«رباعي النورماندي» يحاول الاتفاق على التسوية الأوكرانية

«وصفة ماكرون» لم تحل الأزمة... وسلاح أميركي لمواجهة «التهديد الروسي»

«رباعي النورماندي» يحاول الاتفاق على التسوية الأوكرانية
TT

«رباعي النورماندي» يحاول الاتفاق على التسوية الأوكرانية

«رباعي النورماندي» يحاول الاتفاق على التسوية الأوكرانية

بعد مضي سنوات على توقيع «اتفاقيات مينسك» لتسوية الأزمة الأوكرانية، ما زال التوتر سيد الموقف في منطقة الدونباس Donbass، الواقعة بجنوب شرقي أوكرانيا التي تضم مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك. ويبدو أن قادة الميليشيات المحلية الموالية لروسيا في الدونباس يشعرون بإحباط غير مسبوق، الأمر الذي دفعهم إلى إعلان تأسيس «دولة جديدة» أطلقوا عليها اسم «مالوروسيا»، أي روسيا الصغرى. وفي خلفية هذا المشهد المعقد يواصل «رباعي النورماندي» جهوده لوضع «اتفاقيات مينسك» على مسار التنفيذ، واندفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أمل تفعيل دور بلاده في النزاعات الإقليمية، وأعلن عن اقتراحات للتسوية في أوكرانيا، وهو ما أطلق عليه «وصفة ماكرون» للحل. وهذا، بينما تعلق موسكو الآمال على تسوية للأزمة الأوكرانية، لتتخلص من بؤرة نزاع متاخمة لحدودها، ولترتاح قليلا من عبء العقوبات الغربية، وتزيل جانباً من التعقيدات في العلاقات الثنائية مع أوروبا والولايات المتحدة.
استعادت أخيراً الجهود الدولية لتسوية الأزمة الأوكرانية بعض الزخم، لا سيما بعد تنصيب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية في فرنسا، وبعد اللقاء الأول الذي عُقِد بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب على هامش «قمة العشرين» في هامبورغ يوم 7 يوليو (تموز).
وفي حين تلعب واشنطن دورها مستقلة في الأزمة الأوكرانية، فإن كلا من باريس وبرلين تُسهِم في جهود التسوية من خلال «رباعي النورماندي»، وهو الإطار الذي يضم رؤساء كل من روسيا وفرنسا وأوكرانيا ومستشارة ألمانيا، وتم تشكيله عقب لقاء أول جمع الزعماء الأربعة في فرنسا صيف عام 2014، خلال الاحتفالات بالسنوية السبعين لإنزال الحلفاء في شاطئ النورماندي بشمال غربي فرنسا.
ويجري ضمن «رباعي النورماندي» بحث عملية التسوية الأوكرانية بصورة خاصة. ولقد عقد قادة المجموعة لقاءات عدة حول الوضع في أوكرانيا، فضلاً عن اتصالات هاتفية رباعية وثنائية كثيرة خلال العامين الماضيين، إلا أن المحادثات بين موسكو وباريس بصورة خاصة شهدت فتوراً في الأشهر الأخيرة من فترة رئاسة فرنسوا هولاند، بسبب انتقادات فرنسية شديدة اللهجة للقصف الروسي على مدينة حلب السورية حينها. ولكن لاحت في الأفق معالم تحرك فرنسي بنبض جديد مختلف لتسوية الأزمة الأوكرانية بعد الانتخابات الرئاسية في فرنسا، حيث أظهر ماكرون رغبة واستعدادا لمواصلة الحوار مع بوتين حول ملفات الأزمات الإقليمية والدولية، وهو ما تلقاه الكرملين بارتياح. وضمن هذه الأجواء وصل الرئيس الروسي في زيارة إلى فرنسا وأجرى محادثات موسعة مع ماكرون يوم 29 مايو (أيار)، أي بعد ثلاثة أسابيع فقط على فوز الثاني في الانتخابات الرئاسية.
وعقب تلك المحادثات قال ماكرون إنه بحث مع ضيفه الرئيس الروسي «مختلف التفاصيل حول تنفيذ اتفاقيات مينسك الخاصة بتسوية الأزمة الأوكرانية»، وأكد على رغبة فرنسية - روسية مشتركة تبلورت خلال المحادثات، للدعوة للقاء جديد لـ«رباعي النورماندي»، والاستماع إلى تقرير بعثة «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» حول تفاصيل ما يجري في أوكرانيا. وشدد على أن باريس تأمل بالتوصل إلى تهدئة للنزاع في جنوب شرقي أوكرانيا في إطار عملية مينسك الخاصة بالأزمة الأوكرانية.

الموقف الفرنسي
بيد أن هذه الأجواء الإيجابية للعلاقات الفرنسية - الروسية، لم تكن تعني، كما اتضح لاحقاً، أي تغير في الموقف الفرنسي من الأزمة الأوكرانية، لا سيما تحميل روسيا المسؤولية عما يجري. هذا ما أكدته محادثات أجراها الرئيس ماكرون في باريس بنهاية يونيو (حزيران) الماضي مع نظيره الأوكراني بترو بوروشينكو، وخلالها وصف ماكرون روسيا بأنها «دولة معتدية» على أوكرانيا. وفي رده على التصريحات الفرنسية، قال ديمتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين: «لسنا متفقين مع الزملاء الفرنسيين حول تلك الصيغة التي صدرت فيها تصريحات الرئيس الفرنسي». وأكد أن «الجانب الروسي دون شك يواصل بصبر توضيح حقيقة الوضع في أوكرانيا، وموقفه من الأزمة هناك». إذ يتهم الغرب روسيا بأنها طرف مباشر في النزاع المسلح الدائر جنوب شرقي أوكرانيا بين السلطات الحاكمة في كييف والميليشيات المحلية في لوغانسك ودونيتسك التي تحظى بدعم عسكري وسياسي روسي. ومن جانبها، ترفض روسيا تلك الاتهامات وتكرّر دوماً أنها ليست طرفا في النزاع.
الرئيس الفرنسي عرض على ضيفة الأوكراني رؤية حول آليات تنفيذ «اتفاقيات مينسك». وعقب المحادثات قال الرئيس الأوكراني بوروشينكو: «ما اتفقنا عليه (مع ماكرون) أننا سنضع على الورق مشروع الحلول الممكنة ضمن رباعية النورماندي، وسيطلق عليها «وصفة ماكرون». وأعرب عن قناعته بأنه حينها «سنتمكن من عرض خطة لتحقيق السلام، وأنها احتلال شرق أوكرانيا». وذكر قسطنطين يليسييف، نائب مدير إدارة الرئاسة الأوكرانية، إن تلك الوصفة تقوم على «خطوات صغيرة لكن محددة»، وأوضح أن «تلك الوصفة تنص على عمل مشترك هادف، بغية ضمان التنفيذ التام لاتفاقيات مينسك، عبر خطوات صغيرة محددة». وأكد أن الآلية التي عبر عنها الرئيس الفرنسي «تعكس إدراكاً لحقيقة أن الأولوية تبقى لحل المسائل المتصلة بحزمة الأمن في الاتفاقيات»، مشدداً على أن البداية ستكون من وقف إطلاق النار والسماح بتنقل حرّ للمراقبين في منطقة النزاع.

تجدد الآمال
بعد هذا النشاط من جانب الرئيس الفرنسي الجديد، والاهتمام من جانب الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالوضع في جنوب شرقي أوكرانيا، تجدّدت الآمال بإمكانية التوصل إلى اتفاق حول آلية لتنفيذ اتفاقيات مينسك، وإنهاء الأزمة الأوكرانية. والجدير بالذكر أن «اتفاقيات مينسك» - كما سبقت الإشارة - وثيقة تتضمن رؤية لتسوية الأزمة الأوكرانية توافق عليها قادة «رباعي النورماندي»، أي الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والروسي فلاديمير بوتين والأوكراني بيوتر بوروشينكو والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلال مباحثات أجروها في العاصمة البيلاروسية مينسك عام 2015. وتنص «الاتفاقيات» على سحب الجانبين للقوات لمسافة معينة بعيدا عن خطوط التماس، وإجراء انتخابات محلية في منطقتي لوغانسك ودونيتسك، واستعادة السلطات الأوكرانية السيطرة على كامل الحدود مع روسيا، وخروج كل القوات والميليشيات الأجنبية من الأراضي الأوكرانية.
وخلال السنوات الماضية كانت هناك محاولات عدة لإطلاق العمل بموجب تلك الاتفاقيات، غير أن التصعيد العسكري كان وما زال يحول دون ذلك، ويحمل كل طرف المسؤولية عن فشل الاتفاق للطرف الآخر، ويؤكدان في الوقت ذاته تمسكهما بتلك الاتفاقيات كحل وحيد للخروج من الأزمة.

تعقيدات الأزمة
بيد أن مدى التعقيد حول الأزمة الأوكرانية برز بوضوح بعد محادثات أجراها الرئيس الروسي في هامبورغ مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكذلك بعد المحادثات الثلاثية هناك بمشاركة زعماء روسيا وفرنسا وألمانيا، وكان الرئيس الأوكراني غائباً لأن أوكرانيا ليست عضوا في «مجموعة العشرين».
يومذاك انتهت المحادثات الثلاثية حول إيجاد حل للنزاع في أوكرانيا من دون إحراز تقدم، ما يعكس الأزمة المستمرة منذ سنوات في محادثات السلام. وأعلن ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين أن الرئيس الروسي والمستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي «اتفقوا خلال المحادثات في قمة مجموعة العشرين على ضرورة اتخاذ خطوات للتغلب على تعثر وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عام 2015». ومن جهته، قال متحدث باسم الحكومة الألمانية: «كان هناك اتفاق بشأن ضرورة تنفيذ وقف إطلاق النار بشكل شامل»، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الألمانية.

ولادة «مالوروسيا»
ومع عدم التقليل من أهمية الحراك الفرنسي والنشاط الأميركي على المحور الأوكراني، فإن كل ذلك كله لم يأت بعد بأي نتائج ملموسة على الأرض. وتراوحت الحال في جنوب شرقي أوكرانيا ما بين «استعادة الأمل» و«خيبة الأمل» مجدداً، بينما استمرت انتهاكات وقف إطلاق النار في منطقة النزاع، الأمر الذي دفع قادة الميليشيات المسلحة في مناطق جنوب شرقي أوكرانيا إلى الإعلان عن مبادرة يرون أنها تمثل الحل السلمي الوحيد المتاح للأزمة الأوكرانية. وحسب تلك المبادرة أعلن قادة الميليشيات في الدونباس عن تأسيس «دولة» جدية تكون بديلاً وخلفاً لأوكرانيا، وزعموا أن «الدولة الأوكرانية» بشكلها الحالي انتهت، وعوضاً عن ذلك سيصبح اسمها «مالوروسيا»، أي (روسيا الصغرى). وللعلم، كان ألكسندر زاخارتشينكو، رئيس ما يُسمى «جمهورية دونيتسك المعلنة من جانب واحد»، إضافة إلى ممثلي 19 مقاطعة أوكرانية، أصدروا يوم 18 يوليو نص وثيقة دستورية للدولة الجديدة، جاء فيها: «نحن، ممثلي أقاليم أوكرانيا السابقة، نعلن تأسيس دولة جديدة، تكون وريثة قانونية لأوكرانيا. واتفقنا على أن تحمل الدولة الجديدة اسم مالوروسيا، لأن تسمية أوكرانيا فقدت مصداقيتها». وتم تحديد مدينة دونيتسك عاصمة للدولة الجديدة، بينما تصبح كييف مركزها الثقافي - التاريخي.
وبعد «الإعلان الدستوري» عبر زاخارتشينكو عن قناعته بأن قيام «مالوروسيا» يمثل مخرجاً سلميّاً من الأزمة الأوكرانية الحالية، وأن سلطات كييف «فاقدة للشرعية وعاجزة عن وقف الحرب».
هذه الخطوة، أكدت حالة شديدة من الإحباط في أوساط القوى السياسية جنوب شرقي أوكرانيا إزاء آفاق تطبيق «اتفاقيات مينسك»، ووضع نهاية للحرب المستمرة منذ ثلاث سنوات في المنطقة، وعبّر زاخارتشينكو بوضوح عن هذه الحالة، حين قال إن «الوضع وصل إلى طريق مسدود»، ووصف الإعلان عن مالوروسيا بـ«خطة لإعادة اندماج البلاد»، و«مخرج من الحرب عبر إعادة تأسيس الدولة». وأضاف أن «هذا مخرج سلمي لكنه يتطلب عدة شروط، أولها أن يحظى بدعم الأوكرانيين أنفسهم»، وأكد أن مشاورات جرت بهذا الشأن مع النخب السياسية ورجال الأعمال في الأقاليم، قبل اتخاذ قرار إعلان الدولة الجديدة، وعبر عن أمله بالحصول على تأييد المجتمع الدولي.
ولكن كان لافتاً التوافق بين موسكو وكييف على رفض مبادرة إقامة دولة «مالوروسيا». وقال بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، إن تصريحات زاخارتشينكو رئيس «جمهورية دونيتسك الشعبية» تمثل «مبادرة شخصية منه». وأضاف أن «موسكو علمت بهذا الأمر من تقارير وسائل الإعلام». وشدد بيسكوف في الوقت ذاته على التزام روسيا بـ«اتفاقيات مينسك» الخاصة بتسوية النزاع شرق أوكرانيا.
من جانبه، قال بوريس غريزلوف، ممثل روسيا لدى مجموعة الاتصال الدولية لتسوية الوضع في أوكرانيا «إن هذه المبادرة لا تتوافق مع عملية مينسك... واعتبر هذا الأمر مجرد دعوة للمناقشة، لأن هذا الإعلان لا عواقب قانونية له». كذلك أعرب عن قناعته بأن «هذه المبادرة مرتبطة، على الأرجح، بالحرب الإعلامية وليست جزءاً من السياسة الواقعية». ولم يستبعد أن يكون إعلان دولة «مالوروسيا» جاء «ردّاً على التصريحات الاستفزازية، التي يدلي بها المسؤولون السياسيون رفيعو المستوى في كييف، وتعتبر غالباً غير مقبولة على الإطلاق». ومن جانبه، وردّاً على الإعلان عن الدولة الجديدة، تعهد الرئيس الأوكراني بيوتر بوروشينكو، بفرض السيادة واستعادة السيطرة على جميع أراضي الدونباس، وقال إن مصير «مالوروسيا» سيكون نفسه مصير «نوفوروسيا» في إشارة إلى «الدولة» التي أعلنت القوى في جنوب شرقي أوكرانيا عن تأسيسها بداية الأزمة، وبقيت حبراً على ورق.

دفعة للرباعي
إن الإعلان عن دولة جديدة اسمها «مالوروسيا» وإن بقي حبر على ورق، لكنه شكل رسالة دفعت «رباعي النورماندي» إلى التحرك. إذ أجرى الرؤساء ماكرون وبوتين وبوروشينكو والمستشارة ميركل محادثات خلال اتصالٍ هاتفي يوم 25 يوليو، استغرقت ساعتين، ركزوا فيها على بحث تطورات الأزمة الأوكرانية، لكن يبدو أنها كانت دون نتائج تذكر، أو على الأقل لم يتوصل قادة «رباعي النورماندي» إلى اتفاق حول آليات تنفيذ «اتفاقيات مينسك». واقتصر الأمر على إعلانهم عن «النية بالتوصل إلى اتفاق حول الخطوات في مجال الأمن»، ومواصلة العمل على تنفيذ اتفاقيات مينسك. ولهذا الغرض توافق القادة على عقد لقاء، يتوقع أن يكون في شهر أغسطس (آب) المقبل، لكن قبل ذلك سيجري مستشاري قادة «الرباعي» محادثات تمهيدية، لم يعلن بعد متى وأين ستجري. وقال المكتب الصحافي في الكرملين إن القادة المشاركين في المحادثات الرباعية «تبادلوا وجهات النظر حول الوضع في جنوب شرقي أوكرانيا»، على خلفية التصعيد المستمر هناك، واتفقوا على «الاتصالات اللاحقة بما في ذلك على أرفع مستوى».
في أي حال، كشفت المحادثات الهاتفية الأخيرة تمسك الرئيس الأوكراني بفكرة إرسال قوات حفظ سلام دولية بتفويض من الأمم المتحدة إلى منطقة النزاع، و«إطلاق سراح كل الرهائن، بما في ذلك الموقوفون بصورة غير شرعية في روسيا». وكان الرئيس الأوكراني قد دعا وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون خلال محادثات في شهر أبريل (نيسان) إلى تنشيط العمل عبر الأمم المتحدة على إرسال قوات دولية إلى منطقة النزاع. حينها رفض الكرملين الاقتراح الأوكراني، وعلق بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية، بأنه لا بد من بحث هذا الاقتراح بين الأطراف المتنازعة بداية، أي السلطات الشرعية في كييف والميليشيات في منطقة الدونباس. ثم شدد على ضرورة أخذ وجهات نظر جميع أعضاء «رباعي النورماندي» بالحسبان. وكانت روسيا قد رفضت نشر قوة بوليسية من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على الحدود الروسية - الأوكرانية. وحتى الآن تبقى محاولات تنفيذ «اتفاقيات مينسك» معطلة بسبب خلاف رئيسي حول النقطة التي يجب أن يبدأ التنفيذ منها... هل هي الفقرات المتعلقة بالأمن؟ أم الفقرات المتعلقة بالجانب السياسي؟
تنص الأولى على استعادة القوات الأوكرانية السيطرة على مناطق الدونباس، بما في ذلك الحدود مع روسيا. بينما تنص الفقرات السياسية على تثبيت وضع خاص للدونباس في الدستور الأوكراني، وإجراء انتخابات للقيادات المحلية، والسماح لتلك المناطق بتشكيل شرطة من أبناء المنطقة. وتريد روسيا تنفيذ الشق السياسي أولاً بينما يصر الجانب الأوكراني على الشق الأمني بداية.
هذا التباين الواضح في المواقف ينذر باستمرار النزاع في جنوب شرقي أوكرانيا، الأمر الذي في الوقت ذاته يعني بقاء التوتر مهيمناً على العلاقات بين روسيا والغرب، لا سيما أن الوزير الأميركي تيلرسون أكد للأوكرانيين أن العقوبات على روسيا ستبقى، وكذلك وافق الرئيس الأميركي ترمب أخيراً على مشروع قانون توسيع العقوبات ضد روسيا، لأسباب، بينها الأزمة الأوكرانية. أما كورت فولكر، ممثل الإدارة الأميركية في الأزمة الأوكرانية، فقد حمّل موسكو مسؤولية «الحرب» في شرق البلاد. وخلال جولة أجراها يوم 25 يوليو في مقاطعة دونيتسك قال فولكر: «هذه ليست أزمة جامدة. إنها حرب ساخنة وأزمة فورية نحتاج جميعاً إلى أن نتعامل معها بأسرع ما يمكن». وأضاف المبعوث الأميركي - الذي كان يرتدي بزة واقية للرصاص للصحافيين: «أردتُ أن أحضر إلى هنا وأن أرى الوضع مباشرة على طول خط الأزمة».
وتابع: «إنه حقّاً مستوى عالٍ من المعاناة... هناك كلفة بشرية كبيرة في هذا النزاع وهذا سبب آخر لوجوب تعاملنا معه بشكل عاجل». وأردف قائلاً ومتعهداً إن الولايات المتحدة ستنظر في إمكانية إرسال أسلحة دفاعية للقوات الأوكرانية التي تشارك في القتال في الدونباس، وأشار إلى أن «أسلحة دفاعية كتلك التي تسمح بتعطيل دبابة على سبيل المثال، من شأنها أن تساعد في واقع الأمر بوقف روسيا التي تهدد أوكرانيا».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.