«هدايا ملكية»... معرض يتوج الافتتاح الصيفي لقصر باكنغهام

TT

«هدايا ملكية»... معرض يتوج الافتتاح الصيفي لقصر باكنغهام

يفتتح قصر باكنغهام، اليوم، موسم الزيارات الصيفية للغرف الرسمية، بحيث يتاح لأفراد الجمهور والسائحين الفرصة لزيارة عدد من الغرف التي تدور فيها الحفلات والاستقبالات، ويكمل الزيارة بمعرض خاص يقام هذا العام حول الهدايا التي تلقتها الملكة إليزابيث من مختلف دول العالم، إضافة إلى معرض مصغر مخصص للأميرة ديانا.
تبدأ الزيارة من مدخل السفراء بالقصر التاريخي، حيث تقبع العربة الملكية المذهبة. وهنا، يمكن للزائر تخيل نفسه في ضيافة الملكة إليزابيث الثانية، فها هو يركب العربة الملكية، وتتوقف به أمام المدخل الرسمي، ليهبط منها ويمشي على البساط الأحمر، صاعداً الدرجات القليلة نحو البهو الضخم. قليل من الناس يمكنه القول إنه مر بهذه التجربة، وقد يكون هذا الإحساس هو ما يدفع الزوار للاصطفاف لدخول القصر خلال افتتاحه في شهور الصيف.
الزيارة تأخذ الزائر من السلم العريض الذي ينقسم لفرعين يلتقيان في المنتصف بشرفة تطل على مطلع الدرج، ومن الشرفة نمضي لنزور الغرف المختلفة التي صممت وبنيت لتكون الغرف التي يستقبل فيها الملك أو الملكة أفراد الشعب والشخصيات الرفيعة، وهنا أيضاً يتم منح التكريمات. وفي الوقت الحالي، تستخدم الملكة وأفراد عائلتها الغرف الرسمية في استضافة الشخصيات الرسمية، وإقامة الحفلات والمأدبات الرسمية.
وينبغي للزائر أن يحضر نفسه لحالة من الانبهار، سواء بالمفروشات التاريخية أو بالجدران التي تختلف من غرفة لأخرى أو باللوحات التي تصور الملوك والملكات في تاريخ بريطانيا أو السقوف العالية المنقوشة ببراعة شديدة وجمال لا يضاهي، هذا إلى جانب الثريات الضخمة والتماثيل وغيرها. لمحات التاريخ هذه ترافق الزائر للقصر عبر دليل صوتي يتسلمه في أول الزيارة.
ويعكس التصميم المعماري للغرف الرئيسية وأثاثها ذوق الملك جورج الرابع (1820 - 1830)، الذي كلف المعماري الشهير جون ناش ليحول المبنى الذي كان يعرف بـ«باكنغهام هاوس» إلى قصر منيف، وقد كان. وظل القصر يتباهى بتصميمه المبهر، وبقطع المفروشات والثريات الضخمة واللوحات الفنية التي ابتيع معظمها بأمر الملك جورج الرابع، ليزين بها منزله اللندني، قبل أن يعتلي العرش، وحفظ معظمها في «رويال كوليكشن» (المجموعة الملكية)، التي تضم ممتلكات ملوك وملكات بريطانيا كافة، من القطع الثمينة والمجموعات الفنية.

* هدايا ملكية تستعرض ثقافات العالم
وفي كل عام، ومع الافتتاح الصيفي للقصر، يكون هناك معرض خاص يعرض كنوزاً من المجموعة الملكية، فمثلاً عرضت قبل سنوات جواهر الملكة إليزابيث. وفي العام الماضي، كان الاحتفال ببلوغ الملكة 90 عاماً، وكان هناك عرض متميز لفساتين الملكة، بدءاً من فستان زفافها، مروراً بفستان التتويج.
وهذا العام، يقام معرض لا يقل إبهاراً ولا جمالاً عن أي من المعارض السابقة، بل يتفوق عليها بأنه يصور لمحات من كل دول العالم وثقافاتها. والمعرض يحمل عنوان «هدايا ملكية»، ويستعرض عدداً ضخماً من أهم الهدايا الرسمية التي تلقتها الملكة إليزابيث من دول العالم المختلفة، وأيضاً الهدايا التي أهديت لها من رعاياها في بريطانيا بمناسبة اليوبيل الماسي لتوليها العرش. ويستعرض العرض دور الملكة إليزابيث الثانية كزعيمة لدول الكومونولث ورأس للدولة في المملكة المتحدة، وتتنوع الهدايا في مصادرها، فمنها ما كان مقدماً للملكة من ملوك وزعماء من جميع أنحاء العالم، ومنها ما قدمته مؤسسات مختلفة من بريطانيا ومن دول الكومنولث، ويعكس التنوع العلاقات التي ربطت بين بريطانيا والدول المختلفة.
مجموعة ضخمة من الهدايا الثمينة والرمزية قدمت للملكة إليزابيث خلال زياراتها الرسمية لأكثر من مائة دولة في العالم، ومن خلال الاستقبالات الرسمية في بريطانيا. وفي كل زيارة للملكة لدولة صديقة، أو لمنظمة أو هيئة دولية، تقدم هدايا تصنع خصيصاً لتعكس ثقافة وتاريخ الدول والأمم التي تمثلها، وهو ما نراه حياً أمامنا، وكأننا نستطلع ثقافات العالم المختلفة عبر قطع فريدة تعرض في مكان لا يقل أهمية ولا تمثيلاً للتاريخ.
وتعرض الهدايا في مجموعات تنقسم حسب القارات، فنبدأ من أوروبا، حيث تعرض هدايا من دول أوروبية، منها بلجيكا وفنلندا وأوكرانيا. وكل هدية تعكس ملمحاً من البلد صاحبة الهدية. فعلى سبيل المثال، نجد في الغرفة الأولى مفرشاً من الدانتيل الرقيق البديع الصنعة صنع في بروكسل، ويعود تاريخه إلى عام 1966. ومن روسيا، سموار فضي أهداه الرئيس بوريس يلتسين في عام 1994، ومجسم لأسدين من البرونز من إسبانيا، إلى جانب مزهرية من الكريستال مهداة من ملك السويد كارل غوستاف في عام 1983، ومجسم لحصان من البرونز مهدى من رئيس وزراء سلوفينيا في عام 2007، ويعتبر إيماءة لحب الملكة للخيول، وهو ما نراه متكرراً في أكثر من هدية، مثل سرج حصان مكسو بالقطيفة الزرقاء، ومطرزة حواشيه بخيوط الفضة، من رئيس البرتغال فرانسيسكو لوبيز في عام 1957.
وهناك أيضاً أكثر من تمثال لأحصنة مختلفة، منها واحد يمثل الملكة إليزابيث وهي على صهوة الحصان. كما يوجد مجسم لحصان الملكة «بورميز» (1962 - 1990) الذي تلقته الملكة من فرق الخيالة الملكية في كندا، وكانت الملكة تفضل امتطائه في كل استعراض للحرس منذ ذلك الحين حتى إحالته للتقاعد في عام 1986، وقد قام المثال سير مارتن أمبيولانس بنحت تمثال من البرونز لبورميز، وأهداه للملكة عام 1987.
وفي غرفة الحفلات الضخمة، وضعت الهدايا التي قدمت للملكة بمناسبة اليوبيل الماسي، الذي احتفلت به بريطانيا كلها، ويتصدر الغرفة شعار الملكية مصنوع من الفيبر غلاس، وكان مثبتاً على مقدمة البارجة الملكية التي استخدمت في احتفالات اليوبيل الماسي عام 2012. إلى جانبها، شعار مهدى من هيئة المواصلات بلندن، مكتوب عليه «باكنغهام بالاس»، وأهدي للملكة بمناسبة تدشين خط «إليزابيثان لاين» لقطارات الأنفاق، الذي سينطلق في عام 2018، ونسخة مصغرة لساعة محطة «سانت بانكراس» بلندن، أهديت لها بمناسبة افتتاح المبنى الجديد للمحطة في عام 2007. كما نرى جائزة «بافتا»، التي تمنحها الأكاديمية الملكية للفنون، والتي منحت للملكة تقديراً لجهودها في دعم الفنون في عام 2013، وعلم بريطانيا الذي حمله رائد الفضاء البريطاني تيم بيك، وأهداه للملكة في بداية العام، بحفل أقيم في قلعة ويندسور.
وندلف للغرفة التالية، وفيها يستكمل عرض الهدايا الدولية، وفيها نرى مجسم لشاحنة من باكستان مزين بالرسومات والنقوشات، وبصورة الملكة وزوجها الأمير فيليب، إلى جانب دمية شعبية من إندونيسيا، وبورتريه يصور الملكة باستخدام أوراق شجر الموز، هدية من رئيس رواندا في عام 2006، وقطعة من المكسيك تمثل شجرة حياة الملكة إليزابيث.
* هدايا عربية
الغرفة التالية تمثل الدول الآسيوية، وفيها احتلت الدول العربية جانباً هاماً ومختلفاً، يعكس الثقافة والتقاليد العربية. فهنا، نرى هدايا تعكس الكرم والثقافة العربية، مثل صندوق من البحرين مصنوع من اللازورد، ومجسم ذهبي يمثل ثلاث نخلات ذهبية تتدلى منها عراجين من التمر المصنوع من أحجار الجمشت، مهدى من الأمير سلطان بن عبد العزيز للملكة. ومن عمان، نرى خنجراً من الفضة، ومن اليمن، طقم من الحلي الفضية التراثية. وهناك أيضاً ساعة مكتب تعلوها رأس حصان من الكريستال، أهداه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان للملكة في عام 2010.
ومن مركز العلوم البحرية بالأردن، نرى عقداً تراثياً من العملات الفضية موضوعاً في علبه من الصدف تلقته الملكة في عام 1984.
والغرفة الأخيرة تمثل الدول الأفريقية، وفيها نرى علبة من الفضة يحمل غطاؤها نقشاً لسد سنار على النيل، وطائر وشجرة القطن التي تعد الصناعة الرئيسية في منطقة وادي مدني بالسودان، وتبرز سجادة مصنوعة باليد في منطقة الحرانية المصرية، كهدية تلقتها الملكة من مصر، إلى جانب مجسم للإله الفرعوني حورس.
* تحية للأميرة ديانا
وفي آخر غرفة في الجولة، نجد معرضاً صغيراً يحيي ذكرى أميرة ويلز الراحلة، بمناسبة مرور 20 عاماً على وفاتها. العرض يقدم تحية لديانا ولخدماتها لبريطانيا، عبر عرض لمكتبها مكتمل ببعض الأوراق التي تحمل خط يدها، والصور المختلفة التي تصور ديانا مع الأميرين ويليام وهاري، وبعض المتعلقات الخاصة بها، مثل حقيبة أوراق تحمل الحرف الأول من أسمها واسم عائلتها «سبنسر»، وحقيبة أخرى تحمل مجموعة من شرائط الكاسيت محملة بموسيقى وأغان محببة للأميرة الراحلة، كل ذلك إلى جانب الصور المختلفة لديانا خلال مراحل حياتها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)