ولمست في نفس الفنان وترا حساسا، تلك القطع ملأت الاستوديو الخاص به ووجدت طريقها لأعماله. الجديد هنا، هو أن منسقي المعرض قرروا إعادة اكتشاف تلك القطع وتجسيدها المتمثل في لوحات ومنحوتات ورسومات نفذها ماتيس، عبر عرضها بجانب تلك الأعمال الفنية.
ننطلق من الحجرة الأولى، حيث نجد أحد أقوال ماتيس مكتوبا أمامنا: «حياتي هنا بين جدران الاستوديو»، وهو ما كان واقعا حسب روايات الكثيرين ممن زاروا الفنان في مرسمه أو الاستوديو الخاص به، المكتظ بالقطع الأثيرة لديه من مفروشات وقطع سجاد وأقمشة ملونة ابتاعها من الجزائر ودول المغرب العربي، وأقنعة أفريقية ومزهريات من الفخار من الصين وغيرها. كل واحدة منها تعبر عن ثقافة مختلفة وعن تنوع في الذائقة الإبداعية للفنان. ولهذا؛ فإن دخول الاستوديو بالنسبة لأصدقائه كان يشبه الدخول في إحدى لوحاته وفي عالمه الفني. جمع ماتيس بعض تلك القطع خلال رحلاته وبعضها كانت هدايا تلقاها في فترات مختلفة وبعضها الآخر قطع متفرقة اشتراها من محال للعاديات والأنتيكات في فرنسا. جمع بين كل تلك المقتنيات إحساس الفنان ونظرته الخاصة، ويشبه ماتيس تلك القطع بالممثل الذي يمكنه تقمص عشرات الأدوار، كما يصف مجموعته بـ«المكتبة» التي يرجع لها دائما للبحث. ودأب على نقل مجموعته تلك معه من بيت لبيت وتنسيقها بإتفان وإبداع في كل مكان عاش فيه. المعرض يسجل ذلك بلقطات فوتوغرافية من استوديوهات ماتيس المختلفة، حيث نرى تلك القطع المتراصة حوله وهي نفسها التي نراها في الأعمال المختلفة التي أبدعها.
في الغرفة الأولى من المعرض نرى مثالا حيا لذلك، فهنا أكثر من لوحة نجد فيها آنية وإبريقا من الزجاج الأزرق، ونجد الإبريق ذاته في خزانة زجاجية أمامنا، ونراه مرة أخرى في صورة فوتوغرافية من استوديو ماتيس أرسلها الفنان إلى أحد أصدقائه وكتب عليها واصفا إياها بأنها: «قطع استعنت بها طوال حياتي». تبدو تلك الترددات مهمة للزائر؛ فهي تخلق نوعا من الألفة، وأيضا تفسر للناظر مراحل عمل الفنان وكيفية تحول تلك القطع على يديه لتشغل حيزا مهما من لوحاته. يقدم المعرض 35 قطعة إلى جانب 65 عملا فنيا لماتيس من اللوحات والرسومات والمنحوتات والقصاصات الملونة.
في عام 1951، قال ماتيس «كنت أعمل وأمامي القطع نفسها... كل قطعة مثل الممثل. فالممثل الجيد يستطيع القيام بأدوار في عشر مسرحيات مختلفة، والقطعة تستطيع أن تلعب دورا في عشر لوحات مختلفة». ولهذا كان يحمل تلك القطع القريبة إلى نفسه معه إلى أي مكان يسافر إليه. في أحد أقسام المعرض يحمل عنوان «القطعة كممثل» نجد أمثلة للطريقة التي أعاد ماتيس بها استنساخ بعض كنوزه من القطع المختلفة، من خلال إناء للشرب ومزهرية أندلسية من الزجاج الملون وإناء لصنع الشوكولاته الساخنة كان هدية لماتيس بمناسبة زواجه، كل تلك القطع نراها على الطبيعة ونراها مرة أخرى تشكلت في رسومات أو على هيئة قصاصات ورقية أو في لوحة زيتية.
في الحجرة المجاورة نستكشف تأثر ماتيس بالأقنعة الأفريقية التي جمع بعضها خلال أسفاره في وسط وشمال أفريقيا، ونرى من خلال لوحات ومنحوتات مختلفة تأثير الأقنعة الأفريقية وتكوين الرأس متأثرا بقناع ذي مقدمة عالية ظهر في منحوتة لرأس امرأة ذات جبهة عالية. في حجرة تحمل عنوان «الوجه» نرى أيضا تأثير الأقنعة الأفريقية مرة أخرى على رسم البورتريه وتكوين الوجه الإنساني. التأثير الأساسي يظهر في تجريد وتبسيط الملامح الإنسانية، فمن ينسى تلك اللوحة التي يعبر فيها الفنان عن وجه امرأة بخطوط بسيطة مستعيضا عن كل التفاصيل بخط للأنف وخطين للعينان ليكون بورتريه يقدم معنى جديدا للإبداع.
الاستوديو والمسرح
ربما من أكثر أقسام المعرض تنوعا، ولا عجب في ذلك؛ فمعظم القطع هنا تحمل لمسات ماتيس الشهيرة في استخدام النقوش والألوان الرائعة، وهي أيضا مستوحاة من رحلاته لشمال أفريقيا والجزائر تحديدا. أشكال الفن الإسلامي بنقوشه المجردة كانت بلا شك من التيارات التي جذبت ماتيس بشكل كبير، وظهرت في أعماله على هيئة ستائر ملونة وقطع من السجاد الشرقي البديع، أو موضوعيا في نساء مرتكزات على وسائد ملونة وهن يرتدين أيضا ملابس تحمل التأثيرات الشرقية. تقول قيّمة المعرض إن ماتيس أحب العمارة الإسلامية وأشكال الفن الإسلامي، كما تأثر بلوحات الفن الاستشراقي، وهو ما ظهر في لوحات النساء المرتكزات على أبسطة ووسادات وثيرة ملونة.
في هذه الغرفة نجد أمامنا ماوراء إبداع الفنان في تلك اللوحات، فهنا نجد ثلاث قطع من القماش الملون، تقول منسقة المعرض إنها كانت تستخدم ستائر تحجب الشمس، وتسمح بتسلل الضوء من خلال فتحات بها، هناك أيضا مقعد منخفض إلى جانب طاولة صغيرة مطعّمة بالصدف. العرض جميل في حد ذاته، لكنه يكتسب جمالا أكثر لوجود اللوحات التي تجسدت فيها تلك القطع، فكل قطعة منها تحتل جانبا مهما في اللوحات المعروضة أمامنا. في صورة فوتوغرافية نرى استعداد ماتيس لرسم إحدى اللوحات، ونرى امرأة متمددة على بساط ملون وترتكز إلى وسائد وثيرة، وفوقها علق الفنان قطع القماش الملون. من خلال تلك النقلة ما بين القطع الأصلية والصورة التي تصور مراحل عمل الفنان، وبين اللوحة النهائية نجد أنفسنا منغمسين في عالم فنان مبدع، ونرى كيف تحولت القطع الصامتة أمامنا لتصبح حية متلونة وكأنها تتنفس في لوحاته.
في عالم من الإشارات
الغرفة الأخيرة تأخذنا لعالم القصاصات الملونة التي أبدعها ماتيس في نهاية حياته، وهي السنوات التي أقعدته عن الحركة فصبّ جل فنه وعبقريته في قص الأوراق الملونة ليخلق منها عوالم من الأشجار والبشر والبحار والحوريات. هنا لوحة خشبية بديعة منحوت عليها بلون ذهبي بعض أشكال الحروف الصينية، رموز مجردة وبسيطة يستوحيها ويبدع من خلالها.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».