ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
TT

ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)

إن التجربة هي أكثر العوامل الفاعلة والمؤثرة في سقوط آيديولوجيا التطرف العنيف وجاذبيتها، فبها تسقط الوعود والتأويلات الخاطئة للدين في مرآة الواقع والمجتمع والأمة. كانت التجربة الفاصل الأهم في سقوط إمارات الخوارج جميعا في القرن الثاني الهجري، وخاصة أكثرهم تشددا وغلواء في التاريخ.
تتسم بدايات دعوات وتنظيمات التطرف العنيف بالجاذبية والإغراء للمستعدين لها، من المتعصبين والمهمشين والمغرر بهم، وينشط دعاتها في طرحها خلاصا من الجور والظلم، والتزام تمامي بصحيح الدين وصلاح الدنيا، وتنشط ماكينة أدبياتهم وخطاباتهم في رفض تشويه كل نقد لهم، في التفاف واقتطاف يناقض الضبط والنسق، فإذا ضيق عليه فكرا لجأ للواقع سندا والعكس صحيح أيضا.
تبنى الأسوار الضخمة لحماية الاعتقاد الآيديولوجي العنيف من مخاطر المراجعة والتصحيح والنقد، بحصر وحكر الإفتاء في شؤون الجهاد والميدان لفقهاء الميدان، كما أعلن الظواهري وغيره في رسالته «التبرئة» التي رد فيها على ما أصدره شيخ الجهاد والقاعدة السابق وصاحب «الجامع في طلب العلم الشريف» - المرجع الأهم حتى حينه - سنة 2009، وهو حائط الصد الذي رفعته مختلف الجماعات والتنظيمات الأصولية والانغلاقية على مدار التاريخ.
ولكن مع اختبار الوقت والمعايشة والصراع الذي يحصر ويحشر العمران والاجتماع البشري فيه أبدا لدى هذه الجماعات التطيرية والتصفوية لمخالفيها، تسقطها التجربة، وتسقط معها الوعود واليوتوبيا المزعومة، كما تنفض عنها هذا السحر الجذاب للمجندين والمنتمين بل يستدرك بعض هؤلاء متأخرا سقوط قناعاتهم السابقة وتوظيفهم الخادع إعجابهم واعتقادهم أرضا، على التجنيد وتغيير العالم والانقلاب على التاريخ والزمن وتنظيمات متطرفة كانت أكثر عنفا وحضورا وتأثيرا في زمانها كذلك من الخوارج وفرقهم العشرين، وخاصة أكثرهم تطرفا كالمحكمة والأزارقة والنجدات، التي أسست أول دولها سنة 60 هجرية في الأهواز العربية، التي لم يعد بها خارجي، كما برزت فيها أسماء نساء وقائدات مرموقات كغزالة التي فر من أمامها الحجاج بن يوسف في إحدى المعارك، وكان يعاير بذلك في الشعر، ولكن كسر التاريخ صولة هؤلاء ووأد جذوة التطرف فيهم.
كما برز المتطرفون من غير الخوارج كالحشاشين الذين نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك السلجوقي سنة 457 هجرية والخليفتين العباسيين الراشد والمرشد وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك، وحاولوا قتله أكثر من مرة حسب بعض الروايات، وظلوا شوكة في جسد هذه الأمة حتى قضى عليهم في قلعة الموت هولاكو المغولي سنة 656 هجرية، كما قضى عليهم في الشام الظاهر بيبرس المملوكي بعد ذلك بسنوات قليلة.
وهكذا، كما كان لـ«داعش» وخلافته المزعومة جولة يخفت نجمها الآن، كان لغيره من جماعات وفرق التطرف العنيف - على مدار التاريخ - جولات سطع فيها نجمها كذلك، ثم انتهى لخفوت، وأقاموا دولا وإمارات كما أقام لكن انتهت للتلاشي والسقوط والاندثار كذلك، ولم يبق إلا بقاياها الأكثر اعتدالا هنا وهناك.
وتبدو العبرة المؤكدة أن التاريخ لا يقبل من يكفرون بقوانينه، وينقلب على من ينقلبون عليه، كما أن الدين يبقى جوهره ووسطه، ويذهب المشادون له، ولا يمكن أن تكون آيديولوجيا العنف خيارا مؤبدا فيه. لم تنجح الأصوليات عبر التاريخ في مصارعة قوانينه، ومع إرهاصات ما بعد «داعش» التي تنازع الحياة وخسارة معاقلها الرئيسية في الموصل والرقة وغيرهما، ندخل مرحلة ما بعد «داعش» التي نتوقع لها كمونا وتراجعا خطرا طويلا للإرهاب وجماعاته بعدها، لن يظهر منه إلا علامات يأسه وانتقامه من ساقطيه.

ملامح تجربة التطرف العنيف
رغم ما حاولته تجربة «داعش» في الحكم لبؤر تمكينها خلال الأعوام القليلة الماضية من تجربة الدولة واعتماد التنظيم والتقنين، في الموصل والعراق وفي سرت ودرنة وغيرها، من طبع عملات وإنشاء دواوين وتنظيمات عمومية، بل وتسويق سعادة مواطنيها والواقعين تحت حكمها في هذه المناطق المختلفة، عبر الكثير من التسجيلات المصورة، وهم يلهون على البحر أو يتسابقون في مسابقات محلية، إلا أن قسوة الفكرة ووحشيتها جعلت الترحيب بسقوطها أينما وجدت واضحا، ليس فقط لدى من تسلطت عليهم من المواطنين الأبرياء والمسالمين ولكن أيضا لدى منافسيها الآيديولوجيين والجهاديين الآخرين كـ«القاعدة» وفروعها وغيرها من الفصائل المقاتلة هنا وهناك.
عانى الجميع مع «داعش» مرارة الألم، المعارضون لها - قطعا - والمختلفون معها كلا أو جزءا، وكذلك من قاتلوها ومن سالموها، المسلمين وغير المسلمين، على السواء، وكان الاتهام بالكذب والتزوير والتوحش لها اتهاما سائرا ومتواترا يصارح به كل من عرفها وذاق تجربتها.
أصدرت مختلف تنظيمات التطرف العنيف بيانات وانتقادات نظرية في نقد تجربة وممارسات «داعش» ضدها، كما تحاربت وتقاتلت عمليا معها أو فيما بينها، وظلت صراعاتها دليلا على ضيق أفق الخلاف وسعاره فيما بين المنطلقين من نفس الأرضية الفكرية والمؤمنين بنفس الغايات والأهداف، ولم تنفع أو تشفع لوقف قتالهم يوما دعوات التوحد والتكتل التي كان يطلقها المتوسطون بينهم، بل لا شك أن الصراعات البينية بين «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف العنيف كانت سببا رئيسيا في إضعافها مع الوقت في كل ساحة، وإضعاف منافسيها كذلك.
كذلك أثبتت وكشفت التجربة الداعشية العطب البنيوي العميق داخل التنظيم وعلاقاته، بين تكفير وقتل وخيانة وسرقة وفساد ومساوئ أخلاقية وسلوكية مختلفة تناقض ما تطرحه آيديولوجيا اليوتوبيا المزعومة من وعود بالصلاح والإصلاح، فقد أعدم التنظيم بعضا من أبرز رفقائه السابقين ربما كان أشهرهم أبو خالد السوري في مارس سنة 2013 الذي وسع شقة الخلاف بين قاعدة العراق (داعش فيما بعد) والقيادة المركزية لـ«القاعدة» ممثلة في أيمن الظواهري، كما أعدم بعضا من أبرز دعاته كأبي عمر الكويتي، واستبعد الكثيرين ممن هللوا لآيديولوجيته وشعاراته وخليفته بل كان أحدهم تركي البنعلى (أبو همام الأثري) الذي تم استبعاده في يونيو (حزيران) سنة 2016 الذي كان أول من دعا في رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» لخلافة أمير «داعش»، كما كان في نظر منظري السلفية الجهادية والقاعدة وغيرها المسؤول الأول عن الغلواء والتعصب الذي يحرق به التنظيم ويحترق في الآن نفسه.
ومن هنا نفهم لماذا لم تقبل «القاعدة» أو فروعها أو غيرها من الجماعات على إصدار أو دعوة لمساندة «داعش» في تراجعها في معاقلها، فبينما صدرت البيانات تلو البيانات تعليقا على خلافات جبهة فتح الشام - النصرة سابقا وحلفاؤها - وجبهة أحرار الشام التي اشتعلت مجددا مؤخرا للتوقف والمصالحة وصدرت البيانات بخصوص أحداث الأقصى في يوليو (تموز) الجاري بخصوص ما يجري من اعتداءات على المسلمين في المسجد الأقصى، وصدرت النداءات من كل جماعة أصولية بخصوصه وغيره، إلا أننا لم نجد أصولية أخرى ترفض سقوط تمكين «داعش».
ولكن المعاناة الأكثر بالطبع كانت من وقع تحت سيطرتها من المواطنين السلميين، وخاصة من غير المسلمين، كالأيزيديين في جبل سنجار في العراق قبل تحريرهم بعد ذلك، وسافرت مأساتهم مختلف بلدان العالم، وبعض القبائل الرافضة لتسلطها كقبائل أبو نمر والشعيطات والجبور في العراق أو في سوريا، وقبائل الترابين الذين اصطدموا بمجموعات «داعش» في سيناء، في أبريل (نيسان) الماضي من العام الجاري وغيرها من الأقليات والقبائل كذلك، وقد مثلت بعضها حاضنة سابقة لصعودها سواء في تجربة دولة العراق الإسلامية سنة 2006 التي أنتجها حلف «المطيبين» أو في صحوتها الثانية بعد استمرار سياسات التمييز الطائفي ضد القبائل والمحافظات السنية في العراق أثناء الفترة الثانية لحكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
فقدت «داعش» بعد التجربة حواضنها المحتملة، ولم يعد ممكنا لها تكرار ما سبق من نجاح في توظيف بعض المظلوميات الاجتماعية السابقة، بل صارت تمثل جحيما أكثر بشاعة من الواقع الذي دعت للتخلص منه، وسرقت ثوراته ومطلبياته لأجندتها وأهدافها الخاصة، فكانت عبئا أينما حلت ولم تكن حلا.
ومن أهم ملامح التجربة الداعشية بعد انهيارها أنها لم يعد لها هذا الزخم الانتحاري السابق، وأن نهايتها الحتمية هي السقوط والانتهاء، فرغم صلابة وعنف وتوحش ممارساتها، إلا أنها انتهت بهروب وألقى مقاتلوها بعناصرهم في نهر الموصل، وهرب بعضهم الآخر، واختفى قادتها ودعاتها، بل توقفت خلال الأسابيع القليلة الماضية أغلب إصداراتها ومنابرها الإعلانية، واختفى البغدادي بعد إشاعة مقتله.

أفول طويل للوعد الأصولي
نرى أن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد أزمة كبيرة لتنظيمات التطرف العنيف، كما شهدت مرحلة ما بعد الإخوان أزمة عنيفة لتيارات الإسلام السياسي، فالتجربة كانت فاصلا واختبارا مرا سقطت فيه وتعرت عن جوهرها الشعارات السهلة المؤثرة في آن، كما كشفت كذلك الكثير من سوءات القاموس والسلوك الانغلاقي والتفكير التآمري داخليا وخارجيا، وعلى الجماهير التي تحاول هذه التنظيمات اختطافها.
فالتجربة كانت القاضية والحاسمة التي تمهد لدخول التنظيمات الإرهابية وآيديولوجياتها سرداب النسيان أو الكمون عقودا، دون الإصرار السابق منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011 على الحكم والتحكم وعلى أدلجته وتوظيف نتائجه لصالحها فقط، سواء في ذلك تجربة التطرف العنيف أو تجربة الحركات السياسية شأن الإخوان المسلمين، ولكن يظل الرهان هو عدم توفر الظروف والسياقات السابقة التي أنتجت وتولد منها الصعود السابق، من أزمات الدولة والإدارة والتمييز وغيرها.
إن الأفول لا يعني النهاية الأبدية ولكنه يعني سقوط الهالة والجاذبية ويعني الكمون بعد غروب القوة والقدرة، وتظل النهاية لمشاريع كبيرة تحتمل التجدد هو تجدد مكافحتها فكريا وثقافيا بمنظومة شاملة تملأ كل الفجوات والفراغات التي يمكن أن تتسرب منها وتظهر في وجه العالم من جديد.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.