«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

القارة السمراء مهددة بأن تغدو تربة خصبة للتنظيم المتطرف

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات
TT

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

يتساءل بعض المراقبين حول ما إذا كانت هزيمة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في العراق وسوريا ستكون منطلقاً لحقبة جديد من انتشار هذا التنظيم، في مواقع ومواضع أخرى حول العالم. وكان عدد من المتابعين والخبراء قد توقعوا أن يسعى «داعش» ليجد له موطئ قدم في آسيا، وبالذات في دول جنوب شرقيها، وتحديداً في الفلبين وإندونيسيا وماليزيا. ومعلوم أن البلدين الأخيرين اللذين يشكل المسلمون غالبية كبيرة من سكانهما، يمثلان خزاناً بشرياً يمكن استقطاب عناصر جديدة منه لإعادة إحياء الفكر والتنظيم المتطرفين معاً.
غير أن الأحداث وتواليها تشير إلى أن «الدواعش» قد يذهبون في طريقين: آسيا أحدهما، أما الطريق الآخر فهو أفريقيا. والمعنى أن يكون التحرك على جبهتين، ما يعطي زخماً وفاعلية لمريديه، ويعقّد في الوقت ذاته إمكانية القضاء المبرم عليه مرة واحدة. وثمة من يرصد أوضاع أفريقيا بالنسبة لتنامي الحركات المتطرفة، ويدرس إمكانيات إيجاد أرضية أصولية تساعد «داعش» على الانتشار التمدد في قلب القارة السمراء.
ليس سرّاً أنه قبل أن يظهر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف على سطح الأحداث في سوريا والعراق، كانت هناك جماعات ذات طابع إرهابي تنشط في مناطق شمال غربي أفريقيا، وإقليم الساحل، بصورة خاصة. وكانت غالبية هذه الجماعات قد وُلِدَت من رحم الجماعات التي ترفع ألوية إسلامية متشددة، لا سيما تلك القائمة والناشطة في دول المغرب العربي وبالأخص الجزائر، مثل «الجماعة الإسلامية الجزائرية».
وفيما بعد، بنتيجة الضغوط الأمنية المشددة عليها، فضلت الانتقال إلى إقليم الساحل وتخوم الصحراء الكبرى، ولقد غيّرت اسمها لاحقاً لتصبح «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
وعطفاً على هذا التيار، يبقى تنظيم «بوكو حرام»، في نيجيريا وجوارها، أحد أهم وأخطر وأعنف الحواضن الإرهابية المتطرفة التي تنشط في قارة أفريقيا من جهة الغرب. وهو مسؤول عن كثير من العمليات الإرهابية كخطف السياح، وقطع الطرق، والاعتداءات المسلحة على غير المسلمين. ثم أن تنظيم «بوكو حرام» معروف بعلاقاته مع بقية مجموعات الشباب النيجيري خاصة، والأفريقي عامة، التي تمضي في المنهج الراديكالي المغالي في محافظته.
ومن ناحية أخرى، يرى متابعون أنه مما لا شك فيه أن سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا أدى إلى تزخيم وتدعيم الكثير من الجماعات الإرهابية التي ترفع ألوية وشعارات إسلامية في أفريقيا، وتستفيد من تدفق السلاح من وإلى ليبيا. وتستفيد كذلك من تلاشي ملامح الدولة عبر الحدود المفتوحة، والانفلات الأمني، بل إن القذافي - لفترة ما من حكمه الطويل الذي استمر بين خريف 1969 وخريف 2011 - نفسه كان من أسباب انتشار الإرهاب في أفريقيا، وذلك عبر تسليحه وحمايته وتوجيهه المجموعات المتمردة والانفصالية في بعض الدول، وبالذات مالي، التي كان الزعيم الليبي السابق الراحل يستخدمها خنجراً في خاصرة دول غرب أفريقيا الشمالية.

أرضية أفريقية ممهدة
لقد وجد «داعش» بالفعل أرضية فكرية ولوجيستية مهيأة لحضوره في القارة السمراء، خصوصاً أن الطرح الرئيسي له أي قيام «دولة الخلافة الإسلامية»، هو عينه الذي تسعى وراءه الجماعات الأصولية الأفريقية المتطرفة، سواء كانت العربية الأصل، كما في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، أو الأفريقية الصرف مثل «بوكو حرام».
وفي هذا الإطار، لم يكن غريباً أو مثيراً أن تبايع جماعة «بوكو حرام» في شهر مارس (آذار) الماضي «داعش»، وتعلن الولاء الكامل والتام لقائده (أبو بكر البغدادي)، إذ في خطوة مفاجئة قال أبو بكر شيكاو زعيم «بوكو حرام» في بيان له: «نعلن مبايعتنا للخليفة، وسنسمع له ونطيعه في أوقات العسر واليسر». ولقد لفت هذا الأمر انتباه كثرة من المتخصصين في دراسة ومتابعة الحركات الإسلامية في أفريقيا، ذلك أن هذه المبايعة قد تخالف التقارب الشديد بين «بوكو حرام» و«تنظيم القاعدة». لكن يبدو أن ظهور داعش، الأكثر دموية، وتراجع «القاعدة» وعملياتها النوعية والكمية، أدى بجماعة «بوكو حرام»، إلى اتباع الجماعة التي تتماشى وأهدافها المحلية، وفي مقدمتها إنشاء «دولة الخلافة» المزعومة في شمال نيجيريا.

الاستخبارات الأجنبية تراقب «داعش»
في واقع الأمر، لم تكن تحركات «داعش» في أفريقيا بعيدة عن أعين بقية الدول الأفريقية، وكذلك أجهزة الاستخبارية الغربية، وهو ما دعا صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية في منتصف شهر أبريل (نيسان) الماضي، لأن تقدم ملفاً كاملاً عن «داعش في أفريقيا». وتضمن الملف تحليلاً شافياً ووافياً لقلق أجهزة استخبارات البلدان المجاورة، وعلى رأسها تشاد والنيجر وساحل العاج. ذلك أنه اجتمع مسؤولو الاستخبارات في هذه البلدان بنظرائهم الإقليميين، أخيراً في العاصمة النيجيرية أبوجا، بغرض التداول في مجابهة هذا الخطر الإرهابي الصاعد.
وفي هذا السياق، كتب الصحافي الاستقصائي الفرنسي جورج مالبرونو - الذي كان رهينة سابقة عند بعض من تلك الجماعات الأصولية - عن تحركات «داعش» في أفريقيا، مشيراً إلى أن «تنظيم داعش قبل الهزائم الأخيرة التي تعرض لها (في سوريا والعراق)، كان قد أرسل نحو 15 مدرباً عراقياً إلى نيجيريا»، وفقاً لمصادر عسكرية واستخباراتية فرنسية، وتحديداً إلى منطقة «أدامامو في شمال نيجيريا. وهناك - وفق مالبرونو - أقاموا لمدة ستة أشهر خصصت لتدريب عناصر (بوكو حرام) على تقنيات القتال والتعامل مع المتفجرات، وتصنيع أسلحة يدوية بما في ذلك قاذفات الصواريخ.

صراع «داعش» و«القاعدة»
في هذا الإطار، هل باتت المواجهة بين «داعش» و«القاعدة» في القارة الأفريقية مسالة حتمية؟
الشاهد أن التناحر والتنافس «القاعدي - الداعشي» على أفريقيا تبين بوضوح في التصريح الذي أطلقة «أبو محمد العدناني» الناطق الرسمي باسم «داعش»، والذي أشار فيه إلى أن «شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات في المناطق التي يمتد إليها سلطان الخلافة، تعتبر باطلة»، وذلك في إشارة إلى المجموعات التي أعلنت ومنذ فترة ولائها لـ«القاعدة».
ولعل ما يزيد المشهد إثارة ويؤجج الصراع أكثر بين أكبر تنظيمين متطرفين في المنطقة الأفريقية الآن، هو أن «القاعدة» لا تزال تنظر إلى نفسها بوصفها «الأصل»، بينما ترى أن «داعش» مجرد فرع، أو فصيل انشق عنها. وعليه فإن «خلافة البغدادي» لا شرعية لها ولا ولاء ينبغي أن يعطي من قبل أي جماعة لزعامتها، وبالتالي، باتت «الولايات» تتوزّع بين «القاعدة» ويتبعها جماعات مثل «المرابطون» بزعامة مختار بالمختار، و«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، ويترأسها عبد المالك درو كال، و«أنصار الدين» بقيادة إياد أغ غالي، ثم «جبهة تحرير ماسينا» بقيادة أمادو كوفا. وأخيراً هناك «كتيبة خالد بن الوليد - أنصار الدين الجنوب» التي يشرف عليها سليمان كيتا، ولقد ضم عشرات من المقاتلين الماليين وبعض البوركينابيين والإيفورايين.
في المقابل، فإن حضور «داعش» يبقى في الأساس متركزاً في ليبيا... وهو «المفرخة» أو «الحاضنة» التي تصدر لأفريقيا العناصر الهاربة من نيران سوريا والعراق، ثم هناك جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا وبعض الدول المجاورة. كذلك تعد جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تزعم وجودها في شبه جزيرة سيناء أكثر المجموعات الأفريقية ولاءً لـ«داعش»، وهذا على الرغم من الضربات الأمنية الموجعة التي تتلقاها من قوات الجيش المصري والشرطة المصرية على حد سواء.
لا ريب أنه مما يستدعي التفكير الجدي الأسباب الممكنة أو المحتملة التي تجعل من «القاعدة» و«داعش» تنظيمين جاذبين للإرهابيين من أفريقيا. وهناك ينبغي التساؤل حول ما إذا كانت المسألة برمتها لا تعدو كونها قناعات دوغماتية وآيديولوجية أم أن هناك أسباباً أخرى تجعل هؤلاء وأولئك قادرين على استقطاب شباب أفريقيا وقيادتهم إلى التهلكة كما نرى.

أموال وأوهام
أدرك القائمون على تنظيم داعش، منذ البداية، أن الرهانات الفكرية ربما لا تنطلي إلا على العدد القليل جدا من الأتباع، لا سيما أن هناك تنافساً شرساً في إطار التنظيمات الراديكالية، وأن بعضها أوفر قوة وأقوى حجة بل ويتمتع رؤية سياسة وحجة فقهية أوسع وأعمق وأكثر فاعلية من الدموية الداعشية. ولهذا عمد التنظيم الداعشي منذ البدايات على شراء الولاءات بالأموال. ولقد كانت الاتصالات تجري بين العناصر المكلفة بعملية التجنيد وبين الشباب المرشح، وفحواها إغراءات مالية عالية القيمة، يصعب صدها أو ردها بحال من الأحوال.
في هذا الإطار سعى تنظيم «الدولة الإسلامية في أفريقيا» إلى الدول ذات الكثافة السكانية العالية، وفي مقدمها جمهورية غانا، الدولة الساحلية التي كانت بين الأسبق إلى نيل الاستقلال في مناطق أفريقيا السوداء جنوبَ الصحراء، التي يشكل المسلمون نحو 60 في المسلمين من سكانها، بينما تبلغ نسبة البطالة فيها 11.5 في المائة. في غانا مشكلات اقتصادية، تجعل من شبابها صيدا سهلاً لأصحاب الأموال الوفيرة.
ولعل هذا الواقع يعيدنا بالذاكرة إلى نشاط الدواعش المريب في كل من العراق وسوريا، حيث عملوا جاهدين على تأمين مصادر مالية طائلة عبر تهريب النفط والاتجار غير المشروع بالآثار، وما إلى ذلك من طرق غير شرعية لاكتساب المزيد من الأموال.
ربما المسألة هنا تتجاوز وجود الأموال فقط. ذلك أن من الأهمية بمكان أيضاً وجود طريق الاتصال، وفي هذا يبرع أعضاء «داعش» المؤهلين علمياً في استخدام وسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة لا سيما «فيسبوك».
وفي رواية لمؤسسة الأنباء والتلفزيون الألمانية الشهيرة «دويتشه فيلله» DW يقول شاب غاني: «انتهت دراستي الثانوية وأنا أبلغ من العمر 21 سنة، وما كنت أملك مالاً كافياً لدخول الجامعة، أو بدء نشاط حياتي لكسب العيش. ولكن اتصل بي عبر (فيسبوك) أحد الغرباء ووعدني بمليون دولار أميركي إن عملت لصالحه»... وتساءل الشاب: «كيف لي أن أرفض هذا الطلب؟».
هذا المثال، بلا شك، يعد حالة أو نموذجاً لملايين الشباب الأفارقة الذين عمل «داعش»، وما زال يعمل، على استقطابهم مستغلاً الفقر المدقع الذي يعيشونه، تمهيداً لضمهم إلى صفوف مقاتليه، ومن ثم صبغ أفريقيا بالإرهاب بشكل كامل.

ليبيا... مربط الفرس
يتصل نجاح «داعش» في قارة أفريقيا مستقبلاً، والقضاء عليه مرة واحدة، أو انتشار التنظيم في أفريقيا والإخفاق في السيطرة عليه على مصير الأوضاع في ليبيا. هذه الأوضاع كبدت أفريقيا جنوباً وغرباً، وشمالاً وشرقاً، تكاليف عالية، بعد الفوضى والارتباك اللذين سادا المشهد الليبي طوال ست سنوات، وبعد انهيار النظام السابق فيها.
لقد تحولت ليبيا إلى مركز جاذب للإرهاب والإرهابيين من كل بقاع وأصقاع العالم، ولا نوفر هنا أدوار دول لعبت وتلعب في زخم الإرهاب هناك، وفي المقدمة منها قطر، تلك التي صدّرت قيادات «القاعدة» لتسيّد المشهد في ليبيا، في أعقاب سقوط القذافي، بالإضافة إلى الإمداد بالدعم المالي واللوجيستي، وبالأسلحة والعناصر البشرية.
في هذا الإطار أيضاً أضحت ليبيا هي «بوابة الإرهاب إلى القارة الأفريقية»، ومركز عمليات لتنظيم داعش في شمال أفريقيا. والمؤكد هنا أنه في حال استمرار فشل القيادات والأطراف السياسية في ليبيا بالتوحد حول مشروع سياسي قابل للحياة لليبيا، فإنهم سيقدمون لـ«داعش» فرصة ذهبية لتكرار نموذجي العراق وسوريا... ومن بعد ذلك الانتقال الكثيف إلى قلب أفريقيا، وفي جميع الاتجاهات الجغرافية داخل القارة.
ولعل الناظر إلى التحليلات الدولية - والاستخباراتية خاصة - بشأن حضور «داعش» في أفريقيا، يرصد تحركات دولية سريعة ومكثفة عبر أكثر من محور.
بدايةً، تتسارع حالياً الجهود السياسية من أجل إنقاذ ليبيا. ولقد كانت الوساطة الفرنسية الأخيرة ناجحة إلى حد كبير، لا سيما إذا خلُصت الإرادات لجهة توحيد الجهود السياسية والعسكرية، ومن ثم السيطرة على البلاد والقضاء على التيارات المتطرفة التي ترفع السلاح، وإدماج المقاتلين غير الملوثة أياديهم بالدماء في صفوف القوات المسلحة الليبية.
وعلى جانب آخر، يلاحظ وجود اهتمام أممي جدي، هذه الأيام، بإقامة قواعد عسكرية في قلب أفريقيا، وعلى أطرافها من قبل الأقطاب الدولية. وكانت آخر هذه القواعد القاعدة الصينية في جيبوتي، حيث توجد في القارة السمراء اليوم أيضاً قواعد للولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا، وكلها تتحسب للساعة التي ستغدو فيها أفريقيا مركزاً للإرهاب العالمي. وغني عن القول هنا إن الحضور الأميركي في أفريقيا، والقيادة الأميركية (أفريكوم)، على أتم الاستعداد لكل هذه السيناريوهات... ولكن مع ذلك تبقى مسألة مواجهة وحصار «القاعدة» أو «داعش» في أفريقيا مسألة صعبة ومعقدة.

إشكالية أفريقية مصدر الصعوبة والتعقيد نبحثه فيما يلي...
في أوائل شهر يونيو (حزيران) الماضي، تعهد الاتحاد الأوروبي بدفع مبلغ 50 مليون يورو لمساعدة دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا على تشكيل قوة متعددة الجنسيات لمحاربة الجماعات المتطرفة.
يومذاك قال الاتحاد الأوروبي في بيان له على لسان مسؤولته للسياسة الخارجية فيدريكا موغيريني، إن دعم الاتحاد «سيساعد مجموعة الخمس لدول الساحل وهي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا على إنشاء قوة إقليمية».
بطبيعة الحال، لا تفعل أوروبا ذلك مجانًا، على الإطلاق. فأوروبا باتت تدرك أن المنطقة الشاسعة التي تشملها الدول الخمس السابقة الذكر، وكلها على تماس مع الصحراء الكبرى، أضحت تربة خصبة للجماعات المتطرفة التي ترتبط بـ«داعش» و«القاعدة»، التي تخشي أوروبا من تهديداتها إذا ما تُركت تتحرك بحرية. ومعروف أن فرنسا كانت قد تدخلت بالفعل في عام 2013 لطرد متطرفين كانوا قد سيطروا على شمال مالي قبل ذلك بسنة واحدة.
على أن الأمر ليس في غالبه مقاومة أو مكافحة عسكرية. ثم إنه ليس رصد أموال لتجهيزات عسكرية فقط... فالأوضاع البنيوية في أفريقيا مهيأة إلى الدرجة التي تسمح لـ«داعش» أو غيره بإحداث اختراقات. ذلك أن الأنسجة الاجتماعية منقسمة بل ومتشظية عرقياً ودينياً. والصراعات الحدودية بينها لا تزال تمثل «براميل بارود» قابلة للانفجار في أي لحظة. وعطفاً على ذلك فإن أفريقيا ودولها أصبحت أدوات للقوى الإمبراطورية الفاعلة عالمياً في «لعبة أمم» جديدة، وبذا تصبح أفريقيا قارة ملتهبة ومشتعلة، ما يسهل ومن جديد قبول أي وافد يمتلك آيديولوجيا أو عقيدة، فضلاً عن الأموال.
ختاماً، لا تبدو أزمة «داعش» في أفريقيا بعدُ واضحةَ المعالم، لا سيما أن الملفات المتصلة بالتنظيم في العراق وسوريا وليبيا ما زالت مفتوحة. أما المؤكد فقط فهو أن القرن الحادي والعشرين هو قرن القلاقل الناجمة عن الإرهاب، وليس قرن الحروب العالمية كما عهدناها في القرن الماضي.



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.