«فليت ستريت»... مجد الصحافة البريطانية وأطلالها

«مطابخ» التحرير ومكاتب الصحافيين تحولت إلى غرف محامين ومصرفيين

صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
TT

«فليت ستريت»... مجد الصحافة البريطانية وأطلالها

صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)

تستقيم المباني من اليمين واليسار معانقة فليت ستريت. تلك المباني كانت يوماً مهداً لولادة مطبوعات بريطانيا. صنعت الصحافة مجدها هناك ثم هجر أهلها المكاتب وتناثروا. لا تزال المباني شاهدة على حقبة ذهبية عاشتها الصحف البريطانية العريقة. ولا يزال الشارع اللندني مزدحماً، لكن رواده اليوم تناثروا بين سياح ومحامين ومصرفيين.
زرت فليت ستريت الأسبوع الماضي على أمل العثور على أي أثر خلفه الصحافيون بعد عزوفهم عنه في ثمانينات القرن الماضي. مبنى «الديلي تلغراف» و«الديلي إكسبريس» أصبحا ملكاً لبنك «غولدمان ساكس»، ولم يتبقَ منهما غير ساعة التلغراف الشهيرة وطابع الإكسبريس المعماري المميز. كما تحول مكتب وكالة «رويترز» للأنباء إلى مطعم. المطبوعات الأخرى باتت مكاتب محاماة أو حتى بقالات.
لطالما ارتبط اسم فليت ستريت بالصحافة البريطانية المطبوعة، لكن ملامحه اليوم بددت ذلك الانطباع لدي مع أن تاريخه هو الذي استحقه لقب «شارع الصحافة». جلست لاحتساء القهوة أمام إحدى مقاهيه ولوهلة تخيلت نفسي هناك، لكن قبل 4 أو حتى 5 عقود. مراسلون يركضون إلى مكاتبهم لكتابة سبق صحافي في أمل التفوق على ما ستنشره الصحف المنافسة، رؤساء تحرير يتناولون وجبة الغداء في مطعمهم المعتاد على الشارع ذاته، وموظفو الطباعة يرشفون الشاي استعداداً لليلة طويلة من الصفحات والحبر. فجأة سألني سائح تائه عن الطريق إلى المترو وقطع رحلتي.

* تاريخ شارع الصحافة
في عام 1495، أنشأ وينكين دي ورد، أول مطبعة في «شو لين»، الممر المتقاطع مع «فليت ستريت»، وولدت في تلك الفترة أيضا دار نشر لريتشارد بينسون بقرب كنيسة سانت دنستان الواقعة على شارع فليت. وأصبح اسما دي ورد وبينسون مرتبطيْن بالكلمة المطبوعة والتنوير في بريطانيا منذ ذلك الحين. وتبعتهما مطابع ودور نشر أخرى إلى الشارع ذاته، وكان عملها الرئيسي هو توفير المواد القانونية لمحاكم العدل الملكية الواقعة في آخر الشارع، إلى جانب إصدارات نثرية ومسرحية.
وفي مارس (آذار) 1702، صدر العدد الأول من أول صحيفة يومية لندنية: «ديلي كورانت» من هناك، ثم صدرت الـ«مورنينغ كرونيكل». وبحلول عام 1712 أصبح في لندن 12 صحيفة مختلفة. وبمنتصف ثلاثينات القرن الثامن عشر ازدادت المطبوعات وأصبح لدى العاصمة البريطانية 6 صحف يومية، و12 صحيفة تصدر 3 مرات أسبوعيا، و13 صحيفة أسبوعية. وكان مجمل التوزيع الأسبوعي للمطبوعات مائة ألف نسخة، إلا أن النسخة الواحدة في تلك الأيام كان يقرأها نحو 20 شخصا.
شعبية الصحف قيدتها الضرائب المفروضة عليها في القرن التاسع عشر. لكن في منتصف القرن، أعفيت المطبوعات من الضرائب وأصبحت تكلفة النسخ لا تزيد على سنت واحد، مما شجع ولادة كثير من المطبوعات وتضاعف الشهية الشرائية. وبحلول عام 1880 وصل عدد الصحف إلى 15 جريدة يومية، و383 جريدة أسبوعية، إلى جانب «لندن غازيت» التي كانت تصدرها الحكومة.
وعلى مدار السنوات التالية تحول «فليت ستريت» إلى شارع الصحافة البريطانية وعصبها، وافتتحت جميع الصحف الشهيرة مقرات لها هناك في بدايات القرن العشرين، وانتقلت «ديلي إكسبريس» إلى بناية رقم 121 - 128 على الشارع عام 1931، من تصميم المهندس المعماري أوين ويليامز، وكانت أول بناية بحائط زجاجي «curtain wall» في لندن، وكانت جارتها منافستها «ديلي تلغراف» في بناية رقم 135 - 142 التي تتميز بساعة شهيرة لا تزال موجودة إلى يومنا هذا. وتربعت أمام الصحيفتين وكالة «رويترز» للأنباء بمبنى شامخ يعلو مدخله تمثال «الشهرة».
وصلت شهرة هذا الشارع لذروتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. كان القلب النابض للصحافة والمصدر الرئيسي للأخبار. وأطلق البعض عليه اسم «شارع الفضائح» لانتشار صحافييه ومراسليه في مطاعمه ومقاهيه بحثا عن تسريبات وقصص مثيرة من المنافسين. وكان مركزاً مهماً للمشوار المهني لأي صحافي في البلاد؛ إذ تدرج منه أعلام المهنة.
التكنولوجيا كانت محدودة في تلك الأيام والإرسال كان ضعيفا، فكان من الصعب إجراء الاتصالات، وكان اعتماد الصحافيين أيضا على الكتابة بالقلم، والاستعانة بالآلة الكاتبة لصف الأخبار. وكان لكل جريدة مطبعتها الخاصة القابعة في قبو البناية. لذلك لطالما وُجدت الشاحنات المحملة بلفائف الورق الضخمة وهي تحاول الدخول إلى الشوارع الجانبية لتوصيل شحناتها إلى المطابع. وكانت تعاود الكرة في المساء لتسلم الطبعات وتوزعيها.
* أهل الصحافة يهجرون مكاتبهم
بدأت سطوة شارع الصحافة في الانكماش، وغاب عنه الحبر تدريجيا، بعدما قرر روبرت ميردوخ، مالك شركة «نيوز إنترناشيونال» عام 1986، أن ينقل مطبوعاته «التايمز» و«الصن» و«أخبار العالم» إلى مقر جديد في «وابينغ»، بعيدا عن «فليت ستريت».
كان قرار ميردوخ ماديا بحتا؛ إذ رأى أنه من المستحيل أن تدر صحفه الأرباح في شارع كانت تحكمه سياسات الاتحادات المهنية التي كانت تعنى بحقوق عمال الطباعة والنشر والتوزيع، وأيدته آنذاك رئيسة وزراء البلاد المحافظة مارغريت ثاتشر. وقام ميردوخ بفصل جميع عمال الطباعة وتوظيف كادر جديد يعنى بالنشر الإلكتروني مع إدخال الكومبيوترات والتنقية الحديثة إلى مكاتبه الجديدة، مما أضعف موقف الاتحادات المهنية.
وأدى الأمر إلى خلاف شرس على مدار عام ومظاهرات تحولت إلى مواجهات عنيفة بين الموظفين ورجال الأمن على «فليت ستريت». لكن الأمر انتهى بهزيمة الاتحادات المهنية. وفي عام 1988، نُقلت كل الصحف الوطنية من شارع فليت إلى منطقة دوكلاندز، واعتمدت على طرق الطباعة الحديثة بالكومبيوتر، بدلا من الألواح المعدنية الساخنة، وأصوات الآلات الكاتبة. كما بدأت مطبوعات أخرى بالنزوح من «فليت ستريت» تدريجيا إلى كناري وورف وسوثارك. وكانت وكالة «رويترز» للأنباء من آخر الأسماء الشهيرة التي عزفت عن الشارع عام 2005.
ورحلت آخر مطبوعة شهيرة عن الشارع في أغسطس (آب) الماضي وهي «الصنداي بوست». وتدريجيا، استخدمت المباني التي خلفتها هذه المطبوعات استخدامات أخرى؛ بعضها أصبح محال تجارية أو مطاعم. كما أصبح الشارع مقرا لكثير من البنوك الاستثمارية والتجارية وشركات المحاماة الكبرى، لقربه من المحاكم الملكية. واستولى بنك «غولدمان ساكس» على مبنييْ «التلغراف» و«إكسبريس» الشهيرين. ومع أن الصحافيين هجروا «فليت ستريت»، إلا أن اسمه لا يزال مرتبطا بمسيرة تطور مجالات الطباعة والنشر في بريطانيا، والعالم، ليومنا هذا.
* ثرثرة صحافية على طاولة العشاء
 عُرف «فليت ستريت» آنذاك بوجود كثير من المطاعم والمطاهي التي ارتادها الصحافيون بشكل يومي. التقوا على مائدة الغداء أو العشاء مع منافسيهم من مطبوعات أخرى لتقييم المناخ الصحافي والتغيرات السياسية، وللبحث عن قصص وتسريبات. ومن أقدم وأشهر تلك المحلات مطعم «يي أولد تشيشاير تشيز» الذي تأسس عام 1666 وكان بقعة لكتاب شهيرين مثل تشارلز ديكينز وسامويل جونسون، ثم أضحى مع نشوء المطبوعات بجواره مقراً لهم.
عمل مايكل في المطعم منذ 50 عاماً، ولا يزال يشرف عليه إلى اليوم. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان جميع زبائننا من أهل الصحافة قبل أن يرحلوا عن هذا الشارع. وكان هذا المطعم هو المقر الأشهر الذي كانوا يرتادونه بعد ساعات الدوام أو في استراحة الغداء». ويضيف: «كان للمطعم هوية غريبة امتلكها طابع من الطبقية غير المعلنة». ويشرح الرجل السبعيني الإنجليزي مستطرداً: «كان يجلس الصحافيون والمراسلون دوماً في الطابق الأعلى من المطعم، بينما كان يتناول موظفو الطباعة وجباتهم في الطابق الأرضي، وعمال النظافة في المكاتب كانوا يجتمعون في الطابق السفلي (القبو)».
كان مايكل المشرف على طابق الصحافيين. وعن يومياته آنذاك يقول: «كان يرتاده محررون معروفون من المطبوعات المجاورة يتناولون العشاء وأطراف الحديث الذي كان يتحول أحيانا إلى نقاش صحافي أو سياسي ساخن». ويكشف أن صحافيي «أخبار العالم» التابعة لإمبراطورية روبرت مردوخ الإعلامية كانوا الأكثر صخباً ومشاكسة وكانوا يسهرون حتى موعد إغلاق أبواب المطعم.
ماذا عن رواد المطعم اليوم؟ يرد مايكل بحسرة: «تغير الحال اليوم وأصبح زبائن المطعم من المحامين وموظفي البنوك وأحاديثهم ليست شيقة كنقاشات أهل الصحافة». ويضيف: «يزور مطعمنا كثير من السياح بحثاً عن ذكريات شارع الصحافة. فضولهم يدفعهم لسؤالي عن أشهر الصحافيين والكتاب الذين جلسوا على مقاعدنا الخشبية لكتابة أعمالهم المميزة أو لتناول وجبة العشاء مع أقرانهم من أعلام الصحافة».
* الشارع شهد ولادة صحيفة «الشرق الأوسط»
قبل 39 عاما، وتحديدا في الرابع من يوليو (تموز) من عام 1978 ظهرت صحيفة «الشرق الأوسط» الدولية لأول مرة من ساحة «غف سكواير» الصغيرة المتصلة بشارع فليت ستريت، بعدما اشترت الشركة السعودية للأبحاث والتسويق عام 1976 وكالة «برس فوتو» وهي أقدم وكالة صور صحافية بريطانية، واشترت أيضا المبنى الذي كانت تشغله تلك الوكالة. وأصبح مقر الشركة موطئ القدم الأول للمجموعة السعودية في بريطانيا ومهدا لولادة صحيفة العرب الدولية، الخضراء.
هذه الساحة كانت تعبق بالتاريخ والذكريات ففيها وضع العلامة البريطانية ساميول جونسون قاموسه الأول للغة الإنجليزية في المبنى المجاور. وكان فليت ستريت في تلك الحقبة القلب النابض لصناعة الصحافة البريطانية، ولعل ذلك المكان أغرب مقر لتبدأ منه ثورة الصحافة العربية.
عين الأخوان الناشران هشام ومحمد علي حافظ الصحافي جهاد الخازن ليتولى رئاسة تحرير الصحيفة وطلبوا منه بناء كادر مؤهل لإطلاق «الشرق الأوسط». وظهر العدد الأول من الصحيفة متأخرا ساعات قليلة عن الموعد المحدد وكانت تلك السويعات كافية لإفساد البرنامج المعد للتوزيع، وتم استئجار طائرة لتوصيل 40 ألف نسخة إلى السعودية. ولكن في عام 1980 كانت «الشرق الأوسط» من أوائل من اعتمدوا على إرسال الصفحات عن طريق الأقمار الصناعية.
في بداياتها، تألف كادر الصحيفة من عائلة صغيرة منهم عرفان نظام الدين الذي شغل منصب مدير التحرير، وعادل الأحمر سكرتير التحرير، وضمت أسرة التحرير حافظ إبراهيم خير الله وعبد الباري عطوان وحافظ القباني وحسن فؤاد وعادل صلاحي وعادل بشتاوي ووفائي دياب وحسن لقيس ومتعاونين من «بي بي سي». إلى جانب الموظفين الآخرين كالخطاطين وصفافي الأخبار وقسم الإنتاج والتركيب.
وعندما انطلقت الصحيفة، جاء العدد الأكبر من فريق الإنتاج من لبنان، حيث كانوا يعملون في مطبوعات مثل "النهار" و"الحياة" و"الديلي ستار". وكان محمد الملاح رئيس فريق الانتاج، وظل يعمل في "الشرق الأوسط" حتى تقاعده. وأحضر الملاح معه ابن اخيه، واسمه ايضا محمد للعمل كمصور.
ولا يزال البعض من طاقمها المؤسس جزءا من أسرة «الشرق الأوسط» اليوم. منهم إياد أبو شقرا مستشار هيئة التحرير الذي انضم إلى الصحيفة في يوليو (تموز) عام 1979. ويتذكر أبو شقرا لندن والصحيفة في تلك الأيام بقوله «كنا كالعائلة وكانت لندن في تلك الأيام مدينة هادئة (تنام) في عطلة نهاية الأسبوع والمحلات تغلق أبوابها مبكرا لذا كنا نمضي أوقاتنا مع بعضنا البعض». وعن تجربته في غف سكواير يضيف، «كان حلم حياتي أن أكون من أحد صحافيي فليت ستريت، وتحقق ذلك... مؤسسات مثل رويترز والديلي تلغراف والديلي إكسبريس... كنت أسمع عنها في الإذاعة ومن ثم بات مقر عملي جارها». ويكشف الصحافي اللبناني أنه «وسط المطبوعات البريطانية العريقة، كانت تتربع («الشرق الأوسط») على ذات الأكشاك والأجانب عرفوها بلون صفحاتها الخضراء». ويستطرد، «في تلك الأيام لم نشعر أننا غرباء عن باقي قاطني الشارع، بل شعرنا أننا جزء من المنظومة الصحافية».
الصحافي المصري حافظ قباني كان حاضرا من قبل موعد إصدار الصحيفة وتولى الدوليات في بداياتها كما تسلم لاحقا إدارة قسم الترجمة. ويتذكر أيضا البدايات ويقول «العلاقات الإنسانية كانت وطيدة والمناسبات التي كانت تقيمها الشركة كانت مميزة». ويضيف، «كنا في بادئ الأمر نتناول الغداء من المطعم التركي لعدم إلمامنا بالمطبخ البريطاني، لكن بعد فترة تمكنا من اكتشاف المطاعم الأخرى منها مطعم (يي أولد تشيشير تشيز) الذي اشتهر بزبائنه من أهل الصحافة». ومن ذكرياته في فليت ستريت اكتظاظه بمركبات الشحن الخاصة بالمطابع التي كانت توزع الورق، والأمسيات التي كان يقضيها في نادي الصحافة الدولي لحضور فعاليات ثقافية إلى جانب أبرز الصحافيين.
نديم فرحات، رئيس قسم التنفيذ في «الشرق الأوسط» انضم لعائلتها بعد ثلاثة أشهر على تأسيسها عندما كانت الطبعة تتألف من 12 صفحة فقط. ويكشف أن عملية تركيب الصفحات حينذاك كانت معقدة جدا بقوله «كانت تأتي المادة من المحرر إلى صفيف الأخبار الذي كان يطبعها ثم يحمضها، ثم كنا نفصل العنوان ثم نضع المادة على الشمع ونقصها بالشفرة وننظف حوافها بالبنزين ونرسلها للطباعة. كانت مهمة معقدة». ويضيف «تذكرني رائحة الشمع والبنزين في تلك الحقبة التي لطالما كانت لدي جروح طفيفة على أصابعي فيها من شفرة التركيب». ويستطرد، «كان عددنا كبيرا وكان لدينا ثلاثة خطاطين لكتابة العناوين من ضمنهم زميلنا الحالي عبده الريس».
ويتذكر يومياته في قسم التركيب ويقول «كانت مليئة بالإبداع والاعتماد كان على المهارات اليدوية وليس الكومبيوتر وأعتقد أنني أصبت بالإحباط عندما أدخل الكومبيوتر إلى مجال التركيب لأن العمل اليدوي كان يستهويني».
وحول مقر الصحيفة بجوار المطبوعات البريطانية يقول «ولو اختفى أحد الموظفين في تلك الأيام من المحررين أو المركبين كنا نبحث عنه في أحد تلك المطاعم. ومن أشهرها مطاعم (الفيش أند تشيبز)». ويتذكر اليوم الذي تزوجت فيه الأميرة ديانا من الأمير تشارلز ويقول «اكتظ شارع فليت ستريت بالصحافيين والمصورين يتنافسون لالتقاط أفضل صورة للثنائي الملكي عند مرور موكبهم المتجه إلى سانت بولز».
مع أن المخرج الفني لدى صحيفة «الشرق الأوسط» عادل نعمان لم يبدأ مسيرته في المطبوعة منذ انطلاقها، إلا أنه كان شاهدا على ذكريات غف سكواير من خلال عمله مع مطبوعات المجموعة السعودية الأخرى مثل «سيدتي» و«المجلة». كان يستقل سيارته إلى العمل، الأمر الذي اعتبره ميزة مقارنة بزحمة وسط لندن اليوم. وعن يومياته في فليت ستريت يقول «أتذكر المطاعم المجاورة التي كانت تقدم أطباقا منزلية من المطبخ الإنجليزي. تلك الأطباق تماشت مذاقاتها مع طابع شارع الصحافة البريطانية». ويضيف، «أشتاق إلى غف سكواير نفسه، رونقه كان مميزا جدا وكانت أياما جميلة أمضيناها هناك».
التحق أبو بكر بـ«الشرق الأوسط» عام 1983 كساعٍ أو مراسل. وعن تلك الأيام يقول «كانت («الشرق الأوسط») منذ انطلاقها حديث الناس في فليت ستريت لأنها المطبوعة العربية ذات الصفحات الخضراء وهكذا اشتهرت وعرفها العرب والأجانب». ويضيف، «عندما بدأت كان الصحافيون يكتبون بالقلم وكانت وظيفتي أن أوصل المقالات إلى قسم صف الأخبار ومن ثم إلى قسم التركيب وكانت عملية طويلة وشاقة». ويستطرد، «كما كنت أنتظر وصول الصور من الوكالات وإيصالها للمحرر المناسب وحتى كنت أزور مكتب أسوشييتد برس لتسلم الصور منهم. كنا نكد قبل التطور التكنولوجي لكن تاريخ بدايات المطبوعة من أسباب نجاحها وسمعتها اليوم». ويختتم حديثه، «اليوم لدينا ساعيان في («الشرق الأوسط»)، في تلك الأيام كان عددنا 12».



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».