«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عودة الدواعش في حسابات الاستخبارات الكندية والأوروبية

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
TT

«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)

قبل أيام معدودات كانت القيادة العراقية تعلن تحرير مدينة الموصل تماماً من سيطرة «داعش»، إذ لم يبقَ أي حي يسيطر عليه التنظيم، ولم يعد أمام مسلحيه أي خيار سوى الاستسلام. ومع النجاح الكبير لتحرير الموصل، تتبقى معركة الرقة التي يتهيأ لها العالم برمته ومع ذلك تبقى علامة الاستفهام... هل هذا يعني القضاء على «داعش» نهائياً؟
ويرى كبير الباحثين في معهد الاستشراق الروسي فلاديمير سوفتيكوف، أن «تحرير الموصل نجاح كبير نعم، لكن (داعش) احتفظ بمفارز قتالية انتشرت وتفرقت بعد حصار الموصل، وهذه المفارز تنتقل إلى سوريا وتنتقل بعد تحرير الرقة إلى مناطق أخرى». من بين الأماكن المهددة من جراء فلول «داعش» ومريديه، تبقى القارة العجوز «أوروبا» التي يخشى الأوروبيون من أنها ستكون هدفاً قريباً للدواعش، لا سيما بعد خيبات الأمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخصوصاً ليبيا.
في منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي كانت وكالة تطبيق القانون الأوروبية (يوروبول) تصدر تقريراً حذرت من خلاله من تغير استراتيجية تنظيم «داعش» في مهاجمة الدول الأوروبية وسلطت الوكالة الأوروبية الضوء على بدء اعتماد «داعش» على تجنيد أشخاص أصغر سناً وفتيات، وإمكانية استخدام الطائرات اللاسلكية في تنفيذ هجمات إرهابية.
تقرير «يوروبول» يشير إلى أن «داعش» حالياً يستهدف الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً والفتيات، بشكل أكبر، من أي وقت مضى، وحذرت وكالة تطبيق القانون الأوروبي في تقريرها من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، ويمكن أن يصل إلى استخدام «داعش» مواد مشعة نووياً، وأسلحة كيماوية وبيولوجية.
بيانات التقرير لم تتأتَ من فراغ وإنما تم التوصل إليها، وخصوصاً ما يتعلق بالطائرات من دون طيار، من خلال متابعة الدواعش ومعاركهم في العراق وسوريا، حيث نجح البعض منهم في تركيب المتفجرات في طائرات دون طيار.
أما الذي يدعو للقلق نووياً فيتعلق بسرقة التنظيم ما يقرب من 90 رطلاً (نحو 40 كجم) من اليورانيوم منخفض التخصيب من معاهد علمية في جامعة الموصل في العراق، ونتيجة لسميتها المحدودة، يمكن استخدام هذه المادة مجدداً لنشر الرعب وليس لإلحاق إصابات بدنية خطيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأمر لا يحمل خطورة ما.
في الأيام الأولى من يوليو (تموز) الحالي، كان «داعش» وبصورة قاطعة يؤكد للأوروبيين مخاوفهم، فقد أصدر تسجيلاً مرئياً «فيديو» حمل اسم «قضّوا مضاجعهم»، لا تتجاوز مدته الزمنية ربع الساعة، اعتمد خلاله على تصدير صورة جديدة للأعداد الكبيرة من الأطفال الذين وصفهم بأنهم الأكثر قوة مقارنة برجال الدولة، الذين تدربوا على أعمال الذبح والقتال في ميادين «داعش» عبر سوريا والعراق.
التسجيل المصور لم يفته أن يعرض العمليات التي قام بها خلال الشهور الماضية، والتي راح ضحيتها العشرات من الأوروبيين، بل واصل تهديداته بهؤلاء الأطفال، معتبراً إياهم الأبطال الجدد لتنظيم الدولة الإسلامية، والمثير إلى حد القلق والهلع، أنهم من جنسيات مختلفة؛ روس وأتراك، عراقيين وبريطانيين، وصفهم بأنهم «قادمون.. قادمون».
«هل هذه التسجيلات لها حظ من التنفيذ أم أنها ضمن الحرب الإعلامية والنفسية التي يمارسها التنظيم ضد أوروبا ودولها الكبرى؟».
يمكن الجزم بأن أوروبا باتت خلفية لعناصر «داعش» المتسللين إليها من الشرق الأوسط، حيث ينحدر ويندحر كل يوم، وهو الأمر الذي تؤكده تقارير استخباراتية إيطالية، أشارت إليها صحيفة الغارديان البريطانية في أوائل مايو (أيار) الماضي، إذ نشرت تقريراً لها تحت عنوان «مخاوف إيطالية من تسلل عناصر (داعش) إلى أوروبا متنكرين ضمن جرحى ليبيين»، وتقول الصحيفة البريطانية الشهيرة إنها اطلعت على وثيقة استخباراتية إيطالية، تكشف وجود شبكة معقدة قام فيها أفراد من «داعش» وآخرون إرهابيون منذ عام 2015، بالتسلل إلى أوروبا بعد تظاهرهم بأنهم جرحى من الجنود الليبيين تقدموا للمستشفيات بجوازات سفر ووثائق مزورة، لتقوم المستشفيات والمراكز الطبية التي تشرف عليها حكومة الوفاق الوطني بإرسالهم للخارج للعلاج. بداية التحرك من ليبيا تجاه تركيا، ورومانيا، وصربيا، والبوسنة، ولاحقاً إلى تلك الأهداف الجغرافية لتنفيذ عملياتهم الإرهابية.
القصة لا يمكن أن تنتهي بالدخول إلى عمق الدول الأوروبية الغربية، التي يرى فيها «داعش» عواصم للكفر وأعداء لله ورسوله، ذلك أن فاعليتهم مرتهنة بأمرين أساسيين لا غنى عنهما؛ الاتصالات والتواصل، والتمويل والإنفاق، فمن أين لهم الأموال اللازمة للإنفاق وكيف يتواصلون؟
أوائل الشهر الماضي، كان نائب مدير قسم التحديات والتهديدات في وزارة الخارجية الروسية ديمتري فيوكيتسوف، يعلن أن لدى روسيا معلومات عن محاولات لتنظيم داعش للاستثمار في مشاريع في أوروبا من خلال بعض البنوك في الشرق الأوسط.
المسؤول الروسي أكد أنهم أبلغوا الأميركيين بأسماء محددة لبنوك من الشرق الأوسط تستثمر في بلدين أوروبيين وأن مسلحي تنظيم داعش يحاولون تعويض خسائرهم من خلال التجارة في المعادن القيمة، حيث استولوا على منجم لاستخراج الفوسفات ومصنع لإنتاج حامض الفوسفوريك في العراق، أما في سوريا فقد استولوا على كثير من مصانع الإسمنت وبعض الشركات الأخرى.
بل إلى أبعد من هذا، فإن الخارجية الروسية كانت لديها معلومات مسبقة حول محاولات تنظيم داعش للاستثمار في أسواق العقارات في نيويورك وتركيا.
هل هذه التصريحات تعزز ما ذهبت إليه الشرطة الأوروبية من أن «داعش» وشركاءه أقرب ما يكونون لإحداث كابوس خطير في حياة الأوروبيين عبر إنشائهم لما يمكن أن يسمى «فيسبوك داعش»؟
المؤكد أن الشرطة الأوروبية تحقق في الأمر بالفعل، أي أن يكون تنظيم داعش وبالشراكة مع تنظيمات إرهابية أخرى، قد يكون «القاعدة» واحداً منها، في مراحل إنشاء شبكة تواصل اجتماعية خاصة بهم.
أما عن هدف وغاية الدواعش والإرهابيين من تلك الشبكة، فهو استخدامها المزدوج من جهة في أغراض الدعاية لهم ومن ناحية ثانية للتمويل بعيداً عن عمليات التفتيش الأمنية.
المتحدث باسم الشرطة الأوروبية جان أوب جين أورث، يصرح لوكالة الصحافة الفرنسية بالقول: «ما زلنا نسعى للتعرف على كل تفاصيل الحساب، بما في ذلك من أنشأه ولأي هدف»، لافتاً إلى أن المؤشرات الأولية يبدو أنها تظهر روابط بين تنظيم داعش ومجموعات إرهابية أخرى.
هل يرتب تنظيم الدولة لهدف ما يتحقق عام 2020 باستخدام شبكة المعلومات التي يكثر الحديث عنها أخيراً عطفاً على التمويل المشبوه؟
يجدر بنا أن نذكر أن أوروبا وفي الأشهر الأولى لتعزيز «داعش» حضوره في العراق وسوريا، أصدر بياناً أشار فيه إلى أن قادة التنظيم يخططون لغزو أوروبا قبل انتهاء عام 2020، وأن هذا الغزو يعتبر نوعاً من أنواع الثأر التاريخي لما قام به الأوروبيون في العالم العربي وعرف باتفاق «سايكس - بيكو»، وقد رأى التنظيم أن هذه الاتفاقية كانت محاولة من الغرب الكافر لتقسيم المسلمين ومنع إقامة خلافة إسلامية جديدة.
والشاهد أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع قد قصر كثيراً جداً بأحلام الدواعش، لكنها لم تنتهِ، وأضعف الإيمان أن أرقام الدواعش العائدين إلى أوروبا سواء من أبنائها الأصليين أو من المهاجرين واللاجئين إليها تثير الذعر لدى الاطلاع عليها.
إحدى أهم الدراسات في هذا السياق هي دراسة «معهد إلكانو» الإسباني، التي تفصل أرقام المتطرفين العائدين إلى 12 دولة أوروبية، بعضهم عاد بالفعل والبعض الآخر في طريق العودة وأعدادهم تقدر بالمئات في كل دولة، وببضعة آلاف في أوروبا مجتمعين.
عودة الدواعش إلى أوروبا في واقع الحال مسألة كارثية لا محالة، تذكر بالعائدين من أفغانستان في أوائل تسعينات القرن العشرين، فالذين قاتلوا ضد السوفيات حتى انسحابهم من كابل وما حولها، قد عاثوا فساداً وإرهاباً في العالم العربي لسنوات طويلة، قبل أن يتم التعامل معهم أمنياً وفكرياً.
في هذا السياق التاريخي، يصف أحد رجالات الأمن العرب وثيق ولصيق الصلة بحركات الإرهاب الإسلاموي، المشهد بأنه «إن كان العائدون من أفغانستان قد تخرجوا في مدرسة للعنف، فإن الدواعش العائدين قد درسوا وتدربوا في أكاديمية للعنف والإرهاب، مما يجعل التعاطي معهم مسألة كارثية».
الرأي المتقدم تؤكده حالة وحركة المتابعات الأمنية والاستخباراتية الأوروبية للعائدين من مناطق القتال في الشرق الأوسط، حيث يجدون صعوبة بالغة في متابعة ومراقبة هؤلاء أمنياً ومكانياً، والحوادث الإرهابية الأخيرة في أوروبا التي ثبت فيها تورط بعضهم، ألقت الضوء على عدم نجاح الأجهزة الأمنية في توقع حدوث هذه الهجمات.
ويبدو أن هناك إشكاليات تتصل بحقوق الإنسان والحريات وبين تتبع هؤلاء، إذ تواجه حكومات تلك الدول انتقادات لعدم قدرتها على اعتقال هؤلاء العائدين، بسبب قيود قانونية تخص عدم وجود أدلة دافعة بشأن إثبات مشاركتهم في أعمال عنيفة بالشرق الأوسط، وهو ما يضعهم فقط تحت المراقبة التي لا تكون ناجحة أحياناً في إحباط أي هجوم محتمل.
في أواخر مايو الماضي، نشر جهاز المخابرات السرية الكندية بالتعاون مع نظيره الفرنسي، تقريراً مفصلاً تحدث فيه عن حملة تنظيم داعش ضد أوروبا، التي بدأت بعد أكثر من سنة بقليل من إعلان التنظيم سيطرته على مدينة الرقة السورية وإعلانها عاصمة للخلافة بعد دحره لجماعات الثوار الذين كانوا قد طردوا القوات الموالية للنظام السوري قبل شهر من ذلك.
يشير التقرير عالي ورفيع المستوى إلى أن العمليات التي هزت مدن باريس، وبروكسل، ونيس، وبرلين، لا تعد بمثابة «انتقام» للمتطرفين على خلفية عمليات غربية، بل تمثل نتاج حملة مدروسة ومتعمدة عجز التحالف عن عرقلتها بالكامل. وعلى الرغم من أن قدرة تنظيم الدولة على الأخذ بزمام الأمور قد تدهورت بشكل كبير، فإنها لا تزال في غاية الخطورة.
يطرح تقرير الاستخبارات الكندية والفرنسية علامة استفهام رئيسية في هذا السياق... ما الذي يسعى تنظيم «داعش» إلى تحقيقه في أوروبا؟
بحسب واضعيه يبدو أن هناك هدفين أساسيين:
• يتمثل الأول في إثبات أن التعايش مع «الخونة» أمر مستحيل، وقد وقع استهداف فرنسا وألمانيا بشكل خاص نظراً لاستقبال الأولى أكبر الجاليات المسلمة واليهودية في أوروبا، والثانية بسبب سياستها السخية تجاه اللاجئين.
• فيما الهدف الثاني يتصل بتشجيع «الصعود الجهادي» انطلاقاً من أوروبا، وبغض النظر عن تأثيرهم غير المتوقع على مستوى الدعاية، يعتبر المجندون الأوروبيون ذات قيمة استثنائية بالنسبة لتنظيم الدولة.
يفتح التقرير الذي نحن بصدده أعين الأوروبيين على مسألة «شبكات الدعم الداعشي العابرة لأوروبا»، وعند كتابه أنه يجب عدم التقليل من أهمية التطورات المثيرة للقلق التي كشفتها الهجمات الثلاثة الأخيرة، والجدير بالذكر أن القاتل المسؤول عن عملية سوق الميلاد في برلين أنيس العمري، كان قد تمكن في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 من عبور ألمانيا وهولندا وفرنسا قبل أن يتم القضاء عليه في إيطاليا، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جوهرياً حول شبكات الدعم العابرة لأوروبا.
أما عبد القادر مشاريبوف، وهو منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول، فقد نجح في الفرار لأسبوعين كاملين من تعقب قوات الأمن التركية.
والثابت أن أوروبا تواجه معضلة «مثلث الإرهاب»، أي مواجهة 3 أضلاع لدول وأفراد، فعلى سبيل المثال فإن مشاريبوف دخل إلى تركيا عبر إيران، بعد خضوعه للتدريب في أفغانستان، وعلى هذا الأساس تواجه دول القارة العجوز مثلثاً ما بين أفغانستان وتركيا وسوريا، وهو ما ستترتب عليه تهديدات خطيرة في المدى المتوسط.
مؤكد أن ذلك لن يحدث لسببين؛ الأول يتصل بالخلايا «الداعشية» النائمة في أوروبا، والثاني بالقدرة على التجنيد عن بعد وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أضحت المعركة مع «داعش» معركة أفكار ووجود، لا دول وحدود.
الهدف الرئيسي لتنظيم الدولة في أوروبا ليس عسكرياً، ولكنه سياسي، وإعلامي، ورمزي، ومن هذا المنطلق، تخدم أسطورة الذئب المنفرد، التي تجعل من تنظيم الدولة ذا تهديد حاضر باستمرار وتبرز جميع التصعيدات العميقة التي يقوم بها، ديناميكية التنظيم بشكل مثالي، بالإضافة إلى ذلك يسلط المزيج بين التوجيه عن بعد والخلايا النائمة، علاوة على تجزئة الأنشطة الإرهابية المترتبة عنه، الضوء على الوهم القائل إن الإرهابيين منتشرون في كل مكان.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟