«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عودة الدواعش في حسابات الاستخبارات الكندية والأوروبية

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
TT

«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)

قبل أيام معدودات كانت القيادة العراقية تعلن تحرير مدينة الموصل تماماً من سيطرة «داعش»، إذ لم يبقَ أي حي يسيطر عليه التنظيم، ولم يعد أمام مسلحيه أي خيار سوى الاستسلام. ومع النجاح الكبير لتحرير الموصل، تتبقى معركة الرقة التي يتهيأ لها العالم برمته ومع ذلك تبقى علامة الاستفهام... هل هذا يعني القضاء على «داعش» نهائياً؟
ويرى كبير الباحثين في معهد الاستشراق الروسي فلاديمير سوفتيكوف، أن «تحرير الموصل نجاح كبير نعم، لكن (داعش) احتفظ بمفارز قتالية انتشرت وتفرقت بعد حصار الموصل، وهذه المفارز تنتقل إلى سوريا وتنتقل بعد تحرير الرقة إلى مناطق أخرى». من بين الأماكن المهددة من جراء فلول «داعش» ومريديه، تبقى القارة العجوز «أوروبا» التي يخشى الأوروبيون من أنها ستكون هدفاً قريباً للدواعش، لا سيما بعد خيبات الأمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخصوصاً ليبيا.
في منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي كانت وكالة تطبيق القانون الأوروبية (يوروبول) تصدر تقريراً حذرت من خلاله من تغير استراتيجية تنظيم «داعش» في مهاجمة الدول الأوروبية وسلطت الوكالة الأوروبية الضوء على بدء اعتماد «داعش» على تجنيد أشخاص أصغر سناً وفتيات، وإمكانية استخدام الطائرات اللاسلكية في تنفيذ هجمات إرهابية.
تقرير «يوروبول» يشير إلى أن «داعش» حالياً يستهدف الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً والفتيات، بشكل أكبر، من أي وقت مضى، وحذرت وكالة تطبيق القانون الأوروبي في تقريرها من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، ويمكن أن يصل إلى استخدام «داعش» مواد مشعة نووياً، وأسلحة كيماوية وبيولوجية.
بيانات التقرير لم تتأتَ من فراغ وإنما تم التوصل إليها، وخصوصاً ما يتعلق بالطائرات من دون طيار، من خلال متابعة الدواعش ومعاركهم في العراق وسوريا، حيث نجح البعض منهم في تركيب المتفجرات في طائرات دون طيار.
أما الذي يدعو للقلق نووياً فيتعلق بسرقة التنظيم ما يقرب من 90 رطلاً (نحو 40 كجم) من اليورانيوم منخفض التخصيب من معاهد علمية في جامعة الموصل في العراق، ونتيجة لسميتها المحدودة، يمكن استخدام هذه المادة مجدداً لنشر الرعب وليس لإلحاق إصابات بدنية خطيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأمر لا يحمل خطورة ما.
في الأيام الأولى من يوليو (تموز) الحالي، كان «داعش» وبصورة قاطعة يؤكد للأوروبيين مخاوفهم، فقد أصدر تسجيلاً مرئياً «فيديو» حمل اسم «قضّوا مضاجعهم»، لا تتجاوز مدته الزمنية ربع الساعة، اعتمد خلاله على تصدير صورة جديدة للأعداد الكبيرة من الأطفال الذين وصفهم بأنهم الأكثر قوة مقارنة برجال الدولة، الذين تدربوا على أعمال الذبح والقتال في ميادين «داعش» عبر سوريا والعراق.
التسجيل المصور لم يفته أن يعرض العمليات التي قام بها خلال الشهور الماضية، والتي راح ضحيتها العشرات من الأوروبيين، بل واصل تهديداته بهؤلاء الأطفال، معتبراً إياهم الأبطال الجدد لتنظيم الدولة الإسلامية، والمثير إلى حد القلق والهلع، أنهم من جنسيات مختلفة؛ روس وأتراك، عراقيين وبريطانيين، وصفهم بأنهم «قادمون.. قادمون».
«هل هذه التسجيلات لها حظ من التنفيذ أم أنها ضمن الحرب الإعلامية والنفسية التي يمارسها التنظيم ضد أوروبا ودولها الكبرى؟».
يمكن الجزم بأن أوروبا باتت خلفية لعناصر «داعش» المتسللين إليها من الشرق الأوسط، حيث ينحدر ويندحر كل يوم، وهو الأمر الذي تؤكده تقارير استخباراتية إيطالية، أشارت إليها صحيفة الغارديان البريطانية في أوائل مايو (أيار) الماضي، إذ نشرت تقريراً لها تحت عنوان «مخاوف إيطالية من تسلل عناصر (داعش) إلى أوروبا متنكرين ضمن جرحى ليبيين»، وتقول الصحيفة البريطانية الشهيرة إنها اطلعت على وثيقة استخباراتية إيطالية، تكشف وجود شبكة معقدة قام فيها أفراد من «داعش» وآخرون إرهابيون منذ عام 2015، بالتسلل إلى أوروبا بعد تظاهرهم بأنهم جرحى من الجنود الليبيين تقدموا للمستشفيات بجوازات سفر ووثائق مزورة، لتقوم المستشفيات والمراكز الطبية التي تشرف عليها حكومة الوفاق الوطني بإرسالهم للخارج للعلاج. بداية التحرك من ليبيا تجاه تركيا، ورومانيا، وصربيا، والبوسنة، ولاحقاً إلى تلك الأهداف الجغرافية لتنفيذ عملياتهم الإرهابية.
القصة لا يمكن أن تنتهي بالدخول إلى عمق الدول الأوروبية الغربية، التي يرى فيها «داعش» عواصم للكفر وأعداء لله ورسوله، ذلك أن فاعليتهم مرتهنة بأمرين أساسيين لا غنى عنهما؛ الاتصالات والتواصل، والتمويل والإنفاق، فمن أين لهم الأموال اللازمة للإنفاق وكيف يتواصلون؟
أوائل الشهر الماضي، كان نائب مدير قسم التحديات والتهديدات في وزارة الخارجية الروسية ديمتري فيوكيتسوف، يعلن أن لدى روسيا معلومات عن محاولات لتنظيم داعش للاستثمار في مشاريع في أوروبا من خلال بعض البنوك في الشرق الأوسط.
المسؤول الروسي أكد أنهم أبلغوا الأميركيين بأسماء محددة لبنوك من الشرق الأوسط تستثمر في بلدين أوروبيين وأن مسلحي تنظيم داعش يحاولون تعويض خسائرهم من خلال التجارة في المعادن القيمة، حيث استولوا على منجم لاستخراج الفوسفات ومصنع لإنتاج حامض الفوسفوريك في العراق، أما في سوريا فقد استولوا على كثير من مصانع الإسمنت وبعض الشركات الأخرى.
بل إلى أبعد من هذا، فإن الخارجية الروسية كانت لديها معلومات مسبقة حول محاولات تنظيم داعش للاستثمار في أسواق العقارات في نيويورك وتركيا.
هل هذه التصريحات تعزز ما ذهبت إليه الشرطة الأوروبية من أن «داعش» وشركاءه أقرب ما يكونون لإحداث كابوس خطير في حياة الأوروبيين عبر إنشائهم لما يمكن أن يسمى «فيسبوك داعش»؟
المؤكد أن الشرطة الأوروبية تحقق في الأمر بالفعل، أي أن يكون تنظيم داعش وبالشراكة مع تنظيمات إرهابية أخرى، قد يكون «القاعدة» واحداً منها، في مراحل إنشاء شبكة تواصل اجتماعية خاصة بهم.
أما عن هدف وغاية الدواعش والإرهابيين من تلك الشبكة، فهو استخدامها المزدوج من جهة في أغراض الدعاية لهم ومن ناحية ثانية للتمويل بعيداً عن عمليات التفتيش الأمنية.
المتحدث باسم الشرطة الأوروبية جان أوب جين أورث، يصرح لوكالة الصحافة الفرنسية بالقول: «ما زلنا نسعى للتعرف على كل تفاصيل الحساب، بما في ذلك من أنشأه ولأي هدف»، لافتاً إلى أن المؤشرات الأولية يبدو أنها تظهر روابط بين تنظيم داعش ومجموعات إرهابية أخرى.
هل يرتب تنظيم الدولة لهدف ما يتحقق عام 2020 باستخدام شبكة المعلومات التي يكثر الحديث عنها أخيراً عطفاً على التمويل المشبوه؟
يجدر بنا أن نذكر أن أوروبا وفي الأشهر الأولى لتعزيز «داعش» حضوره في العراق وسوريا، أصدر بياناً أشار فيه إلى أن قادة التنظيم يخططون لغزو أوروبا قبل انتهاء عام 2020، وأن هذا الغزو يعتبر نوعاً من أنواع الثأر التاريخي لما قام به الأوروبيون في العالم العربي وعرف باتفاق «سايكس - بيكو»، وقد رأى التنظيم أن هذه الاتفاقية كانت محاولة من الغرب الكافر لتقسيم المسلمين ومنع إقامة خلافة إسلامية جديدة.
والشاهد أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع قد قصر كثيراً جداً بأحلام الدواعش، لكنها لم تنتهِ، وأضعف الإيمان أن أرقام الدواعش العائدين إلى أوروبا سواء من أبنائها الأصليين أو من المهاجرين واللاجئين إليها تثير الذعر لدى الاطلاع عليها.
إحدى أهم الدراسات في هذا السياق هي دراسة «معهد إلكانو» الإسباني، التي تفصل أرقام المتطرفين العائدين إلى 12 دولة أوروبية، بعضهم عاد بالفعل والبعض الآخر في طريق العودة وأعدادهم تقدر بالمئات في كل دولة، وببضعة آلاف في أوروبا مجتمعين.
عودة الدواعش إلى أوروبا في واقع الحال مسألة كارثية لا محالة، تذكر بالعائدين من أفغانستان في أوائل تسعينات القرن العشرين، فالذين قاتلوا ضد السوفيات حتى انسحابهم من كابل وما حولها، قد عاثوا فساداً وإرهاباً في العالم العربي لسنوات طويلة، قبل أن يتم التعامل معهم أمنياً وفكرياً.
في هذا السياق التاريخي، يصف أحد رجالات الأمن العرب وثيق ولصيق الصلة بحركات الإرهاب الإسلاموي، المشهد بأنه «إن كان العائدون من أفغانستان قد تخرجوا في مدرسة للعنف، فإن الدواعش العائدين قد درسوا وتدربوا في أكاديمية للعنف والإرهاب، مما يجعل التعاطي معهم مسألة كارثية».
الرأي المتقدم تؤكده حالة وحركة المتابعات الأمنية والاستخباراتية الأوروبية للعائدين من مناطق القتال في الشرق الأوسط، حيث يجدون صعوبة بالغة في متابعة ومراقبة هؤلاء أمنياً ومكانياً، والحوادث الإرهابية الأخيرة في أوروبا التي ثبت فيها تورط بعضهم، ألقت الضوء على عدم نجاح الأجهزة الأمنية في توقع حدوث هذه الهجمات.
ويبدو أن هناك إشكاليات تتصل بحقوق الإنسان والحريات وبين تتبع هؤلاء، إذ تواجه حكومات تلك الدول انتقادات لعدم قدرتها على اعتقال هؤلاء العائدين، بسبب قيود قانونية تخص عدم وجود أدلة دافعة بشأن إثبات مشاركتهم في أعمال عنيفة بالشرق الأوسط، وهو ما يضعهم فقط تحت المراقبة التي لا تكون ناجحة أحياناً في إحباط أي هجوم محتمل.
في أواخر مايو الماضي، نشر جهاز المخابرات السرية الكندية بالتعاون مع نظيره الفرنسي، تقريراً مفصلاً تحدث فيه عن حملة تنظيم داعش ضد أوروبا، التي بدأت بعد أكثر من سنة بقليل من إعلان التنظيم سيطرته على مدينة الرقة السورية وإعلانها عاصمة للخلافة بعد دحره لجماعات الثوار الذين كانوا قد طردوا القوات الموالية للنظام السوري قبل شهر من ذلك.
يشير التقرير عالي ورفيع المستوى إلى أن العمليات التي هزت مدن باريس، وبروكسل، ونيس، وبرلين، لا تعد بمثابة «انتقام» للمتطرفين على خلفية عمليات غربية، بل تمثل نتاج حملة مدروسة ومتعمدة عجز التحالف عن عرقلتها بالكامل. وعلى الرغم من أن قدرة تنظيم الدولة على الأخذ بزمام الأمور قد تدهورت بشكل كبير، فإنها لا تزال في غاية الخطورة.
يطرح تقرير الاستخبارات الكندية والفرنسية علامة استفهام رئيسية في هذا السياق... ما الذي يسعى تنظيم «داعش» إلى تحقيقه في أوروبا؟
بحسب واضعيه يبدو أن هناك هدفين أساسيين:
• يتمثل الأول في إثبات أن التعايش مع «الخونة» أمر مستحيل، وقد وقع استهداف فرنسا وألمانيا بشكل خاص نظراً لاستقبال الأولى أكبر الجاليات المسلمة واليهودية في أوروبا، والثانية بسبب سياستها السخية تجاه اللاجئين.
• فيما الهدف الثاني يتصل بتشجيع «الصعود الجهادي» انطلاقاً من أوروبا، وبغض النظر عن تأثيرهم غير المتوقع على مستوى الدعاية، يعتبر المجندون الأوروبيون ذات قيمة استثنائية بالنسبة لتنظيم الدولة.
يفتح التقرير الذي نحن بصدده أعين الأوروبيين على مسألة «شبكات الدعم الداعشي العابرة لأوروبا»، وعند كتابه أنه يجب عدم التقليل من أهمية التطورات المثيرة للقلق التي كشفتها الهجمات الثلاثة الأخيرة، والجدير بالذكر أن القاتل المسؤول عن عملية سوق الميلاد في برلين أنيس العمري، كان قد تمكن في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 من عبور ألمانيا وهولندا وفرنسا قبل أن يتم القضاء عليه في إيطاليا، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جوهرياً حول شبكات الدعم العابرة لأوروبا.
أما عبد القادر مشاريبوف، وهو منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول، فقد نجح في الفرار لأسبوعين كاملين من تعقب قوات الأمن التركية.
والثابت أن أوروبا تواجه معضلة «مثلث الإرهاب»، أي مواجهة 3 أضلاع لدول وأفراد، فعلى سبيل المثال فإن مشاريبوف دخل إلى تركيا عبر إيران، بعد خضوعه للتدريب في أفغانستان، وعلى هذا الأساس تواجه دول القارة العجوز مثلثاً ما بين أفغانستان وتركيا وسوريا، وهو ما ستترتب عليه تهديدات خطيرة في المدى المتوسط.
مؤكد أن ذلك لن يحدث لسببين؛ الأول يتصل بالخلايا «الداعشية» النائمة في أوروبا، والثاني بالقدرة على التجنيد عن بعد وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أضحت المعركة مع «داعش» معركة أفكار ووجود، لا دول وحدود.
الهدف الرئيسي لتنظيم الدولة في أوروبا ليس عسكرياً، ولكنه سياسي، وإعلامي، ورمزي، ومن هذا المنطلق، تخدم أسطورة الذئب المنفرد، التي تجعل من تنظيم الدولة ذا تهديد حاضر باستمرار وتبرز جميع التصعيدات العميقة التي يقوم بها، ديناميكية التنظيم بشكل مثالي، بالإضافة إلى ذلك يسلط المزيج بين التوجيه عن بعد والخلايا النائمة، علاوة على تجزئة الأنشطة الإرهابية المترتبة عنه، الضوء على الوهم القائل إن الإرهابيين منتشرون في كل مكان.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».